العراق وأزمة المصير المجهول

لم يكن مفاجئًا أن ينتقل  صراع القوى الشيعيّة من ميادين السياسة إلى ميادين القتال، بل كان اللافت هو أن الصدام المسلح لم يستمر سوى قرابة 20 ساعة؛ فما يشهده العراق منذ الإعلان عن نتائج انتخابات 2021 المبكرة من تصاعد في وتيرة الفوضى والتوتر السياسي والأمني كان لا بد أن يُعبّر عنه بشكل صريح بمواجهة مفتوحة بين هذه القوى.

بالتأكيد أن هذا الصراع ليس وليد اللحظة بل نتاج تحولات وتراكمات طويلة عاشت مرّها العملية السياسية أفضت أخيرًا إلى أن يكون المشهد كما هو عليه اليوم، نظام سياسي يعجز عن إصلاح نفسه وإحداث تغييرات جذريّة، وصراع سياسي تحوّل إلى نزاع مسلح. 

ما إن انتهى خطاب مقتدى الصدر حتى بدأت جماهير التيار المدنية منها والمسلحة بالانسحاب بغضون  60 دقيقة (كما أمر الصدر)  لتتوقف بذلك ساعات دموية شهدتها المنطقة الخضراء وسط بغداد (المنطقة الأكثر أمنًا في العاصمة والتي تضم المقرات الحكومية والسفارات ومنازل العديد من المسؤولين) لتسفر حرب الشوارع تلك عن مقتل قرابة 30 شخصًا وجرح 700 بينهم 110 من قوات الأمن العراقية، تاركةً تلك الأحداث تساؤلات عديدة تتعلق بمستقبل السلم الأهلي بعد هذا التطور المسلح الخطير؟

بيان الحائري،  وما وراء اعتزال الصدر

ببيان يأتي في توقيت يثير علامات استفهام، أعلن  المرجع العراقي كاظم الحائري (المرجع الفقهي للتيار الصدري والموصى بتقليده من محمد صادق الصدر والد مقتدى) اعتزاله كمرجع ديني (ولم يسبق لمرجع ديني الاعتزال)، عازيًا ذلك إلى وضعه الصحي و موصيًا مقلديه باتباع المرشد الأعلى للثورة الإيرانية “علي خامنئي”، ومهاجمًا مقتدى الصدر (في إشارة واضحة) واصفًا إياه بأنه ساعٍ لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الصدرَين (محمد باقر الصدر، محمد صادق الصدر) رغم أنه فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعيّة.

وعلى الرغم من أن مقتدى الصدر رد بأن بيان الحائري لم يك بمحض إرادته ولا حتى قرار اعتزاله، إلا أنه أعلن اعتزال العمل السياسي “بشكل نهائي” وغلق كافة مقرات التيار الصدري. 

كثيرًا ما كانت تميل بيانات المرجع الحائري إلى ولاية الفقيه في طهران، في الوقت الذي يسير الصدر باتجاه معاكس مما يطرحه المرجع خصوصًا في العلاقة مع إيران. أي أن قرارات الصدر وتوجهاته السياسية تسير خلافًا للحائري، وهذا السلوك لا ينفرد به الصدر، بل إن العديد من القوى الإسلامية السياسية الشيعية تفعل ما يفعله التيار، فهي تقلّد النجف علنًا إلا أن مدلولات تصرفاتها على أرض الواقع تشير إلى اتّباع المرشد الأعلى في إيران. لكن أهمية تقليد الحائري  لم تكن سوى غطاء فقهي للتيار الصدري بوصفه تيار ديني اجتماعي، فالتيار هوجم مرات عديدة من قبل الحائري في أكثر المواقف التي كان بحاجة فيها إلى مساندة.     

لذلك، فإن ردة فعل الصدر على بيان المرجع  تطرح احتمالية،  و هي أن الصدر رأى ببيان الحائري فرصة مناسبة للانسحاب -الذي قد يكون مؤقتًا أيضًا- من العملية  السياسية و لعدة أهداف، قد يكون منها  تجنّب المسؤولية الأخلاقية في حال تطور الموقف إلى ما هو أبعد من الاحتجاج السلمي وهو ما حدث بالفعل وما كان يتوقعه الصدر. بالإضافة إلى عدم قدرة التيار الصدري إقناع الجماهير في فترة احتجاجه داخل البرلمان من خارج التيار، تحديدًا من المحسوبين على حراك تشرين، الانضمام إلى الحراك الصدري الجماهيري علّه يكسب بذلك زخمًا جماهيريًّا من فضاءات أخرى غير صدرية، ما يمنحه مزيدًا من الشرعية، على الرغم من حصول التيار الصدري على تعاطف واسع لكن لم ينعكس على أرض الواقع بشكل كافٍ. يُضاف إلى ذلك الحدث الرئيسي الذي سبق اقتحام البرلمان وهو فشل تحقيق مشروع الصدر الذي يطلق عليه “حكومة أغلبية وطنية”، والذي وعد به جماهيره كثيرًا، بعد رفضه من القوى السياسية على رأسها الإطار التنسيقي، عززها  تفسير المحكمة الاتحادية لما يُعرف بـ”الثلث المعُطّل” والذي حال دون أن يحقق التيار الصدري النصاب المطلوب داخل قبة البرلمان.

ما قد يدعم هذا الاحتمال هو أن الصدر كثيرًا ما ينسحب -ثم يعدل عن قرار الانسحاب-  في الأوقات التي يريد أن يبرئ فيها التيار من فشل النظام السياسي الذي هو -التيار- جزء منه و أحد مخرجاته. وليس ببعيد قرار انسحابه من خوض انتخابات 2021 المبكرة والتي فسرها العديد من المراقبين أنها محاولة للتغطية على التُهم الموجهة للتيار الصدري بمسؤوليته وراء إهمال قطاعي الكهرباء والصحة،  في الوقت الذي كان يروج فيه إلى احتمالية حصوله على 100 مقعد. الأمر الذي دفع بالتيار إلى المناورة والانسحاب مؤقتًا من خوض الانتخابات ثم العودة إليها، حاصلًا على 73 مقعد بأغلبية. 

فوضى بعد الاعتزال .. إلى التهدئة و دلالاتها

منذ 30 يوليو/تموز  توجهت جماهير الصدر إلى المنطقة الخضراء واقتحمت البرلمان في تظاهرات عبّر عنها التيار بأنها “عفوية”، تسببت بتعطيل أعمال البرلمان لاختيار رئيس الجمهورية وانتخاب بعد ذلك “محمد شياع السوداني” مرشح الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة الجديدة، تبعها تطورات عديدة أهمها التظاهر أمام المحكمة الاتحادية التي ألمح التيار إلى أنها تلعب كطرف سياسي وليس كسلطة قضائية عليا، تلك الخطوة التي استفزت العديد من الأطراف على رأسه القضاء الذي أعلن عن تعليق أعماله إلى حين انسحاب متظاهري التيار من الاعتصام أمام مبنى المحكمة الاتحادية، وهو ما حدث بعد ذلك. لحقتها مبادرة الصدر التعجيزية التي كانت مدتها 72 ساعة والتي يرفضها حتى حلفاء الصدر في تحالف “إنقاذ وطن” تدعو إلى انسحاب جماعي للقوى التقليدية وإعطاء القوى الجديدة والناشئة المساحة لقيادة المرحلة المقبلة.

لكن إعلان الصدر عن اعتزاله “النهائي” للسياسة،  كان كفيلًا بانفجار المشهد بعد أن اقتحم المتظاهرون القصر الحكومي وتوسّع دائرة التظاهر التي أفضت إلى وقوع اللحظة المتوقعة وهي مواجهات مسلحة بين أمن الحشد الشعبي والمتظاهرين المدنيين من التيار، ثم تطور سريعًا ليكون بين أمن الحشد وسرايا السلام (التابعة للتيار الصدري)، لتتحول بذلك المنطقة الخضراء إلى ساحة حرب مفتوحة استمرت مدة 17 ساعة.

تضاربت المعلومات حول الطرف الذي أقنع الصدر بالتهدئة وإيقاف المواجهات المسلحة، فبعضها تشير إلى أن مرجعية النجف هي من أقنعت الصدر بإيقاف العنف حقنًا للدماء. فيما تشير أخرى إلى أن إيران بعثت برسالة شديدة اللهجة لمقتدى الصدر لسحب عناصره لمنع وقوع حرب شيعية – شيعية.  بينما أكدت بعض المصادر أن حزب الله اللبناني من خلال محمد كوثراني المسؤول عن الملف العراقي في الحزب في اتصال أجراه مع الصدر تداخل فيه حسن نصر الله استطاع إقناع الصدر بضرورة إيقاف المواجهات المسلحة.

كل المعلومات تصب في هدف واحد، وهو أن الأطراف العليا في الفضاء الشيعي الدينية والسياسيّة ضغطت على الصدر و لا ترغب بأن يتطور الخلاف إلى أكثر من كونه سياسي، إلا أن تضارب المصالح بين الأطراف السياسية الشيعية وتحول الصراع من  صراع على تمثيل الهوية إلى صراع على مكاسب السلطة (وهذه إحدى المؤشرات المهمة التي توضّح حالة التشظي التي تعيشها قوى الإسلام السياسي الشيعي) جعل الأمور تسير نحو السيناريو الذي تخشى تلك الأطراف الداخلية والخارجية من وقوعه.  ليُعلن بذلك عن إيقاف حالة العنف دون حسم الموقف لصالح أي طرف واستمرار الأزمة السياسية.

لعل ما أراده التيار الصدري من خلال هذه المواجهة، إيصال رسالة واضحة مفادها، لا يمكن تشكيل حكومة والدخول في أي معادلة جديدة مقبلة تتجاوز التيار ومشروع التيار. بينما في المقابل أراد الإطار التنسيقي إيصال رسالته المتمثلة بأنه قادر على المحافظة على النظام السياسي بصيغته وشكله ومكتسباته الحالية على الرغم من وصفه -النظام السياسي- بـ المتكلس والعاجز عن البقاء على ما هو عليه وينبغي تجاوزه إلى معادلة أخرى بقوى سياسية جديدة. لعل إحدى تمظهرات ذلك هو تظاهر الإطار التنسيقي بـ”التعقّل” واحتواء المشهد على رأسه هجمات التيار الصدري الكلامية والمسلحة، كما حدث في البصرة من اشتباكات بين سرايا السلام وعصائب أهل الحق بعد اتهام الأخير باغتيال أحد قادة السرايا، إلا أن العصائب -التابعة للإطار التنسيقي- أغلقت كل مكاتبها بناء على طلب التيار الصدري في بيانه الذي حمل نبرة هجومية تهديديّة ضد العصائب وزعيمها قيس الخزعلي. 

من اللافت أن يلعب الإطار التنسيقي -الذي وضع قوى الصقور والحمائم في سلة واحدة- هذا الدور، بعد أن كان قد تظاهر سابقًا عبر جماهيره على نتائج الانتخابات التي أظهرت تراجعًا كبيرًا في شعبيته، و أصدر بيانات حينها حذر من أن عدم الاستجابة لمطالبه سيكون له تداعياته على “السلم الأهلي”، بالإضافة إلى ما اتُهم به بأنه يقف وراء عملية محاولة الاغتيال لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. 

لكن يبدو أن الإطار التنسيقي هو أحوج اليوم إلى هذه التهدئة للحفاظ على المكتسبات الحالية وعدم الدخول في صراع طويل مع التيار الصدري نتائجه صفريّة، فهو يريد أن يتهيأ للمرحلة القادمة سواء بإعادة الانتخابات أو المضي برؤيته في تشكيل الحكومة، وإبقاء الأمور على ما جرت عليه عادة العملية السياسية.   

ماذا بعد؟

دائمًا ما بكون الملف العراقي هو أحد أكثر الملفات تعقيدًا في المنطقة، ولعل هذه المرحلة هي من أكثر المراحل التي من الصعب التكهن بمستقبلها، لكن ما يمكن الحديث عنه اليوم هو أن القادم لا يشي بوجود حل جذري لخلافات القوى السياسية في العراق بقدر ما أن أي محاولات تهدئة حالية قد لا تكون إلا شراء وقت و ترحيل للأزمة.

ليس من المرجح أن يستمر الصدر بقرار اعتزاله، فواقع التيار اليوم أحوج ما يكون لوجود مقتدى الصدر بعد ما حدث في المنطقة الخضراء، وما لحقه من مشاهد الضحايا من المدنيين (الصدريين) الذين سقطوا برصاص الفصائل المسلحة التي واجهت فصيل الصدر المسلح.  وليس من المؤكد أن تكون أوامر الصدر بالانسحاب تأخذ الانطباع الذي أراد الظهور به بأنه (الإيثار لحقن الدماء) بقدر ما قد يعدها صدريون، وخاصة المسلحون، خطوة انهزامية ما لم يحقق التيار المكتسبات التي كان من المفترض تحقيقها، وهذه نقطة تستحق الوقوف عندها؛ فالتيار الصدري نشأ كفصيل مسلح (جيش المهدي)، قبل أن يتحول إلى طرف سياسي، وفي وقت المعركة يبرز الجناح المسلح على حساب الجناح السياسي.

تشير نتائج التصويت للتيار -على الرغم من اكتساحه الأصوات في الانتخابات الأخيرة- إلى تراجعه في عدد الأصوات، فقد تراجعت إلى 850 ألف صوت في انتخابات 2021، بعد أن كانت مليون و 300 ألف صوت في انتخابات 2018. و قد يعود ذلك يعود إلى الجيل الصدري الجديد الذي أغرته شعارات حراك تشرين 2019 الوطنية العابرة للطائفية والناقمة على القوى السياسية جميعها، تاركًا وراءه الانتماء إلى أي جهة أخرى. و لعل هذا التحول طبيعي لجيل لم يعاصر محمد صادق الصدر و لم يكن واعيًا لدور التيار لحظة الغزو الأمريكي وسقوط العاصمة بغداد في  2003.

هذه العوامل وغيرها، تجعل التيار الصدري الذي حاول من خلال مواقفه وآرائه تفكيك الإطار التنسيقي من الداخل عرضةً للتفكك أيضًا على الأقل على مستوى القاعدة الجماهيرية، وتضع مستقبله على المحك كما هو الإطار والعملية السياسية. لذلك كان من الضروري للتيار أن يعلن عبر “وزير الصدر” عن أن وصية والد مقتدى بتقليد الحائري انتهت باستقالة الأخير، مما يترك الباب مفتوحًا أمام عودة الصدر في أي لحظة بعد أن أُزيل عن كاهله تقليد مرجعية الحائري،  وليس من الصعب تقليد مرجع آخر يأمر الصدر بالعودة مرة أخرى إلى العمل السياسي بشكل مباشر. 

  يبدو أن مصير المرحلة القادمة معلق بيد قرار المحكمة الاتحادية (التي تعتمد الدستور الموازي لا الفعلي في العديد من قراراتها، وهو ما أفضى إلى إعطاء تفسيرات توصف بأنها تستهدف روح الدستور مثل تفسير “الثلث المعطل داخل البرلمان” مؤخرًا، وعدم العمل بقانون الأحزاب الذي يقضي بمنع عمل الأحزاب التي تمتلك فصائل وأجنحة مسلحة) بحل البرلمان من عدمه. وهذا يطرح أمامنا العديد من السيناريوهات المتعلقة بقرار المحكمة، لكن السيناريو الذي قد يكون الأرجح والأسلم للقوى السياسية هو “حل البرلمان” و لعله الوحيد الذي قد يقود إلى التهدئة، وهذا مرتبط بمدى رغبة فاعلين على المستويين الخارجي والداخلي في الوصول إلى تسوية وعدم تأزيم الموقف أكثر مما هو عليه اليوم، لكن هذا السيناريو يطرح أيضًا عدة تساؤلات تتعلق بصلب الأزمة الحالية بين الإطار والتيار، ملف قانون الانتخاب ومصير المفوضية الحالية، وإمكانيّة أن يمضي الإطار التنسيقي بهذه الخطوات منفردًا في تغيير القانون وتغيير المفوضية الحالية، أو من خلال قبوله التفاهم مع التيار الصدري للاتفاق على صيغة حل، أو أن يستجيب للضغط الصدري إما بالقبول بقرار المحكمة الاتحادية في حال كان يفضي إلى “حل البرلمان” أو أن يحل البرلمان نفسه.

 لذلك، فإن التحدي اليوم يكمن في مدى القدرة على تجاوز المرحلة الحالية عن طريق عقد تسويات وتفاهمات سياسية، وهذا ما شهدته دائمًا العملية السياسية،  أو مدى القدرة على ترحيل الأزمة إلى الحكومة المقبلة؛ فالاحتقان والصراع السياسي الدائر بين هذه القوى لا يزال قائمًا، ما يعني بالضرورة أن سيناريو العنف وارد في أي لحظة. 

عبدالله محمد الطائي

باحث مقيم في معهد السياسة والمجتمع، تتركز كتاباته في الشأن العراقي وفي شؤون الحركات والجماعات الإسلامية، وفي قضايا الشرق الأوسط. شارك في تأليف كتاب "الإسلاميون في الأردن: الدين والدولة والمجتمع"، كما حرر عددًا من الإصدارات البحثية من أبرزها "الحوزة والدولة: الإسلام الشيعي.. أسئلة السلطة والمرأة والجيوبولتيك". حاصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من الجامعة الأردنية.

زر الذهاب إلى الأعلى