رهانات الرئيس التونسي والاستحقاقات الداخلية والخارجية

“في النظام الدكتاتوري كل شيء على ما يرام إلى ربع الساعة الأخيرة”
حنة آرنت


يشهد النظام السياسي في تونس تحولات كبيرة منذ أحداث يوم الجمهوريّة (25 جويلية 2021) عندما قام الرئيس قيس سعيّد بتدابير استثنائيّة، صادر بموجبها السلطات في البلاد، حيث قام بعزل المجلس النيابي وأقال الحكومة وصنع حكومة جديدة منزوعة الصفة السياسيّة()، ووضع دستورا جديدا للبلاد، وقانون انتخاب جديد، ويتساءل كثيرون إلى أين تتجه تونس؟ وما هو مشروع الرئيس الذي ينوي تنفيذه؟ وما هو مصير المجتمع السياسي ومستقبل الديمقراطية في البلاد؟ وماهي منابع السلطة وآليات الحكم الجديد؟ وهل سيكون للجيش التونسي دور في السياسية؟ وهل ينجح سعيّد في التأسيس لنظام سياسي جديد يرضي التونسيين وينعكس ايجابًا على مستواهم المعيشي؟

ما هو مشروع الرئيس السياسي؟


يتساءل كثيرون؛ هل للرئيس قيس سعيّد مشروع سياسي اجتماعي واضح الملامح؟ الجواب نعم، وعند العودة إلى تصريحات الرئيس ومقابلاته خلال فترة ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2019، وتتبع سلوكه السياسي وقراراته فيما بعد، نجد أنه قام بتطبيق العدد الأكبر من أهدافه التي أعلن عنها، والتي يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
يركّز مشروع قيس سعيّد الذي أطلق عليه “من أجل تأسيس جديد” على إعادة توزيع السلطة السياسيّة من المركز إلى المحلي، بحيث يكون البناء السياسي الاجتماعي كما يصفه سعيّد “قاعديًا ينطلق من المحلي نحو المركز” أي إيجاد نظام سياسي لامركزي، ينطلق من المحليات واحتياجاتها. وبطبيعة الحال هذا ليس نظام حكم لامركزي بالمعنى الديمقراطي، لأن سعيّد بالإضافة إلى نيته تقسيم وتوزيع السلطة من جديد؛ هو يريد تقليص السلطة في أماكن وتفريغها وتعزيزها في أماكن أخرى.()
يتبنّى سعيّد مقاربة “فرّق تسد” خصوصًا في ظل مرحلة وظروف استثنائية ساعدته على تفكيك “العصبة السياسية” الحاكمة -بالمعنى الخلدوني- وهذا النهج يتطلّب منه الشروع إلى تعديل حزمة تشريعات ناظمة للفعل السياسي، في مقدمتها الدستور وقانون الانتخاب، وقد أصدر كل منها بطريقة مختلفة، وحدد يوم 17 ديسمبر 2022، موعد الانتخابات البرلمانية وفق قانون انتخاب وضعه دون تشاور مع الأطراف السياسية، وتزامن ذلك مع مناسبة اليوم الدولي للديمقراطية، التي تحتفل به الأمم المتحدة كل عام.()

منابع سلطة سعيّد:


من المعروف أن الرئيس سعيّد لا يتبع لأي حزب سياسي – كما يعرّف نفسه منذ ترشحه للانتخابات ولغاية الآن – كما أن حملته الانتخابيّة ونجاحه في الوصول إلى قصر قرطاج، كان بجهود تطوعيّة من قبل مجموعات شبابيّة معظمها غير حزبية، واستفاد كثيرًا من دعم النهضة له في الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسيّة، عندما خشيت النهضة نجاح منافسه نبيل القروي الذي كان يروَّج حينها على أنه مدعوم من دول تحارب الإسلام السياسي وتدعم النظام العسكري، أي أن قيس سعيّد قد وصل إلى سدة حكم قصر قرطاج بتصويت عقابي، الأول من المحبطين الكارهين للأحزاب السياسية المستحوذة على السلطة، والثاني معاقبة منافسه مشبوه التمويل وخوفًا من تدخل خارجي يؤثر على أحزاب السلطة في مقدمتها حركة النهضة، ويمكن تحديد ثلاثة موارد يستسقي منها سعيّد سلطته وهي:
المواطن غير السياسي:
يستثمر قيس سعيّد في حالة الإحباط التي يعاني منها التونسيون، وهي حالة ناتجة بشكل كبير عن إخفاقات التيارات السياسية الحاكمة في تحسين الوضع الاجتماعي الاقتصادي، ويركّز دائما على ما يسميه “المهزلة البرلمانية” وهي المشادات الكلامية بين القوى السياسية داخل البرلمان، والتي كان التونسيون يمتعضونها باستمرار، وكان يشير سعيّد في حديثه للشباب والمجتمع في تونس إلى أن هذا السلوك لا يليق بمكانة تونس التي صنعت ثورة الياسمين، وأن التونسيون يستحقون أفضل من هذا المشهد، وبأن التغيير الجذري أضحى ضروريًا.

المؤسسة العسكريّة:
تفاجأ التونسيون بوجود اللباس العسكري في مشهد أحداث 25 يوليو، عندما تجمَّع ضبّاط من الجيش التونسي حول الرئيس سعيّد أثناء إعلانه التدابير الاستثنائية بإقالة الحكومة وتجميد البرلمان وفرض الإقامة الجبرية على أعضائه، كما تواجد الجنود أمام البرلمان لمنع النواب من دخول المجلس، وهذا مشهد غير معتاد في تونس، حيث من المعروف أن الجيش ينأى بنفسه عن العمل السياسي، حتى أن الحبيب بورقيبة، وهو أول رئيس للجمهورية التونسية، قال يوما من الأيام؛ (عندما ترون بورقيبة يعيّن عسكريًا في صلب حكومته؛ تيقنوا أن بورقيبة قد انتهى)، ولكن مع قرارات يوم الجمهوريّة، حدث تحول جذري في العلاقات العسكرية المدنية في تونس، حيث استطاع سعيّد استمالة الجيش بوصفه الركن الأهم في خارطة التحالف للمشروع الجديد، كما قام سعيّد باستعارة عبارة أحد الجنود ممن يحرسون بوابة البرلمان التونسي عندما قال له رئيس البرلمان: “نحن أقسمنا على حماية الدستور”، فإجاب الجندي: “ونحن أقسمنا على حماية الوطن”()، وهذا النقاش يشير إلى وجود خلل سياسي وفصل بين الدستور والوطن، وبطبيعة الحال جزء كبير من هذا الخلل يعود إلى غياب محكمة دستورية.

النقابات المهنية:
يمكن تصنيف النقابات المهنية على أنها المستوى الثالث في منابع سلطة سعيّد، ومع مرور الوقت بدأت النقابات تميل باتجاه قرارات سعيّد ومشروعه السياسي الذي تجد فيه مصلحة لها في ظل غياب الأحزاب التي صنعت حواجز بين النقابات وصناعة القرار، في المقابل يدرك سعيّد أهمية النقابات وعلى رأسها الاتحاد العام للشغل، الذي عقد مؤخرًا صفقة مع الحكومة لزيادة الرواتب والحد الأدنى للأجور، في خطوة وجدها مراقبون أنها مراوغة من الحكومة للحصول على تمويلات خارجية خصوصًا قروض صندوق النقد الدولي، ومن جهة أخرى إلى كسب واحدة من أكبر المنظمات التونسية، والتي تمتلك تاريخّا نضاليّا وتأثيرّا في السلطة وأيضًا تساعد مشروع سعيّد في النهج اللامركزي منزوع الصفة السياسية، وملئ الفراغ الذي تتركه الأحزاب السياسية.

الأحزاب والمجتمع المدني في ظل التحول السياسي الجديد


قطعت الأحزاب في تونس شوطًا باتجاه التحول السياسي وإرساء الممارسة الديمقراطية؛ إلا انها لم تتمكن في موازاة ذلك من السير بتحول تنموي اقتصادي ينعكس إيجابًا على المستوى المعيشي للفرد والعائلة التونسية، وغلب على الأحزاب مشهد الأنانية والصراع السلبي من أجل السلطة، الأمر الذي كرّس صورة غير مجدية عن العمل السياسي في ذهنية المواطن التونسي، وزادت السلبية بعد اجتياح وباء كورونا وتداعياته على الحالة الاقتصادية التي تراجعت معها فرص العمل، خصوصًا بين صفوف الجامعيين.
حصل المجتمع المدني التونسي عام 2015 على جائزة نوبل للسلام، من خلال اللجنة الرباعية التونسية التي كانت معنية بالحوار السياسي الوطني بين الحكومة الانتقالية وأحزاب المعارضة، مما أدى إلى وفاق شامل بينهما، وجنب البلاد الدخول في حالة فوضى. وتعد تونس من بين أكثر الدول العربية التي تحتضن أحزابا سياسية ومنظمات مجتمع مدني، عدد كبير من هذه المنظمات تعمل في برامجها على تعزيز المشاركة السياسية وترسيخ القيم الديمقراطية من خلال برامج التربية المدنية، وحصلت هذه المنظمات على تمويل المجتمع الدولي لمساندة تونس في تكريس الانتقال الديمقراطي، ورغم الجهود المبذولة طوال العشرية السابقة، أصاب المجتمع الدولي حالة ذهول يوم 15 يوليو عندما لم يدافع المجتمع المدني عن الديمقراطية، مما طرح أسئلة حول جدوى تلك البرامج واحتياجها للتقييم والدراسة من جانب، ومن جانب آخر التكامل مع قطاعات التنمية الموازية لا سيما الاقتصادية والاجتماعية منها.
تتكرس في ذهنية الرئيس سعيّد صورة تقليدية تتغلف بالمؤامرة عن منظمات المجتمع المدني، ويمكن استشراف ذلك من خلال حديثه حول المجتمع المدني خلال فترة ترشحه، حيث صرّح في أكثر من موقع بأن لديه مشروع لإيقاف دعم كل الجمعيات، سواء من الداخل أو من الخارج، لأنها كما يقول: “مطية للتدخل في شؤوننا”() وبعد وصوله إلى قصر قرطاج بدأ تدريجيًا تطبيق مشروعه، حيث فرضت القيود على التمويل، وهناك الكثير من الجمعيات لم تتمكن من استكمال الحصول على تمويلاتها، وانقطاع التمويل أدى إلى بطالة عدد كبير من الفاعلين المدنيين، وتحول الكثير منهم ممن ناصروا سعيّد إلى معارضته، وهنا أصبحت الموافقة على التمويلات مقترنة بالولاء للمشروع الجديد.


العلاقات الدوليّة والكابوس الاقتصادي


اعتقد قيس سعيّد أن تولي سيدة تونسية رئاسة الحكومة لأول مرة في تاريخ تونس، سيكون من شأنه رسم صورة إيجابية عن النظام السياسي التونسي الجديد في المجتمع الدولي، والذي سيقوم بتقديم الدعم والمساعدات للحكومة التونسية، ولكن معتقده لم يفلح، ويتضح أن تونس في عهد سعيّد لديها إشكالية وفجوة في العلاقات الدولية، وفي العلاقة مع المؤسسات الدولية كصندوق النقد على سبيل المثال.
يسود في تونس وعند المراقبين للاقتصاد السياسي، أن تونس في ظل الوضع الراهن تتجه نحو الإفلاس الاقتصادي، ويستند إلى ذلك من خلال مؤشرات عديدة، أهمها تفاقم الدين العام ورفض المؤسسات الدولية تقديم قروض للحكومة، كذلك تراجع تصنيف تونس من قبل الوكالات الائتمانية العالمية، ويذكر أن تونس سجّلت عام 2020 أعلى نسبة انكماش اقتصادي منذ الاستقلال عام 1956، وهذا بدوره أدى إلى تفاقم البطالة التي تجاوزت حاجز 18%.

هل ينجح مشروع سعيّد السياسي وإلى أين تتجه تونس؟


عندما غابت العصبية السياسية والسند السياسي المؤسسي عن مشروع الرئيس، كان من الطبيعي أن يبحث سعيّد عن عصبية جديدة وحماية أخرى، والتي وجدها في المؤسسة العسكرية، وعليه يستند سعيّد على الجيش في مسألة أيدولوجيا الوطن، الأمر الذي يؤسس لنظام سياسي جديد أقرب إلى التوتاليتارية، التي بدورها تؤذن بصعود مستمر للسلطوية وضعف الاستقرار السياسي، وهذه المرحلة تعيد إلى الأذهان تجربة زين العابدين بن علي، الرجل السياسي صاحب الخلفية العسكرية، الذي أقنع الجميع بأن الحبيب بورقيبة غير مؤهل لتولي شؤون الحكم، وعزله وانطلق بنظام سياسي ديكتاتوري جديد، وهنا إشارة إلى أن سعيّد يقود مرحلة مؤقتة، تهيأ الأرضية لصعود سياسي عسكري جديد في تونس.

اعتاد التونسي على الحرية، ومن الصعب أن يعيد تأقلمه مع نظام أبوي، هذه صحيح، ولكن الشخصية التونسية تتأقلم على ما يبدو مع الظروف، والأهم: هل يتحمل جيل الشباب الاختناق الاقتصادي ومصادرة الحريات؟ الإجابة أن تونس في المرحلة المقبلة مهيأة للفوضى السياسية والاجتماعية، وأن هندسة الانتخابات وتفصيل مجلس نواب شعب ضعيف، لن يساعد في إيجاد حلول للأزمة اقتصادية والاجتماعية، وأن عودة استكمال التجربة الديمقراطية لن يكون قريبًا ولن يكون سهلاً، ولكنه ممكنًا، خصوصًا وأن جميع شروط الانتفاض الاجتماعي متحققة.
تونس أمام عقد اجتماعي – سياسي من طرف واحد، وتلك إشارة إلى تقدم كبير نحو نهج جديد قائم الشمولية، أيدولوجيته عقيدة الحاجات – بحسب وصف عالم الاجتماع العراقي فالح عبدالجبار – الذي يستنتج بأن “ديكتاتورية الحاجات” هي أكبر منابع العنف عند الكائن البشري.


  • الدستور الجديد في تونس: bit.ly/3S9WK3B
  • قانون الانتخاب الجديد، الرائد الرسمي: bit.ly/3BnaKAc
  • محمد علي الهيشري، “الجيش التونسي والسلطة… من التجاهل والتهميش إلى المشاركة والتأثير”.
  • يمكن مراجعة التوتاليتارية في كتاب حنّه آرندت، النظام الشمولي: آليات التحكم في السلطة والمجتمع، ترجمة نادرة السنوسي، ويمكن العودة إلى كتاب حنّة آرندت: السياسة والتاريخ والمواطنة، من إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  • فالح عبدالجبار، كتاب التوتاليتارية، معهد دراسات عراقية.
  • حلقة حوارية بعنوان: أي دور للجيش التونسي في السياسية؟ برنامج بعد أمس، الجزيرة بودكاست: https://www.youtube.com/watch?v=ziTb9ZDdL5M
  • يمكن الاطلاع على صفحة تونس وبياناتها في البنك الدولي من خلال الرابط التالي: https://www.worldbank.org/en/country/tunisia

زر الذهاب إلى الأعلى