بعدسة نوح هراري: الأوتوقراطية الأصولية في “إسرائيل”

ميرنا السرحان*


لأول مرة في تاريخ دولة الاحتلال الإسرائيلي، سيجتمع كافة قضاة المحكمة العليا -أعلى هيئة قضائية- الخمسة عشر -أكبر عدد ممكن لهيئة قضائية رفيعة- في 12 من أيلول / سبتمبر لسماع قضية دستورية، حساسة ومهمة لدرجة أنها قد تقرر ليس فقط صلاحيات المحكمة ذاتها وسلطتها ولكن أيضا قد تشعل أزمة دستورية1. تضع إسرائيل في محط الدول المحكومة بصورة مطلقة من شخص واحد.


وجاء العنوان اللافت لمقالة صحيفة نيويورك تايمز الأميركية الذي كتبته إيزابيل كيرشنار مراسلة الصحيفة في القدس مؤطراً لأزمة مفصلية تاريخية من عمر الكيان. وصف فيه رافي بيرغ وهو محرر في BBC Online Middle East ، إن إسرائيل تواجه واحدة من أخطر الأزمات الداخلية في تاريخها، مع ضجة كبيرة بشأن خطط الحكومة لتغيير طريقة عمل النظام القضائي2، أما ستيفن أ. كوك (وهو خبير في السياسة العربية والتركية وكذلك سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط،) فإنه ينشر مقالته بترويسة قائلاً، أثار التشريع الجديد الذي أصدره البرلمان الإسرائيلي، والذي يحد من إشراف المحكمة العليا على سياسيات الحكومة، إنذارا بشأن تعميق الانقسامات المجتمعية والتراجع المحتمل عن الديمقراطية.


يمكن بسهولة أن نلاحظ في الأسابيع المنصرمة أن الفوارق تكاد لا توجد في أغلب عناوين الصحف والمقالات والمقابلات التي أجريت خلال وما بعد الاحتدام الشعبي حول الإصلاحات القضائية والتغول التنفيذي- التشريعي من قبل حكومة نيتنياهو التي سارعت ما بعد تنصيبها في مباشرة إقصاء الحلقة الأخيرة أو نقطة العبور النهائية للملف الديمقراطي في إسرائيل ألا وهي المحكمة العليا.


ونناقش في هذه المقالة الآثار والأبعاد القادمة لإقصاء المحكمة العليا من المشهد، وكيف تساهم حكومة بينيامين نيتنياهو في تعقيد مسار الاستمرار الأمني السلمي في المجتمعات الإسرائيلية التي لا تغمض عين عن ديمقراطيتها وحدها دونا عن الصراع الدائر في قعرها – من وجهة نظر مركزية للملف الديمقراطي- مع الفلسطينيين بشكل أساسي وأحيانا مع العرب حسب عدة أوصاف.


وسنأخذ الحديث بلغة مغايرة ومحددة بعدسة واحدة لشخصية بارزة ليست فقط في دائرة إسرائيل بل على الصعيد العالمي للمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري، وهو مختص في الأصل بتاريخ العالم وتاريخ العصور الوسطى والتاريخ العسكري. وصاحب العديد من الكتب الشهيرة منها ” العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري”، وكتاب ” الإنسان الإله: تاريخ موجز للغد”، وكتاب 21 درسا للقرن الواحد والعشرين. وقد ترجمت كتبه إلى خمس وستين لغة، وبيع منها أكثر من 45 مليون نسخة، ويعمل حاليا محاضرا في قسم التاريخ في الجامعة العبرية في القدس.


القائمة تطول للتوجه العالمي الذي يسلكه ولا يزال يطور هراري منه من خلال تأسيس شركات حوار عالمية وإلقاء خطابات في أهم المنتديات صاحبة التأثير في العالم، المؤلفات العديدة التي عمل عليها، الجوائز الدولية التي نالها في حياته والاستمرارية في توجيه طاقاته للمحاضرات في العديد من الموضوعات تطوعيا للجماهير وذلك حسب موقعه الالكتروني الخاص فيه والمترجم ل 9 لغات ومنها العربية، حيث يتضمن أقسام عن التعريف عنه نفسه، جميع كتبه، المقالات والفيديوهات والصوتيات وأيضا الفعاليات التي سيتواجد فيها.


يتحدث هراري في قناة AP Archive على يوتيوب بعنوان ” قد ينتهي الأمر بنيتنياهو إلى تدمير إسرائيل”5، إن ترسيخ ديكتاتورية هي ما يحصل هنا ( في إسرائيل) وربما تبدو مبالغة بعض الشيء كوننا معتادون أن يتم ترسيخ الديكتاتوريات عن طريق الدبابات وإطلاق النار على الناس في الشوارع، لكن في التاريخ غالبا تقام الدكتاتوريات عبر التوقيع خلف الأبواب المغلقة وبحلول الوقت الذي نستوعب فيه التداعيات والآثار المترتبة لذلك يكون الآوان قد فات للمقاومة.


ولفهم الوضع الحالي في إسرائيل حسب هراري فهناك سؤال واحد بسيط ينبغي طرحه وهو ما الذي يَحد من قوة وسلطة الحكومة؟ بمقارنة متكررة قام بها هراري في عدة مقابلات في سياق إجراءات إعلان وتطبيق قانون على مستوى البلاد، فإنه يعيد ويؤكد مقارنته بمثال عن الولايات المتحدة، حيث هناك العديد من القيود والتوازنات ويوجد فيها مجلس النواب، مجلس الشيوخ، الرئيس، الدستور، المحكمة العليا، النظام الفدرالي مع 50 ولاية وكل ولاية لها دستورها. أما في إسرائيل هناك فقط المحكمة العليا ما وصفها هراري بـ Guard rail في إسرائيل وهو- مصطلح مجازي وضعه في سياق دقيق للحالة الإسرائيلية أي الحاجز الوقائي، ويشير إلى السياسيات أو اللوائح أو التدابير التي يتم وضعها للحد من أو التحكم في أفعال أو سلوك الحكومة أو المنظمة أو الشخص، بهدف منعهم من الانحراف بشكل كبير عن المعايير أو المبادئ المقبولة، حيث يعمل كحاجز لمنع حدوث سوء استخدام السلطة أو انحرافات متطرفة عن المعايير المثبتة 6، حيث لا يوجد هناك دستور ولا مجلس شيوخ ولا نظام فيدرالي والآن تحاول الحكومة السيطرة على المحكمة العليا، وفي اللحظة التي تتمكن منها بذلك فلا قيود لقوتها حيث بالفعل هناك تحضيرات واقتراحات من قبل أعضاء الائتلاف عن العديد من القوانين التمييزية ضد المسلمين، المسيحيين، العلمانيين، ضد النساء و LGBT community والعامل الوحيد الذي يحول دون كل ذلك هو المحكمة العليا.


بعد إقصاء المحكمة العليا فسيكون بمقدور الحكومة بسهولة تزوير الانتخابات عن طريق إنكار حقوق العرب في التصويت أو إغلاق جميع المنافذ الإعلامية الديمقراطية، ستستمر إسرائيل في إجراء انتخابات كما تقوم روسيا بذلك، لكنها ستصبح حينها ديكتاتورية7. يوضح هراري أن الاهتمام بالشؤون الحاصلة غير محصور بالاسرائيليين فقط بل ينبغي أن يتوسع ليكون محط اهتمام في الولايات المتحدة وأوروبا، فإذا أصبحت إسرائيل ديكتاتورية وإن أصبحت النظام المتطرف الجديد لن تكون شيئا ك هنجاريا – كما استخدمها هراري كمثال – وهي عضو في الاتحاد الأوروبي ولديها قيود مفروضة ومحددات بناء على ذلك، ولا تحتجز ملايين الأشخاص تحت الاحتلال، وليست متورطة في مواجهة عسكرية نشطة مع بلدان مجاورة، وليس لديها أسلحة نووية ولا أسلحة سيبرانية متطورة. ففي مقاربة معاكسة فإن إسرائيل مختلفة، لأنها تحتجز ملايين تحت الاحتلال ومتورطة في صراع واسع النطاق، ولديها سلاح نووي وأقوى جيش في الشرق الأوسط، وأسلحة سيبرانية تستطيع ضرب أي مكان في العالم.


قام هراري بتوظيف واقعي ودقيق لما يحدث في إسرائيل في سياق يصلح للقراءات السابقة والمستقبلية مع الأخذ بعين الاعتبار ( الخصوصية التاريخية والمرحلية لكل تجربة). فيقول هراري أن هكذا نوع من القوة/ السلطة إن وقعت في أيدي نظام أوتوقراطي وهو أيضا نظام ديني أصولي بأهداف توسعية ويؤمن بالتفوق والسيادة اليهودية، فإنه سوف يشعل النار في الشرق الأوسط بأكمله.


أما عن شحص نتنياهو فيقول بصراحة في نهاية حديثه أنه لو تقاعد بعد فترتين في منصبه أو بعد 8 سنوات، على سبيل المثال، وبالرغم من أن هيراري شخصيا لم يحب الكثير من الأمور التي قام بها نتنياهو، فإنه “كان سيتقاعد كواحد من أعظم قادة إسرائيل”. أما الآن إن إرثه يكمن في كونه مُقسّم إسرائيل، والشخص الذي قسّم الأمة الاسرائيلية ضد نفسها. ويأمل في نهاية حديثه بعدم حدوث ذلك. ولكن يمكن أن يذكره التاريخ باعتباره الشخص الذي دمر دولة إسرائيل.


في بودكاست شهير مع عالم الأبحاث من جامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا ليكس فريدمان – الذي ذاع صيته في عدة منصات ومنها يوتيوب- 8 ،يستمر هراري بتأكيد جميع المقاربات التي كان يستشهد بها في مقابلاته لمستقبل إسرائيل في ظل المشروع الدكتاتوري المتصاعد، “إن ما يقوم به نيتنياهو هو تمزيق للعقد الاجتماعي الذي حافظ على تماسك هذا البلد لمدة 75 عام، إذ يدمر نيتنياهو أسس الديمقراطية الإسرائيلية”. وفي الإجابة على تساؤل فريدمان عن استمرار المظاهرات للحظة التي عقد بها البودكاست وإن كان هناك تأثير مصاحب لها؟ يجيب هراري ” إنه يتمنى أن يكون لها تأثير وأوضح أنه سيشارك في المظاهرات القادمة وفي تعبيره إن فشل الشعب الاسرائيلي ستكون هذه من المحتمل نهاية الديمقراطية الإسرائيلية والتداعيات ستطال وتتجاوز ما بعد حدود إسرائيل بكثير”


يسرد هراري محطات تأزم الموقف في إسرائيل؛ من حالات الرفض ومحاولات التسوية المبدأية والاستماع للشارع بعد المظاهرات، وحالات إعلان رفض الخدمة العسكرية، ثم انهيار المفاوضات حتى محاولة تمرير القرارت دفعة واحدة بغضون شهر أو شهرين، ثم الاصطدام بالمعارضة والعودة لآلية Salami Tactics(Slice by slice) ، حيث نجح الأول فنكمل بالثاني حتى اكتمال مصفوفة القرارات. وبصفته مؤرخاً بما يملكه من قدرة على الربط بين الفترات والأزمان التاريخية المختلفة ذات الصلة وإسقاط حوادثها على إسرائيل، نجد أنّ هيراري يصف الأحداث التي تجري في إسرائيل بالأوتوقراطية – إن نفذت مساعيها التفردية بالسلطة – ويصفها بالأصولية لكن وصف أصولي ديني لا يتعارض على حد اعتبار مع واقع الطوائف اليهودية المتشددة التي تعترف بالإقصاء كعقيدة، أما الوصف الذي ختم فيه حديثه مع فريدمان هو – الديكتاتورية الميسيانية – حيث عبّر عن تخوّفه من أن يسيطر هكذا شكل سلطوي ديني على قوة بهذه الحجم ( عسكريا وسايبرانيا).


وفي مقالة مطولة له على صحيفة هارتس الشهيرة9، يتحدث عن قرب إحياء يوم ” تيشا باف” – من موعد نشر المقال- وهو اليوم الذي يصادف تدمير الهيكل الأول من قبل البابليين والهيكل الثاني من قبل الرومان، ويتسائل إن كان يمكن لليهودية البقاء على قيد الحياة بعد تدمير الهيكل الثالث – الديمقراطية الإسرائيلية؟ وإن كان هذه المرة الدمار سيحول بهم من قبل اليهود أنفسهم؟ يستمر هراري باستعراض أحداث تدمير الهيكل الثاني بسبب التعصب الديني وكيف سيق الدمار إلى السياسة والاقتصاد، ويتسائل إن كان سيناريو الهيكل الثاني سيتكرر مجددا؟


لعل تساؤلات هراري وربطه دورة التاريخ اليهودي ببعضه مشروعة في مقاييس البعض ويراها البعض الآخر مبالغة بغير محلها، فهل استخدامه هذا النوع من التكييف للشواهد التاريخية هو تطويع للتخويف والإقصاء المعاكس للدينيين في إسرائيل؟ أم أن حجم الضرر المؤسسي المتوقع لدولة مثل إسرائيل عبارة عن أرقام لا تخطئ؟ وهل القانون الأساسي يعتبر قانون شرعي متكامل في الكثير من الأوقات ويعتبر غير مرئي ولا وجود له في أحيان أخرى؟ هل الممارسات الدينية الإقصائية من قبل المتدينين في وسائل المواصلات العامة والشوارع، ورفض الخدمة العسكرية بشكل قاطع ورفض التعليم الإسرائيلي المتضمن لمواد العلوم والرياضيات والحاسوب لصالح دراسة الكتاب المقدس والتاريخ اليهودي الذي يتم صياغته من قبل الحاخامات ويتم استهجانه من وزارة التربية والتعليم الاسرائيلية، هي جميعها سلسلسة مستمرة لناقوس خطر في التكوين المجتمعي الاسرائيلي الذي عرضنا تحليله من قبل هراري؟ أم هي ممارسات موجودة من بدء تأسيس الدولة وما تكريسها إلا بيان على ارتفاع نفوذ اليمين المتشدد في إسرائيل الذي طغى على مصطلح اليمين و تسعى حكومته لفرضه في أركان الدولة كافة؟


*باحثة أردنية في الشؤون السياسية

زر الذهاب إلى الأعلى