مراجعة كتاب: النظام السياسي في مجتمعات متغيرة

الجزء الأول

ما قبل الكتاب:

 ننطلق من اختيارنا لهذا الكتاب “النظام السياسي في مجتمعات متغيرة” ( Political Order in Changing Societies) لمؤلفه صاموئيل هانتنغتون Samuel Huntington،  الذي يقع في 300 صفحة أولا محاولة لإثراء حيز التساؤلات في هذا العمل الأكاديمي ذي القيمة التنافسية المتراكمة إلى يومنا هذا، وثانيا من باب تسليط الضوء على أبرز المعادلات السياسية الاجتماعية التي تبرز الحاجة إليها مع حجم التعقيد الطردي في عالمنا، ورجّحنا في اختيارنا في هذا المقال موضوع (النظام السياسي والانحلال السياسي) من بين أجزاء الكتاب الثلاث من اعتبار أن جُلّ الأفكار والتصورات الأساسية التي أسس لها في هذا العمل من ناحية فهم المقاربات المقارنة الرئيسة بحيث تجمعت في جزئه الأول بشكل نوعي وكمي،  وذلك ما سنوظفه لمصلحة توسيع حيز التساؤل لدى القارئ بشكل أكبر ومساعدته في القرب من عالم السياسة وحقل السياسة المقارنة.

في الكتاب:

 غاب اسم هانتغتنون وأي مساهمة له عن تصوراتي وفهمي للوقائع وطبيعة البنى السياسية والاجتماعية حتى ارتطم وقع تأثيره مرة وللأبد على منهجيتي المستقبلية في محاضرة جامعية في تخصص العلوم السياسية في مساق تخصص جامعي يُسمى (النظرية الديمقراطية) أو إن صح التعبير من قِبلي ومن قِبل القارئ بعد تناول هذا المقال أو المراجعة التساؤلية لهانتنغتون أن المادة الجامعية تدعى (نظريات ديمقراطية) وسنصل سويا في نهاية العمل إلى استنتاج أو تصور مشابه سويا،  حيث كنت مندهشة في مساق الديمقراطية ككل بحجم اتساعه وتعقيده وسط رغبتنا الملحة في تبسيط وقائعنا، لكن مع افتتاحية هانتنغتون الشهيرة “التمايز بين الدول ليس بنمط الحكم بل بدرجة الحكم” استحضرت وابلا من التساؤلات التراكمية حول ما درجة هذا الحكم وكيف يتم تحديدها؟ هل شكل النظام فعلا يمكن إهماله؟ هل نحتاج لقبضة سلطوية؟ ماذا نعني بالمؤسسية؟ لماذا نريد أن نقارن بين الأنظمة أصلا؟ هل تملك الدول خصوصية أيضا؟ والكثير والكثير من التساؤلات الأخرى التي ستبقى حاضرة في ذهني دائما من خلال هذا العمل والذي يصعب القول أن قراءته مرة واحدة تكفي لكنها بالطبع تكفي لغرض بدء عوالم فكرية جديدة في التحليل السياسي.

من هنا ننطلق من إفادة المتخصص في حقول السياسة والعلاقات الدولية ومشجعين إياهم على قراءة الكتاب قراءة فاحصة متأنية مع الاطلاع على المنهجية والنماذج الواسعة التي استخدمها هانتنغتون، أما لغير المتخصص نحاول إعطاءه إضاءات تساعده  على عدم حصر الوقائع السياسية التي يلحظها على الصور المنقوصة التي ارتبطت بها الأنظمة والتنظيمات بأشكالها الحالية أو السابقة، ولربما ونحن بصدد أن يكون هذا الكتاب مقدمة فضول معرفي يقود لمزيد من التفكير العملي المتراكم وقليل من التنميط البنيوي السلبي.

 يجدر بالذكر أن إطلاق الكتاب جاء في العام 1968 في فترة حرجة من فترات النظام العالمي الذي كان يداوي جراحه بعد الحرب العالمية الثانية، كانت المقاربات والنتائج التي توصل لها هانتنغتون والتي تدور فلك أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية في فترة الخمسينات والستينات مع تصورات مقارنة مع الأنظمة المعصرنة مثل الولايات المتحدة، واتخذ الكتاب طابع التحليل الكمي حيث تتبع هانتنغتون العديد من العوامل التي سنذكر (قواعد) مرورها بدون تطرق لكل حالة على حد سواء كون الكلمات لن تسعفنا والفترة الزمنية البعيدة تحتم أخذ الخلاصات السياسية ومحاولة فهم أبعادها وطرائقها في عالم اليوم ومحدداته المختلفة وطرح التساؤلات كما بدأنا هذا الطرح في المقدمة، وسيلحظ القارئ أننا سندرج الانتقادات كما التساؤلات و الإعجاب بالأفكار ما بين السطور وخلالها ليكون القارئ على نفس التناغم التحليلي مع بدء سؤالنا وانتهاء محاولة إجابتنا.

 في المؤلــف:

هانتنغتون هو عالم سياسي أمريكي ومستشار لمختلف الوكالات الحكومية الأمريكية،أكمل دراسته في البكالوريس في جامعة ييل 1946 ثم التحق بالجيش، بعد ذلك التحق بجامعة شيكاغو وحصل على الماجستير 1948 وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفرد 1951. شغل العديد من المناصب الإدارية في المعاهد الأكاديمية حتى بدأ مسيرته المهنية كمتخصص في السياسة الأمريكية وتشعب في أبحاثه في السياسة المقارنة والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، من أهم وأشهر أعماله هو النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة  1968 حيث عدّه العالم الشهير فرانسيس فوكوياما[1] كتاباً محورياً،  وزخمت المقالات[2] حول ضرورة قراءته ونقده وتحليله، ومع التغييرات البنيوية على الصعيد العالمي شهدنا عمله الشهير مقالة ثم كتاب صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي 1996  وهو من المؤلفات الشهيرة والمتداولة بين خطاب الصعود الأيدولوجي والصراع القادم المرتقب دائما، وقبل ذلك جاء كتابه الشهير عن الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في نهاية القرن العشرين، ويعتبر من الكتب المهمة والمفتاحية في النظريات الديمقراطية، وغيرها من كتب مهمة ونوعية، مثل كتابه “من نحن: التحدي للهوية الوطنية الأميركية”.

-1-

الهوة السياسية

 عود على بدء فقد لفتني في هذا الحقل بالجملة الشهيرة التي يفتتح بها جوهر سطور كتابه “التمايز بين الدول لا يتعلق بنمط الحكم بل بدرجة الحكم” انطلاقا من إحداثيات تلك الفترة الزمنية فقد خصص هانتنغتون تأطيره الأولي لمسار الكتاب بمحاولة إسقاط تلك الجملة على أبرز قطبين سيكونان أصحاب التأثير الأوضح ألا وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بكل ما يحملانه من اختلافات أيديولوجية فإن كليهما حسما أشكال البنى الوظيفية وكيفية تسيير أعقد المؤسسات التي تربط الفرد والجماعة بالدولة وتخلق الولاء وقرار التنفيذ، وعلى العكس تماما هنالك دول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ينقصها الأساسيات الحيوية لما قبل المؤسسة وأي محاولات تطورية في شكل الأنظمة حيث تصطدم أيضا بمراحل أعقد في البنىة السياسية للمؤسسة وطبيعة السلطة.

 ولعل السلطة لا تنفصل عن واحد من  أهم العناصر التي سنبقى نتداولها طيلة المراجعة وهو العامل الاقتصادي، فبدءَ من عدم التكافؤ الاقتصادي الذي تأسس ضمن معادلة مؤسسية عالمية فصلت الدول لأنظمة متقدمة وأخرى متخلفة في بيئة متسارعة وأنظمة مضطربة تسعى للوصول لشكل سياسي غير محدد الملامح مما سبّب حالة عنف وعدم استقرار، وهذا كان واحد من أكبر الأسئلة التي طرحها هانتنغتون، حيث أول مسلك سنبدأ به هو انطلاق المؤلف من أن حالات العنف وعدم الاستقرار وصعوبة تحقيق أي تقدم هي نتاج التغير الاجتماعي السريع والدخول المفاجئ لفئات جديد في مجال السياسة وذلك ضمن مؤسسة سياسية تطورها بطيء ولم تلحق بالسرعة المطلوبة ( لم يتلاق الزمنان بين المؤسسة والجماعات) ضمن عصر  يفرض وتيرته السريعة على الجميع ودول ضخمة حسمت معادلاتها الاقتصادية والسياسية لتفرضها على الباقي.


 بعدسة اليوم : إذا أردنا أن نقوم باستحداث طرائق اقتصادية أو سياسية واستدخالها بمؤسساتها سواء بسبب حرب أو حالة ثورات وتوتر إقليمي أو بلبلة داخلية، فإن الأمور ستؤول بالمحصلة لحالة عنف وعدم استقرار طالما لم يتم التأسيس والتمهيد لبنى مؤسسية تحتوي التغيير الحاصل وتحتوي الرغبات الشعبية بسقف طموحات تستطيع الحكومة ملأه بشكل جيد،  مع استيعاب فكرة أن الحكومة بمؤسساتها عليها ألا تخلف المسير بالحد الذي يسمح لها بفرض سيطرتها على نحو دائم، وذلك قد يجعلنا نتساءل إن كان يتطابق الذكاء الاصطناعي وانفجاره السريع اليوم مع رغبات شعوب الدول النامية بأن يكون جزءاً  من منظومتها ؟ وإن كانت رغبة صريحة لديهم فهل المؤسسات جاهزة لاحتواء هكذا تطور مهول؟ أم المؤسسات أصلا متأخرة وتأخرت معها رغبة الشعوب بأي تطور جديد؟


 لعل شكل التجربة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية بما تمتلكه من حالة نمو اقتصادي واستقرار سياسي ساهمت بتحويل بوصلة المناطق التي استقلت حديثا والتي كان ينقصها الكثير مؤسسيا، فإن نظرة المنظومة الأمريكية (كما بنى هانتنغتون تفسيره عليها بالكتاب) كانت منبثقة من انعكاس هدوء (تجربتها وسياقها) بأن تحقيق أي استقرار سياسي سيكون نتيجة منطقية وحتمية للتطور الاقتصادي أولا ثم سيأتي تلقائيا الاصلاح الجماعي، فكانت المعادلة الأمريكية في الخمسينات كالتالي:

 (معونات اقتصادية = تطور اقتصادي = استقرار سياسي)، اعتبر هانتنغتون أن التطور الاقتصادي والاستقرار السياسي فعليا أهدافاً مستقلة، وأي خطوة لتحقيق أحدهما لا تؤدي بالضرورة للهدف الآخر، فيمكن أن يساهم العامل الاقتصادي بتسهيل مرور فترة سياسية معينة، وقد يشجع الاستقرار السياسي على النمو الاقتصادي، لكن قد يتم إعاقة التجربتين أيضا لأن الصورة غير مكتملة الأركان بهذا الشكل، وليست معادلة نهائية بالمقام الأول.

 ولعل فهم المعادلة الاقتصادية والسياسية قبل فهم التأطير المؤسسي سيساعدنا بتحليل العوامل المفقودة من المعادلة بشكل نسقي واعتبار أن هانتنغتون بالطبع انطلق من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي نظرا لحجم النفوذ الواسع كأقطاب دولية ترسخ مكانتها آنذاك وتوسع دائرة نفوذها بالدول الحليفة لها، وفي إطار الحديث عن المعونات وبرامج الدعم الاقتصادي فيمكننا هنا أن نستحضر فلسفة هذه المساعدات التي تجعلنا نتساءل حول جدواها سياسيا بترسيخ أي مُثل يحتاجها النظام ولنا في كتاب قانون الشعوب لجون رولز خير مثال حول فلسفة قانون الشعوب وقد نجد هناك ربط بين كلا الكتابين بهذه الجزئية تقريبا، حيث يكون تطور الدولة بمأسسة العمل السياسي لا القروض والمساعدات المادية التي دائما ما تكون محل شك شعبوي ولا تملأ أي فراغ سياسي أو توهم البعض بملئه.

-2-

المؤسسات السياسية ، المجتمع والنظام السياسي

  1. القوى الاجتماعية والمؤسسات السياسية

 عند البدء بالعمل على نظام سياسي في دولة X   ينبغي فهم قواعد الاجتماع السياسي الخاصة به، فإن وجدنا قواعد  عرقية ودينية مبني عليها النظام السياسي بحلته التقليدية فهنا تكون معادلة التطوير مختلفة حيث على النظام أن يبدأ بتوظيف هذه الجماعات والتنظيمات لتخفيف حدة السرعة الناجمة عن التغيير الحاصل، فإن تمكن من احتواء الاختلاف القديم وتوليفه مع الاختلاف الجديد وعمل على تنظيمه، فسيكون العبور أسهل للمرحلة الجديدة للنظام،  وإن وُجِد في داخل النظام أكثر من جماعة بنفوذ واسع ولهم سبل بإقناع الجموع داخل الدولة فإن احتواء كلا الطرفين والإبقاء على قدراتهما التنظيمية محوري هنا،  لكن بشرط ممارسة سلطة هذه الجماعات عبر المؤسسات السياسية التي تعمل على تجميع هذه الوحدات تحت مظلة واحدة تصبح بها المعادلة الآتية أكثر تماسكا :المؤسسة السياسية = القوة الاجتماعية؛ ذلك أنّ وجود انسجام وروابط تؤلف الجماعات هي ضرورة، فيكون أكبر دور للمؤسسات هو تحقيق أهداف مشتركة للجميع، وقد ركز هانتنغتون في سطوره على أن المؤسسات هي التعبير السلوكي للإجماع الأخلاقي والمصلحة المشتركة؛ وهي كما ربطناها مع الجماعات هي نتاج التنوع الحاصل على عدة محاور مما يجعل من الاعتماد على المؤسسة أكبر في التوصل لمستوى عالٍ من التجمع والمحافظة على ديمومته في ظل عصرنة وتطوير يحتاج مواكبة حثيثة وليس مياومة مؤسسية.

  1. موازين المؤسساتية السياسية

عرّف هانتنغتون المؤسسات بأنها أنماط من السلوك الثابت والمقيّم والمتواتر، أما المؤسساتية هي العملية التي بها تكتسب التنظيمات والإجراءات حتمية وثبات، حيث إذا وجد لدي نظام D  الذي يحتفظ بإرث مؤسسي قادر على التكيف في العديد من التحديات بمقابل نظام K  الذي كانت إجرآته غير حاسمة لا تتماشى مع حدة الظروف التي يمر بها وهنا إن تمكنا من معرفة باقي موازين عمل المؤسسة في كلا الحالتين نتمكن من المقارنة بين الأنظمة السياسية اليوم خلال فترة كوفيد على سبيل المثال وليس فقط في فترة الستينات.

لنتناول أبرز  مقاييس المؤسساتية التي نظّر لها هانتنغتون:

        أ) التكيف –  التصلب

كلما كان مستوى التكيف عاليا في التنظيم أو الإجراء كان هذا التنظيم أو الإجراء على مستوى عالٍ من المؤسساتية؛ ومع تناقص تكيفه وازدياد تصلبه ينخفض مستواه المؤسساتي حيث يّعد التكيف صفة تنظيمية مكتسبة، والتحديات تساعد على صقل التجربة المؤسساتية أكثر ويساعدها في التحديات اللاحقة، هناك عدة عوامل مهمة لفهم عملية التكيف، أولها:  عامل الفترة الزمنية يلعب دور باحتمالية رسوخ وبقاء المؤسسة بشكل أكبر، أي عندما يكون التطور السياسي بطيئاً، لكن أقدر تنظيما يكون عبوره أسهل، إلا إذا تأسس البناء المؤسسي وسط نزاع وثورة وتحتم عليه الاستجابة للتغيير الحاصل، ثانيا:  عامل الأجيال في المؤسسة الذي يعتبر أن بقاء الجيل الأول من القادة لفترة أطول يطرح أسئلة حول إمكانية بقاءه مع تقدم الأجيال الجديدة فأي انتقال سلمي للسلطة بقادة من جيل آخر فهو أرقى مستوى مؤسسي لكن التحول لأفراد مغاييرين من نفس الجيل يعتبر جيد كتغيير، لكن الجيل الجديد هو شكل من أشكال التكيف المؤسساتي.


بعدسة اليوم : هنا قد نطرح سويا سؤال أن الجيل القديم قد يسلم الراية لجيل جديد من صُلب الفلسفة القديمة التي قد تكون معيقة وغير متعصرنة ويكون التغيير شكلي مظاهري بدون أي فروقات جوهرية فتصبح وراثة المؤسسة هي الأصل والتكيف لديها  كضرب من التكرار لملئ فراغ لا يُراد تغيير ماهيته وهذه من بعض الانتقادات التي تُوجه لتنظيمات مثل الأحزاب في الدول الشرقية والعربية خاصة.


أما ثالثا : وظائفيا  حيث في الغالب الأعم يكون للتنظيم وظيفة محددة ولكن مع التطور بأشكالها قد تزول الحاجة لهذه الوظيفة وهنا يطرأ على السطح سؤال الحاجة لبقاء التنظيم نفسه في ظل غياب الوظيفة؛ لكن في حالة التكيف فإن التنظيم الذي يستجيب للتغيير في البيئة والهياكل ويطور ذاته بحلة جديدة يكون فيها التنظيم كالوظيفة فهذه تعد أعلى درجات المؤسسية التي تمكن التنظيم من تجديد نفسه وبقاء فلسفته المتجاوبة مع كل ما يطرأ، ولعل أبسط مثال شاركه هانتنغتون هو مثال حزب الاستقلال في دولة ما نالت استقلالها فإن تحولها لحزب يسعى لخوض معترك بناء الدولة هو أسمى شكل تطوري بدل من انتهاء وظيفتها.

ب) التعقيد – البساطة

 كلما زاد التنظيم تعقيدا ارتفع مستواه المؤسساتي مثل مضاعفة الوحدات التنظيمية التي قد تساهم في تسهيل عملية الاستجابة للمتغيرات الحديثة بفضل الهيكلة المعقدة التي تعمل كوحدة واحدة في مهامها المتنوعة كل حسب تخصصه وحاجته للتناغم أثناء الاستجابة حيث قد يشهد التنظيم ثبات أكبر أيضا، وكلما زاد التنظيم عدد أهدافه خسر أقل من التنظيم ذو الهدف الواحد  الذي قد لا يحتمل أي تغيير خاصة الذي يأتي من عدة جبهات تعمل على اختراقه.

ج) الحكم الذاتي – التبعية

 التأثير والاستقلال في ذات التنظيم مؤشر مهم جدا في فهم المؤسسية؛ ولنا في السلطة القضائية خير مثال باستقلالها وتعزيز قيمها  بذاتها، حيث يحصل في كثير من الحالات أن تتداخل مؤثرات داخلية كانت أم خارجية تحاول اختراق هيكل نظام ما سواء فكريا أو عن طريق فئات تدخل حديثا على بنية الساحة السياسية وكون النظام بحد ذاته يفتقر لأبجديات الحكم الذاتي في هياكله المؤسساتية فسيشهد تكرار في مثل هكذا اختراقات:


 بعدسة اليوم : قد نشهد أن بعض الأنظمة يسهل إحداث اختراقات في صفوف شعوبها نظرا لعدم قدرة النظام على تأسيس آليات تحميه من التدخلات بأشكالها أو لعدم قدرته على  استيعاب ما هو جديد تحت سقفه المؤسسي بدون حالة هلع ورفض تعمل على تأزيم الواقع مع الفئات التقليدية داخل اللعبة السياسية أو على مستوى النطاق المؤسسي المعتدل.


        د) اللحمة والتفكك

كلما ازداد التنظبم  بشكل أكثر وِحدة ولُحمة كلما ارتفع مستواه المؤسساتي ومع تزايد تفكك التنظيم يتدنى هذا المستوى، ولعل هذه المعادلة تعتبر من المسلمات في الفكر الإنساني. ولكن ضمن عدسة اليوم: إذ لم تجد التنظيمات المؤسسية مبادئ وقيم (مشتركات) تجمع بها أفراداها ضمن معادلة وجود مستمرة وليست لحظية فإن سقوطها يكون مسألة وقت.

  1. المؤسسات السياسية والمصالح العامة:

لا يقتصر مفهوم المؤسسات السياسية على البنى وتوظيفها فقط، بل إن المؤسسة أيضا ترتكز على العامل الأخلاقي الذي يحول دون إطلاق العنان للرغبات الشخصية السلبية والأنانية في مجملها في عالم متصارع في كل ثنايا طبقاته وأوجه تعاملاته، وفي ذلك السياق فإن المصلحة العامة التي يجب أن تكون فوق كل شيء ليست موجودة بشكل بديهي وسلس من تلقاء نفسها سواء عن طريق قانون طبيعي أو إرادة شعبية أقرتها لحظة ما، ولعل كل المشكلة تقبع في اللحظة التي نريد تمرير طموحاتنا الزمنية بها لأنه وفق عدسة اليوم : إن المصلحة العامة هي ما توجده المؤسسة وتنظيمات الحكم وتعمل على تجديد بنيته بشكل مستمر لأنها أولا وأخيرا عملية للمدى الطويل لا القريب، وإن أي إشكاليات في عالمنا العربي تأتي نتاج مصلحة عامة تأتي في لحظة وتغيب عدة لحظات وفق غياب الخطوات المؤسسية المنهجية لمتابعة نقاط عمل متجددة وعند إدراك معادلة المصلحة العامة = مصلحة المؤسسة فهذا يجعل الاستثمار في مدى استمرارها وتثبيتها من أولويات أي بناء مؤسسي بكل المستويات.

 المصلحة العامة تخلق مشتركات وهذه المشتركات تعني تبادل في الاعتمادية بين الأفراد داخل الدولة مثلا مما يولد ثقة جيدة يمكن الركون إليها، وأي دول تفقد هذه التوليفة تجد أن شعوبها تنزع لجماعاتها الفئوية مما يدل على عدم وجود رغبة لأي شكل تعاوني تحت مظلة أي مؤسسة تجمعهم.


 بعدسة اليوم : أي مجتمع يفتقر لخلق تبادلات اجتماعية بسيطة مبنية على الثقة المتبادلة لن يجد هياكل معقدة في تنظيماته المؤسسية التي تقود عصرنته بسلاسة وثقة بالمؤسسة والمؤسساتية ككل على انتشال المرحلة وتطوير مخرجاتها وتجاوز صعوباتها.


-3-

المشاركة السياسية :  العصرنة والانحلال السياسي

أ) العصرنة والوعي السياسي:

استخدم هانتنغتون العصرنة في سياق التمدن والتصنيع والعلمنة وتطبيق الديمقراطية والتعليم ومشاركة وسائل الإعلام، حيث وافق هانتنغتون مدرسة التحديث التي تؤمن بالشروط المسبقة Pre-conditions   في جزئية أن أي تغيير  يتطلب ترابط هذه العوامل لما تجلبه من نتائج سوية، ولمدى تأثيرها الاجتماعي والاقتصادي في القيم والسلوكيات المتطورة ككل، لكن هنا أيضا كان أكبر انتقاد عند هانتنغتون وجهه لمدرسة التحديث – كتابه الموجة الثالثة يستفيض بهذه النظريات أكثر- أنها تتجاوز هشاشة المراحل الانتقالية التي تحتاج من خلال العصرنة السياسية إلى بنى متخصصة وتغييرات أهم ما فيها أنها متدرجة وحتى مع التدرج سيكون هناك صراع بين القديم والجديد ما ينجم عنه تكسير بنى المؤسسات التقليدية مما يؤدي إلى صدمة مجتمعية تحتاج إعادة معادلة مع ولاءات ورموز جديدة تتغلغل في الساحة السياسية لتمنع تطور مظاهر العنف نتاج التغيير.

ب) العصرنة والعنف

تعد العلاقة  بين العصرنة والعنف معقدة بحيث تكون بأسوأ أشكالها في الطابع التقليدي، وبالتالي في أكثرها استقرارا في المجتمعات الأكثر عصرية ، وكما أشرنا في النقاط السابقة فإنّ التطورات السريعة التي تحدث وترتطم ببنى غير قابلة للاستجابة تؤدي لحالات عنف وبالتالي لعدم استقرار؛ فإن المنطق هنا أن الدول الفقيرة على سبيل المثال ليست غير مستقرة لفقرها إنما لمحاولتها أن تكون غنية، فموجة العصرنة في القرن العشرين التي ما زلنا نعيش أمواجها المتدفقة اجتاحت مفاصل الدول وزادت من المراحل الانتقالية للمجتمعات مما أحدث زلزالاً في بنيانها مولدة حالة عنف وهي في إحدى صورها تنتج عن النمو الاقتصادي السريع الذي يؤدي لتحول التكتلات التقليدية من عائلة وعشيرة وغيرها إلى تكتل درجة ثانية أي تغيير في البنية المعتادة واستخدم هانتنغتون أيضا وصف مهم هو ( أثرياء محدثي النعمة) الذين سيبدأون بطلب نفوذ أكبر ومكانة تليق بمواقعهم الاقتصادية الجديدة وتبدأ الطبقات تتداخل وتتصارع.

ج) العصرنة والفساد

 أعطى هانتنغتون تحليلا وافياً حول الفساد وفهمه على أنه ظاهرة موجودة في كل مكان وقد تبرز في فترة في عمر الدولة أو المؤسسة دونا عن دولة ومؤسسة أخرى ، اعتبر أن العصرنة قد تسهم بالفساد كون الصراع الانتقالي يعطي مساحة أكبر لممارسات الفساد ،حيث أدوات العصرنة تخلق مصادر جديدة للثروة ومواقع سلطة محدثة مما يعني فئات جديدة. وبشكل يدعو للتفكير صوّر هانتنغتون أن الفساد  قد يكون وسيلة لاستيعاب الفئات الجديدة داخل النظام في المراحل التي يعجز فيها عن التكيف، وقد يكون ما بين الفساد والاصلاح بدائل عن الثورة ومسبباتها من حيث إسهام الفساد بتقليص ضغوطات الجماعات من أجل استدخال تغييرات على السياسة كما يسهم الإصلاح بتقليص الضغوطات الطبقية لإدخال تغييرات بنيوية بشكل ما.


بعدسة اليوم : قد يعتبر هذا التصور عن توظيف الفساد سواء في الستينات أم في القرن 21 محض تجربة بيد من يستخدمه قد تكون مظاهر الفساد عائمة بشكل لا يُرى بالعين الشعبوية وقد يتم تكثيف استخدامه لدرجة تردي المنظومة المؤسسية حتى انهيارها.


   إذا كان الفساد أكثر تفشيا في الدول المفتقدة للأحزاب والتي تقبع تحت نظام العشيرة والعائلة، ففي الدول نفسها تكون الأحزاب هي انعكاس لمرآة السلوك المؤسسي من قبل التراكم الاجتماعي المصاحب لبقايا مظاهر الأشكال التقليدية في أسوأ مظاهرها، أما إن تناولنا مفهومه على أن الحزب هو الهيكل التنظيمي التي تركن الدولة إليه كمنهج تستقل فيه المؤسسات الأخرى الطريق للعمل؛ فإن الحديث هنا يكمن عن ضرورة مأسسة الفكر المؤسسي بإرادة سياسية تستحدث أجيال جديدة قابلة للتعلم وتُكثف ترسيخ المبادئ الضرورية ضمن بيئة تسعى للاستقرار وتقبل بالمساومة بشكل تدريجي.

  إن النقاش حول هذه التصورات التي حملناها من عام 1968 إلى 2024 اليوم قد يكون صعبا وجالبا لعنصر التحدي والدهشة المطلوبة بالتأكيد لمزيد من الأسئلة حول أضخم التغييرات العالمية والتأطير السياسي الذي صاحبها وما زلنا نحمله في ترحالنا لليوم.

إن حالفنا الحظ في هذه المراجعة فإن القارئ سيبدأ بتركيب بعض المصطلحات لفهم معادلة مؤسسة العمل التي يعمل بها صباحا وسلوك الوزارة التي يقطن بجانبها حتى يصل لبناء نمط لطريقة تعامل الدولة مع عشائر بلدته وذلك ليفهم بعدها أن هناك نسقا تراكميا يعطي مؤشرا لقدرة الدول على العطاء في جانب وإهمالها في جانب آخر، بين مخاوف الدولة الحقيقية وبين قدرتها على استدخال التطور العالمي وتسهيل حياة المواطنين ضمن آليات قد تسمح ولا تسمح بتسهيل دخولها، فالنظام جاء متأخرا وفي الغالب الأعم يستلزم سنوات أطول كذلك لفهم تأخره، هل تراه تبريرا لسلوك الأنظمة أم محاولة لفهم التعقيد في وقائعنا؟


[1] https://www.foreignaffairs.com/reviews/capsule-review/1997-09-01/political-order-changing-societies

[2] https://democracyparadox.com/2019/09/06/samuel-huntington-political-order-in-changing-societies/amp/

زر الذهاب إلى الأعلى