هل نجحت هيئة تحرير الشام في إعادة التأهيل الدولي؟
تشكل هيئة تحرير الشام اليوم لاعباً رئيسياً في المشهد السياسي السوري، إذ تهيمن على أغلب محافظة إدلب وأجزاء من الساحل ومن المناطق الشمالية المحاذية لإدلب، ويقع ضمن المنطقة التي تسيطر عليها أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، فضلاً عن التماس الجغرافي مع تركيا ضمن ديناميكية دائمة من التحولات في التحالفات والصراع في تلك المنطقة والتداخل مع الأجندات الدولية والإقليمية.
وبالرغم من أنّ الهيئة ذات جذور سلفية جهادية واضحة تماماً، إلاّ أنّها منذ البداية كانت خليطاً هوياتياً ما بين أفكار أبو مصعب السوري وما بين القاعدة (ما بعد المراجعات التي أجراها ابن لادن وقيادات حول مسارها، وكشفت عنها وثائق أيوت أباد، التي تم نشرها لاحقاً عبر الاستخبارات الأميركية)، ومرّ التنظيم بتحولات عديدة حتى وصل إلى محاولات واضحة ودؤوبة إلى التحلل من أيّ علاقة او ارتباط بالقاعدة والانفكاك الكامل عن المشروع الجهادي العالمي.
إذاً لم يكن غريباً أن يرحب القيادي المعروف، في هيئة تحرير الشام، عبد الرحيم عطون، بالتحولات التي حدثت في خطاب حركة طالبان وسلوكها السياسي الجديد، بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ففي محاضرة له قبل أعوام، بعنوان ” الجهاد والمقاومة في العالم الإسلامي.. طالبان نموذجاً”، إذ وجدت الهيئة في نسخة طالبان الجديدة نموذجاً لما تريد أن ترسو إليه بعد التحولات المتعددة التي مرّت بها منذ تأسيسها قبل أكثر من عقد من الزمن (2011)، بوصفها جزءاً من الدولة الإسلامية في العراق (داعش لاحقاً)، ثم الانقلاب على داعش، ومبايعة القاعدة، ولاحقاً الانسلاخ من القاعدة والصراع معها منذ العام 2017، وتصفية الجماعات الجهادية المرتبطة بالخط الجهادي التقليدي.
لم تتوقف تحولات هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) على الخطاب السياسي والأيديولوجي، بل حتى وصلت الأمور إلى العمل على تصفية الأجنحة المتشددة في أوساط الهيئة نفسها، بخاصة المحسوبون على تنظيم القاعدة، مما أدى إلى انشقاق تنظيم حراس الدين (الذي يتشكل من قيادات أردنية قاعدية)، ثم الدخول في صراع بينه وبين الهيئة وتصفية أغلب قياداته إما من خلال طائرات التحالف الدولي أو من خلال الهيئة على الأرض، ما أثار تساؤلات عديدة حول شبكة علاقات خفية غير معلنة للهيئة أو عناصر منها مع جهات دولية وإقليمية عديدة.
هل ما تمّ كشفه في الشهر الماضي من وجود شبكة تضم مئات الأشخاص، ممن وصفوا بالعمالة للتحالف الغربي، جزء من هذه الشبكة الكبيرة؟! بالضرورة هو أمر وارد، بخاصة ما يتعلق بالشخصية الجدلية القيادية، أبو ماريا القحطاني، الذي كان يعتبر بمثابة الرجل الثاني في التنظيم، وأحد أبرز منظري التحولات البراغماتية في الهيئة، ومن دعاة الانفصال عن الجهادية العالمية، وقد صدر بيان من الهيئة يتهم فيه أبا ماريا ضمناً بالقيام باتصالات بصورة شخصية!
ولعلّ من يعرفون القحطاني لن يستغربوا من قيامه بالفعل باتصالات مع دول وحكومات في الخارج، فهو معروف بذلك، لكن الغريب هو اعتبار ذلك تهمة الآن، بالرغم من أنّها مسألة معروفة سلفاً، بل وربما تمثل جزءاً من مهماته السريّة داخل الهيئة، ما قد يثير تساؤلات عديدة فيما إذا كانت هنالك أسباب أخرى، مرتبطة مثلاً بالصراع بينه وبين تيارات أخرى في الهيئة أو حتى مع الجولاني نفسه، وما يطرح بدوره – أيضاً عن حجم الاختراقات وعلاقات الأجنحة المختلفة في الهيئة بالقوى الدولية والإقليمية المختلفة.
دعونا نعود من هذه النقطة إلى محاضرة عطون عن نموذج طالبان، الذي يتضمن المثال المنشود لدى هيئة تحرير الشام، ومن المعروف أنّ هنالك اتجاهين تقليديين في السلفية الجهادية، منذ أعوام، الأول هو تيار القاعدة والجماعات المرتبطة بها، التي تصرّ على مبدأ “عولمة الجهاد”، والتركيز على الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب (العدو البعيد)، والاتجاه الثاني، الذي يمثّله تنظيم الدولة الإسلامية الذي أعاد هيكلة الأيديولوجية الجهادية بصورة جديدة، وأسس ما نطلق عليه نظرية “دمج الأبعاد؛ أي الجمع بين العدو القريب والبعيد” في القتال، وإقامة الدولة الإسلامية، والتحول نحو تكتيكات وفتاوى أكثر تطرفاً من القاعدة نفسها، فيما بدأت أوساط قيادية في التيارات الجهادية تدعو إلى بناء نموذج جديد، على غرار النسخة الثانية من طالبان، وهو نموذج يستمد جذوره الفكرية والايديولوجية من المراجعات التي كان أسامة بن لادن يقوم بها في آخر أعوامه، واندماج الجماعات الجهادية بالمجتمعات المحلية، وتمثل جبهة النصرة بنسختها الأولى نموذجاً عليها، إذ عملت على إخفاء علاقتها بالقاعدة حتى كشف أمرها أبو بكر البغدادي (بعد طلبه من الجولاني مبايعته)، ثم شكّل انتصار طالبان والصيغة التي وصلت إليها من خلال مفاوضتها مع الولايات المتحدة الأميركية إلهاماً لهذا التيار؛ وهو التخلي عن عبء اسم القاعدة وكلفته الكبيرة، والانكفاء إلى داخل الحدود، والجمع بين المضمون الجهادي والمحلي (الوطني)، والتكيّف مع موازين القوى الدولية والإقليمية.
لقد عمل العطون ومعه منظرون آخرون (منهم أبو قتادة الفلسطيني، المنظّر الجهادي الأردني المعروف، الذي دعم تحولات هيئة تحرير الشام ودافع عها، في مقابل المنظّر الأردني الجهادي الآخر، أبو محمد المقدسي، الذي تبنى تنظيم حراس الدين وبقي على ولائه الأيديولوجي لفكرة القاعدة)، على محاولة التجسير بين نموذج طالبان من جهة، وحماس، التي تمثّل الإسلام الوطني الجهادي، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، من جهةٍ ثانية، ونموذج هيئة تحرير الشام من جهةٍ ثالثة، على اعتبار أنّ الهيئة تحارب أيضاً احتلالاً إيرانياً وجيشاً روسياً على الأراضي السورية، وبالتالي ما أراد العطون وأنصار الاتجاه الجديد قوله هو أنّهم لا يختلفون عن نموذجي حماس وطالبان، وأنهم – أي هيئة تحرير الشام- انتقلوا من مقولات الجهادية العالمية أو القاعدة إلى مفاهيم الجهادية الوطنية!
بالطبع المسألة لم تقف عند حدود الخطاب الأيديولوجي بل حتى كان هنالك اهتمام شديد بالصورة الإعلامية الموجهة للغرب، إذ حرص قادة الهيئة على تقديم العديد من الرسائل الودية الواضحة نحو القوى الغربية والدولية، بل حتى على صعيد المظهر الخارجي لهم، واللغة المستخدمة، والعلاقة مع الإقليات المسيحية، وربما تكون العلاقات والشبكات السريّة لأبي ماريا القحطاني المزعومة جزءاً من هذا الخط، قبل أن ينقلب عليه الجولاني؟!
هل يمكن أن ينجح هذا النموذج الجديد، هيئة تحرير الشام (الجهادية الوطنية- المعتدلة)، في إقناع الغرب والخروج من دائرة مكافحة التطرف والإرهاب؟ المسألة لا تتعلق بقيم أو مباديء، بل بموازين قوى ومصالح استراتيجية وجيوبوليتيك، وهذا ما يدركه الجولاني ورفاقه، لذلك يحرصون دوماً على إيجاد أي مساحة للمصالح المشتركة مع الأتراك والغربيين للتأكيد على انّهم يمثلون شريكاً مناسباً في المعادلة السورية مقارنةً بالإيرانيين والروس ونظام الأسد وداعش.
من زاوية أخرى لا يعني ذلك بالضرورة نجاح التنظيم بإقناع الغرب، فما تزال الأجندة الغربية في سورية غير واضحة وقصيرة المدى، وما تزال المخاوف من استعادة التجربة الأفغانية بمثابة شبحاً مهيمناً على السياسيين الأميركيين، أكثر من ذلك من قال إن الغرب يقبل بنموذجي حماس وطالبان، فهما موجودان بأمر الواقع والجيوبوليتيك وليس بسبب الشرعية الغربية!