التصعيد الروسي في شمال غرب سورية: الأسباب والأبعاد

لم تكد تنتهي جلسات الجولة العشرين من المسار التفاوضي في آستانا بين الدول الثلاث -روسيا، وتركيا، وإيران- إلا وحمم القصف الروسي تنهال على رؤوس المواطنين السوريين في المناطق الجنوبية والغربية من إدلب.

اتخذ القصف مسارًا تصاعديًّا منذ 20 حزيران/يونيو 2023 بقصف النقاط البعيدة عن إدلب والتجمعات السكنية الكبرى ونقاط في جَبَلي التركمان والأكراد بريف اللاذقية الشمالي الشرقي دون معلومات عن وقوع إصابات أو ضحايا، ليتكرر استهداف التجمعات المدنية في سرمين والشيخ بحر شمال إدلب، وصولًا إلى القصف الوحشي الذي طال سوقًا شعبيًّا للخضار في جسر الشغور يوم الأحد 25 حزيران/يونيو 2023، مما أدى إلى مقتل 11 شخصًا وإصابة أكثر من 40 جريحًا من المدنيين الذين يرتادون السوق.

تصعيد روسيا الكبير جاء إثر أشهر طويلة من صيغة الهدوء غير المستقر منذ آذار/مارس 2020، خاصة أن القصف المدفعي مستمر دون انقطاع في مختلف أنحاء محافظة إدلب الجنوبية، إلا أنه لم يكن ليتحوّل القصف إلى هذا العنف، لولا مستجدّات دفعت نحو هذا التصعيد، خاصة أنها جاءت بعد يوم واحد من إعلان النظام السوري عن تعرض عدة مناطق في ريفي اللاذقية وحماة لهجمات بالطائرات المسيرة عن بعد، وسقوط ضحايا مدنيين بحسب رواية وسائل إعلام النظام الرسمية.

إلا أن تحليل الصور التي أظهرتها وسائل إعلام النظام تؤكد أنها طائرات استطلاع روسية من طراز Diamond DA42T  تعمل بوقود الديزل، وهي موجودة في قاعدة حميميم منذ عام 2021 على الأقل، أما الطائرات التي تصممها هيئة تحرير الشام فهي طائرات درون مصغّرة، تستطيع حمل 3 قنابل تُرمَى على أهدافها من خلال الإسقاط الحر، وبالتالي فإنها لا يمكن أن تستخدم طائرةً انتحارية.

من المستهدَف؟

تؤكد المصادر الميدانية أن الاستهداف طوال الأيام الأربع الأولى استهدف حواضن مدنية في أرياف إدلب ومنطقة جسر الشغور خاصة، إلا أن هذه الحواضن تشهد وجود بعض العائلات من الجنسيات الأجنبية كالتركستان والأوزبك الذين استُهدفوا في منطقة اليعقوبية في ريف جسر الشغور، إلى جانب استهداف مواقع مدنية في مدن سرمين وأرمناز والشيخ بحر شمال مدينة إدلب، وقد أكدت هذه المصادر كذلك وقوع استهداف لموقع أمني تابع لهيئة تحرير الشام في منطقة جسر الشغور في الخامس والعشرين من حزيران/يونيو الجاري مجاور لموقع السوق الذي وقعت فيه المجزرة.

يثير هذا السياق إمكانية كون الاستهدافِ موجَّهًا بالفعل للموقع الأمني، حيث تعلِن وزارة دفاع النظام ووسائل إعلامه الرديف عن كونه مقرًّا لتصنيع الطائرات المسيّرة التي تستهدف مطار حميميم والمواقع التابعة للنظام في ريف حماة الشمالي واللاذقية، إلا أن مسار الاستهدافات السابقة واللاحقة يؤكد أن التصعيد يستهدف المدنيين بالدرجة الأولى والضغط على الشمال السوريّ وتركيا إنسانيًّا من خلال دفع موجات جديدة من الناس للنزوح خشية التصعيد الجوي وما يشاع عن اقتحام برّي يمكن أن يتبعه.

ممّا لا يُغفَل عنه!

من الجدير بالذكر الإشارة إلى أن قائد هيئة تحرير الشام، أبا محمد الجولاني، سعى عبر القوى العشائرية والأمنية التابعة له خلال الشهور الماضية لتهيئة الأرضية المناسبة للتمدد نحو ريف حلب الشمالي، والسيطرة الفعلية على كلٍّ من منطقة عفرين وإعزاز، وبالتالي تحقيق امتداد جغرافي واسع من البوابة الحدودية مع تركيا في جرابلس شمال شرقي حلب، وصولاً إلى باب جسر الشغور شمال غرب إدلب، مما يفتح له إمكانية الاستفادة من القوى البشرية في المنطقة في مشاريع صناعية واقتصادية، إلى جانب ضمان مقعدٍ مهمٍّ له في أي تسوية مقبلة مع الدول الفاعلة في الشأن السوري، عدا عن الفائدة الاقتصادية للمعابر الدولية الأربعة التي ستكون تحت نفوذه في هذه المنطقة، وغير ذلك من الأسباب والفوائد المتحققة من هذا التوسع.

اصطدم الجولاني بالجدار التركي العسكري الرافض لمساعيه بالهيمنة والاستفراد في القرار، إلى جانب الدور المهم والوعي الموازي الذي صنعته الخلايا الإعلامية والمدنية لقوى الثورة في المنطقة، مما أفرز ردة فعل شعبية رافضة لسلوك الهيئة وقياداتها وهو ما انعكس في مناطق الهيئة ذاتها، حيث تشهد منذ شهرين -تقريبًا- حراكًا شعبيًّا رافضًا للهيئة وممارساتها وسياساتها.

هذا المشهد المشحون بالاحتمالات والخطط البديلة، دفع الوسائل الإعلامية لتكرار الحديث عن تعزيز الجولاني لاتصالاته مع قسد، وذلك في إطار بناء تفاهمات أو تنسيق محتمل إزاء الإقصاء الذي قد يتعرض له الطرفان من قبل المسار الذي يقوده الروس والأتراك لعملية التطبيع مع النظام؛ حيث شهد الشهران الفائتان -بحسب مصادر إعلامية متعددة- لقاءات أمنية بين الجانبين بهدف عقد شراكات أمنية واقتصادية وعسكرية متمثلة بتوريد معدات عسكرية خاصة من مناطق قسد والعراق يمكن استغلالها في المواجهات مع الأطراف الأخرى.

إزاء هذا المشهد السياسي للهيئة فقد كان هناك مشهد عسكريٌّ موازٍ، يتمثل بالعمل -خلال السنوات الماضية- على “استقطاب خبراء تصنيع طائرات مسيرة من جنسيات مختلفة” -بحسب مصادر لتلفزيون سورية- مما مكّنها من إنهاء العديد من الخطوات الضرورية في عملية تصنيع الطائرات وتطويرها؛ ومن ثمّ فإن الاستهداف الروسيّ الأخير -لهذا المقرّ- يأتي في إطار التأكيد على رفض امتلاك المجموعات المسلّحة في الشمال السوري، أي أسلحة قد تشكّل تهديدًا استراتيجيًّا على قاعدته في الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط، إلى جانب وجود أولوية لاستهداف المجموعات الأجنبية المقاتلة في المنطقة نظرًا لاحتمال وجود اتصال لها مع المقاتلين الشيشان والأوزبك الذين يواجهون القوات الروسية وميليشياتها في أوكرانيا.

تعقيدات المشهد التركي الروسي

بالرغم من تضارب المصالح في العلاقات التركية الروسية في الملف السوري إلا أن الدولتين تحاولان تجنّب الانزلاق نحو الحرب، وتميل كلّ دولة منهما لرسم خارطة الوضع بما يوافق مصالحها، وبناء على ذلك تم توقيع مذكرة التفاهم بين الطرفين في موسكو في آذار/مارس 2020 حيث تقضي بفتح الطريقين الدوليّين M4- M5 وتسليم المعابر الحدودية لإدارة مدنية تابعة للنظام، وتفكيك الفصائل المصنفة إرهابيّةً لدى الطرفين، إلا أن المتغيرات الأخيرة كمسار الحرب في أوكرانيا، ومساعي تركيا للتمدد في شمال شرقي سورية، وعدم تفكيك هيئة تحرير الشام وقسد وغيرها من الفصائل، جعلت الطرفين يراوحان في المكان ذاته.

بحسب المعلومات المتاحة أن الأتراك أكدوا للجانب الروسي في الجولات الأخيرة من آستانة رفضهم تفكيك هيئة تحرير الشام قبل تفكيك قسد وطمأنة مخاوف تركيا الأمنية، إلى جانب رفضها إدراج الطريق الدولي M4 في مسار التفاوض في الجولة العشرين، مما يشير إلى تحوُّل في الموقف التركي في هذه المسائل، وهو ما تواجهه روسيا بالقصف الجوي المتصاعد في محاولة منها فرضَ شروطها بضغط الدماء والمجازر والحالة الإنسانية المتفاقمة عن موجات النزوح في الشمال السوري.

إلى جانب ذلك، فإن روسيا ما تزال تلوّح بأن الواقع الأمني لن يتغير ما لم تتوقف الهجمات بالطائرات المسيرة، حيث تشكل تهديدًا أمنيًّا للقواعد العسكرية الروسية المنتشرة في ريفي حماة واللاذقية، كما أنها لا تبدي موافقة صريحة للمشروع الذي تتبنّاه تركيا في إقامة مناطق آمنة لعودة اللاجئين في شمال سورية، وهو ما عبّر عنه النظام بأنه “اعتداء على السيادة السورية” مما يدفع تركيا للتفاوض مع الروس لاستمرار التهدئة، حيث إن انهيارها سيمنع تركيا من تحقيق مشروعها المذكور.

بين تعقيد المشهدين يبدو أن الحملة البرية على الشمال ستكون مستبعدة في قائمة الخيارات في الواقع الحالي، نظرًا للحاجة الروسية لدور تركيا الإقليمي في عدة ملفات أبرزها الملف الأوكراني، إلا أنها ترسل -مع ذلك- رسائل ميدانية واضحة، بأنها لن تتراجع عن المعادلة الأمنية التي تفرضها في الشمال، حيث لا يمكن السماح بأي تهديد لقواعدها في وسط سورية وغربها، ومن ثمّ لا يبدو غريبًا، تكثيف طلعات الجو الاستطلاعية للطيران الروسي التجسسي، حيث يبدو أن روسيا تجدد قائمة الأهداف المحتملة لديها، وبالتالي فإننا سنشهد مزيدًا من الاستهداف -لما يوصف بأنه أهداف إرهابية أو مقار لتصنيع الطائرات المسيرة- في الآونة المقبلة.

زر الذهاب إلى الأعلى