ما بعد الضربة الأمريكية على العراق

مأزق متجدد يواجه حكومة بغداد رغم مساعي اللا تصعيد

بدا واضحًا أن الإدارة الأمريكية منذ أن تلقت نبأ قصف قاعدة البرج 22 شمال شرق الأردن والذي أودى بحياة 3 جنود أمريكيين وجرح العشرات، حددت نطاق ردها عبر تصريحات أُدليت حينها من قبل نائبة المتحدث الرسمي باسم البنتاغون، سابرينا سينغ، والتي أشارت إلى ضلوع كتائب حزب الله العراق في العملية، محيدةً بذلك الجانب الإيراني سوى أنه ممول وداعم للفصيل المسلح، متجنبةً اتهامه كموجّه للهجوم.

الهجوم الذي شنته كتائب حزب الله، في 28 يناير/كانون الثاني العام الجاري، كان الأول بعد أكثر من 175 هجومًا قادته تلك الفصائل على القواعد الامريكية في العراق وسوريا تودي بحياة ضحايا أمريكيين، الأمر الذي وضع إدارة بايدن وهي تدخل في عامها الانتخابي بموقف كان لا بد من أن تقوم فيه بعملية رد قاس على أن تتجنب توسع الصراع إلى خارج غزة في نفس الوقت، حيث ضربت 85 هدفًا بـ 125 ذخيرة، أودت بحياة أكثر من 30 قتيلًا من الفصائل في العراق وسوريا.

رغم ارتباط منفذي الهجمات بالجانب الإيراني وقصف المنشآت التابعة للحرس الثوري إلا أن الهجوم الموسع لم يسفر عن مقتل أي من القادة العسكريين الإيرانيين، بل أعطت القيادة الامريكية على ما يبدو مهلة 5 أيام لإخلاء المنشآت من العناصر الإيرانيين لتشن بعدها هذا الهجوم الأوسع الذي تركز معظمه في منطقة عكاشات والمنطقة الممتدة بين مدينة القائم العراقية والبو كمال السورية، وهي المنطقة الحيوية لكتائب حزب الله ولواء الطفوف الذي يندرج تحته، ومن المعروف أن هذه المنطقة تشهد حركة تنقلات كبيرة على صعيد تهريب السلاح أو المخدرات.  

يمكن القول، إن الجانب الأمريكي منذ البداية سعى إلى ضبط النفس بالمقارنة مع حجم الهجمات التي تتعرض له قواته وتجنب التصعيد أمام هذه الهجمات المكثفة، ولم يقم سوى ببعض الهجمات التي كانت لها مبرراتها بالنسبة للإدارة الامريكية، كالاستهداف السابق لعناصر من حزب الله الذي جاء ردًّا على استخدام الفصيل صواريخ باليسيتية قصيرة المدى في هجومها على قاعدة عين الأسد، او استهداف أبو تقوى السعيدي القيادي في النجباء لارتباطه بهجمات عديدة على القوات الامريكية والمسؤول عن توزيع طائرات مسيرة وأسلحة متطورة للفصائل، إلى جانب الضربة التي شُنت في كركوك على عناصر من حركة النجباء والتي كانت قد ردعت هجومًا كانت تنوي الحركة القيام به.  

لم تسعَ الضربة الامريكية إلى ردع الفصائل المسلحة وإيقاف نشاطها وكبح جماحها وجماح من يقف خلفها بقدر ما أنها أرادت ضبط التصعيد وإعادته إلى قواعد الاشتباك المحدود، شريطة ألا تكون ضربات الفصائل القادمة تستهدف جنودًا أمريكيين او تستخدم أسلحة متطورة في الهجوم يجعل منها في موقف حتمي للرد في مقابل قبولها بالضربات “الرمزية” ذات الصدى الإعلامي التي تشنها الفصائل. تلك هي على ما يبدو التكتيكات والنفس المتبع من الإدارة الامريكية منذ انخراط الجبهة العراقية في الحرب على غزة بعد حادثة مستشفى المعمداني.

تبقى الحلقة الأضعف في هذا المشهد هي الحكومة العراقية، التي تواجه مأزقًا وإحراج شديدين، في الوقت الذي كانت قد طالبت بإنهاء مهمة التحالف الدولي بعد يوم من مقتل القيادي أبو تقوى السعيدي، فقد وضعت الضربة الامريكية الأخيرة محمد شياع السوداني في مأزق أكبر.

التصريحات العراقية الرسمية كانت قد اعتبرت أن الضربة الأمريكية الأخيرة استهدفت مواقع لهيئة الحشد الشعبي وأعلنت حكومة بغداد الحداد لثلاث أيام وعدتها انتهاكًا لسيادة العراق وأمنه وسلمت مذكرة احتجاج إلى سفارة واشنطن في بغداد، في المقابل كان لافتًا أن القوى السياسية التي تشكل التحالف الحاكم والتي يملك بعضها فصائل مسلحة، ما تزال تتجنب لغة التصعيد، ورفضت انتهاك السيادة العراقية من قبل القوات الأمريكية إلا انها في المقابل رفضت الضربات التي تُشن على القواعد العسكرية العراقية التي تضم مستشارين أمريكيين، ودعمت المسار القائم على الحوارات الجارية اليوم بين بغداد وواشنطن بشأن انسحاب القوات الأمريكية، بخلاف حركة النجباء التي تقود ما يُعرف بـ “المقاومة الإسلامية في العراق” التي لا تشارك في هذا التحالف والتي تعلن باستمرار عن نيتها في ضرب القواعد العسكرية.  

رئيس الوزراء اليوم مطالب أمريكيًّا بردع قوى اللا دولة على أراضيه التي تستهدف القوات الأمريكية والتي تتبع أجندة من خارج البلاد وتتمتع بحصانة كما يصفها، جون كيربي، مسؤول الأمن القومي الأمريكي في مقابل المطالبات الإيرانية بتقليص التواجد الأمريكي في العراق، في ظل انقسامات داخل القوى الشيعية نفسها بين من يريد إخراج القوات الأمريكية وبين من يسعى إلى عدم فك ارتباطها بشكل كلي عن العراق.

معادلة تعارض المصالح حتمًا ستكبل رئيس الوزراء الذي يعيش اليوم حالة لا تختلف عن أسلافه السابقين في ظل تغول القوى الخارجية والنشاط المتزايد من قوى اللا دولة التي لا يُعرف إن كانت ستوقف عملياتها العسكرية بتوقف الحرب على غزة أو أنها لن تستغل الفراغ الأمني الذي سيُحدثه الانسحاب الأمريكي من العراق والذي يبدو حتى الآن بعيد المنال، لكن في المحصلة فإن التصريح الأخير الذي أورده رئيس الوزراء بأن إنهاء مهمة التحالف هدفه نزع كل مبررات الهجمات على مستشاريه، يكشف عن أزمة إدارة الدولة في العراق في ظل تعددية الأطراف والتوازنات التي يحاول التمسك بها والتي قد لا يكتب لها النجاح ما دامت القرارات لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدولة بقدر ما أنها تراعي مصالح -التي دائمًا ما تتعارض- الأطراف الخارجية والداخلية المتمثلة بقوى ما دون الدولة.   

زر الذهاب إلى الأعلى