بين اعتبارات الدولة ومنطق الفصائل: العراق واختبار “الحرب على غزة”

بعد مرور قرابة 3 شهور من الحرب على غزة، يتطور المشهد العام في المنطقة على جميع الأصعدة ليكون أكثر تعقيدًا، لتطرح الأحداث الجارية مزيدًا من التساؤلات المتعددة والمتداولة بشكل مستمر لا تنحصر فقط في سياق مستقبل القطاع بعد الحرب أو مآلات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بل بات أشبه بالمسلمات أن الإقليم يقف على أعتاب معادلة جديدة ستولد قريبًا في ظل حالة المخاض العسير الذي تمر به المنطقة جرّاء هذه الحرب؛ منها ما هو متعلق بمستقبل النظام الإقليمي على المستوى السياسي والتحالفات السياسية ومنها ما هو مرتبط على الصعيد الأمني وخريطة اللاعبين سواء من الدول أو جماعات ما دون الدولة.

منذ أحداث 7 أكتوبر، تفاعل العراق الرسمي والشعبي والفصائلي مع هذه الأحداث بصورة كبيرة، وتوزعت ردود الأفعال ما بين الجهود الدبلوماسية والخطابات التي ألقاها ممثلو العراق في المحافل العربية والدولية وما بين المظاهرات التي شهدتها عدد من المدن والجامعات العراقية، إلى جانب القصف الذي قادته فصائل مسلحة على قواعد تحتضن قوات أمريكية بعضها بمهمات استشارية تابعة للتحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” في مناطق ومدن عراقية وسورية، واستهداف السفارة الأمريكية في بغداد في 08 نوفمبر/تشرين ثاني، الذي وُصف من قبل رئيس الوزراء العراقي بالعمل “الإرهابي”.

بحسب تصريحات البنتاغون، فقد تعرضت القوات الأمريكية إلى أكثر من 100 هجوم منذ أن قررت الفصائل العراقية، بعد مرور قرابة 10 أيام من أحداث 7 أكتوبر، استهداف القواعد الامريكية عبر الصواريخ والطائرات المسيّرة كرد على دعم واشنطن لتل أبيب في الحرب على غزة والقصف الذي طال مستشفى المعمداني حينها. وبعيدًا عن أن هذه الهجمات لم تسفر -حتى الآن- عن سوى جرح عشرات من الجنود عاد معظمهم إلى الخدمة، إلا أن القوات الأمريكية ردت باستهداف متكرر لمواقع الفصائل المسلحة في العراق وسوريا أسفر عن مقتل وجرح العشرات، وهو ما وضع حكومة محمد شياع السوداني في اختبار صعب أمام معادلة  فشل في التعامل معها أسلافه.

مواجهة بين قوى ما دون الدولة: اختلاف الأولويات

لربما أن تباينًا أو حتى انقسامًا في اتخاذ المواقف وردود الأفعال لم يعد مظهرًا غريبًا في ظل تعددية الأطراف والقوى التي تتحكم بالمشهد العراقي بشكل عام، لكن اللافت هو تجدد مأزق الحكومة العراقية الحالية، بقيادة السوداني، المدعومة من قوى الإطار التنسيقي (الشيعي) -يملك بعضها فصائل مسلحة- في خلق معادلة توازِن بين المصالح الخارجية للدولة ومصالح الفصائل المسلحة في العراق. فبعد مرور أكثر من عام على تسلم السوداني رئاسة مجلس الوزراء وعلى أجواء كانت أشبه بالخالية من أي عمل عسكري ضد البعثة الرسمية للولايات المتحدة أو قواتها في العراق بل أجواء محفوفة بالدعم والاحتواء من السفيرة الامريكية ببغداد ألينا رومونسكي، تعود سلسلة الاستهداف والرد من قبل الفصائل والجانب الأمريكي من بوابة الحرب على غزة.

انقسم موقف الفصائل المسلحة في العراق، بين من اكتفى بالتحشيد الدعائي والإعلامي وبين من انخرط بالهجوم العسكري على القواعد العسكرية المحتضنة للقوات الأمريكية عبر المسيرات والصواريخ واستهداف سفارة واشنطن لبغداد. من الجدير بالذكر أن الفصائل المسلحة التي تبنت التحشيد الدعائي والإعلامي هي أكثر انخراطًا في العملية السياسية وجزء من التحالف الحاكم في العراق كمنظمة بدر التي يقودها هادي العامري وعصائب أهل الحق التي يقودها قيس الخزعلي، بل كان من الواضح عبر مواقفها وشروطها التعجيزية للانخراط في النشاط العسكري أنها لا ترغب في تصعيد الموقف، نظرًا لاعتبارات داخلية عديدة ومنطلقات لا تبدو سيادية بقدر ماهي مصالحية، منها الحفاظ على المكتسبات السياسية التي حققتها من الحكومة الحالية وتثبيت دعائم الحكم في ظل الصراع مع قوى سياسية شيعية أخرى كالتيار الصدري، والإبقاء على المصالح الاقتصادية وتوسيع الشبكة الزبائنية بعد فورة أسعار النفط وإقرار ميزانية لثلاث سنوات، إلى جانب ما حققته من نتائج في انتخابات مجالس المحافظات التي عُقدت في 18 ديسمبر/كانون أول الجاري، وتجنيب الحكومة الانزلاق مزيدًا في ظل أزمة الدولار التي تواجه العراق، وتجنيب نفسها المزيد من العقوبات الأمريكية ومحاولة تحسين صورتها، بل ورأت في بداية الأزمة الدعوة إلى المظاهرات على الحدود العراقية – الأردنية مخرجًا كنوع من التبرير الأخلاقي أمام جماهيرها، رغم وجود جبهات أخرى مفتوحة أمامها باتجاه فلسطين، كسوريا وجنوب لبنان.

على الجانب المقابل فإن أبرز الفصائل التي اختارت المواجهة، هي غير منخرطة في التحالف الحاكم أو العمل السياسي بشكل مكثف ومباشر، كحزب الله النجباء، وإن كان بعضها يمتلك عددًا من النواب في البرلمان العراقي، ككتائب حزب الله العراق، إلا أن لديها رصيد من النشاط المسلح العابر للحدود ومصالح اقتصادية واسعة في العراق لكنها لا تسعى بطبيعة الحال لمكاسب سياسية كتلك. هذا الانقسام في ردود الأفعال خلق أسئلة أثارت أجواءً مشحونة بين الفصائل المسلحة حول هوية “المقاومة” في العراق والأطراف الحقيقية التي تمثلها، حتى وصل الأمر حد التراشق الإعلامي بين هذه الفصائل وإن لم يكن بعبارات صريحة، يذكر كل طرف منهما الآخر، ودفعت بقيس الخزعلي لاحقًا للتلميح إلى أن ضربات الفصائل المسلحة باتجاه القواعد الأمريكية والقواعد التي تتواجد فيها قوات التحالف الدولي هي ضربات دون جدوى ولا تحقق سوى خسائر في الأرواح البشرية للجهات المنفذة. وكان لافتًا أن قوى الإطار التنسيقي التي تضم الفصائل غير المنخرطة في الاشتباك مع الجانب الأمريكي أصدرت بيانًا تستنكر فيه الهجوم ضد السفارة الامريكية وطالبت بمحاسبة منفذي الهجمات ضد أي بعثة دبلوماسية، وهو ما يشير إلى مدى الخلاف الدائر اليوم بين الفصائل المسلحة والذي قد يكون عرضة للتطور، إذا ما استمرت الضربات الأمريكية واستمر موقف فصائل الإطار التنسيقي بنفس الوتيرة.  

مأزق الحكومة المتجدد: السوداني على خطى الأسلاف

أثار الاستهداف المتكرر للقوات الأمريكية استياء الجانب الأمريكي الذي دعا منذ بداية الحرب على غزة إلى عدم توسيع نطاقها خارج حدود القطاع ولربما هذه الرغبة تتوافق إلى حد كبير مع الجانب الإيراني والذي سعى من جانبه أيضًا إلى جانب الاحتفاظ بالدور الدبلوماسي كأداة للتفاعل مع الحرب، الحفاظ على قواعد الاشتباك المنضبط، ولربما يتجلى ذلك بشكل واضح في موقف أبرز حلفائه في المنطقة “حزب الله” اللبناني.

وعلى الرغم من أن الحكومة التي يترأسها محمد شياع السوداني كانت قد شكلتها قوى الإطار التنسيقي (الشيعي)، إلا أنها تواجه اليوم نفس المأزق الذي واجهته حكومات سابقة، على رأسها حكومة مصطفى الكاظمي، في بناء معادلة تحفظ مصالح الفصائل ومصالح العراق الخارجية. فبعد أن امتنعت الفصائل المسلحة الموضوعة على قوائم العقوبات الامريكية لعام كامل عن مهاجمة المصالح الأمريكية ومقر البعثة الدبلوماسية الرسمية الذي قابلته الولايات المتحدة بالاحتواء ودعم حكومة السوداني، إلا أن الأخير يواجه ذات المعضلة بعد أن ردت القوات الأمريكية بقصف فصائل مسلحة أخرى، مصنفة أيضًا ضمن خانة وكلاء إيران في العراق، كانت قد وجهت ضربات لمقراتها، وأدت بالسوداني ليصرح بأن حكومته ماضية باتجاه إنهاء وجود “التحالف الدولي” في العراق، بغض النظر عن جدية الموقف، بعد أن كان قد أعلن بداية العام 2023 عن حاجة العراق لبقاء القوات الأمريكية الاستشارية وتعهده مؤخرًا لوزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن بحمايتها.   

تضع هذه الأحداث حكومة السوداني على مفترق طرق وفي إحراج شديد، فأمام المشهد السياسي المحموم المتوتر يواجه اليوم خطر عدم القدرة على ضبط إيقاع المشهد الأمني وتوسع رقعة الصراع إلى جانب توتر علاقات العراق الخارجية؛ فالسوداني الذي سعى إلى تحسين علاقات العراق الخارجية وتحديدًا مع الولايات المتحدة، يواجه اليوم مخاطر عديدة، لربما من أبرزها تشديد العقوبات على المصارف العراقية، خاصة تلك المرتبطة بفصائل مسلحة، والتي ستؤثر على سعر الدينار العراقي مقابل الدولار الأمريكي، وتحدي اتساع واستمرار رقعة الاستهدافات التي ستؤدي بطبيعة الحال إلى وضع السوداني موضع المساءلة والضغط المتزايد سواء إن لم يستجب لمطالب الفصائل المسلحة بإخراج القوات الأمريكية أو لم يقم بجهود حقيقية لكبح جماحها كشرط لاستمرار دعم الولايات المتحدة، والتحدي الأصعب أن يكون العراق بوابة لتوسع رقعة الحرب إلى الإقليم او امتدادها وفتح جبهة عراقية في ظل المساعي الحثيثة لحصرها بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي.   

خاتمة

جددت الحرب على غزة التأكيد على واحدة من المعضلات الرئيسية التي ما تزال تواجه العراق، وهي حصر السلاح بيد الدولة واندماج الفصائل المسلحة ضمن الأجهزة الرسمية بشكل فعلي وضبط أي نشاط مسلح غير رسمي؛ فالفصائل المنخرطة وغير المنخرطة أو المنخرطة جزئيًّا في العملية السياسية لم تستطع حتى الآن ممارسة سلوك الدولة، ولا يمكن القول بأن الفصائل التي لم تنخرط في ضرب القوات الأمريكية التزمت بذلك من منطلق سيادي بقدر ما أن هنالك مصالح ومكتسبات لا تسعى إلى خسارتها مرحليًّا بعد اكتمال مسلسل السيطرة على الدولة من خلال انتخابات مجالس المحافظات، وأن سلوكها المهادن قد ينقلب في أي لحظة فيما لو تزعزت أي من هذه المكتسبات، وفي كل الأحوال هي غير مستعدة حتى الآن لمعادلة التسريح وإعادة الاندماج. كما أن المعضلة التي تواجه العراق لا تقف حدود تأثيرها في الملف الأمني الداخلي بقدر ما أن هذه الفصائل يغيب عنها اعتبارات الدولة ومصالحها بشكل عام في الداخل والخارج وهو ما يؤثر بشكل مستمر على علاقات العراق الخارجية سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى