الجهادية العالمية تنتعش بفضل جائحة “كورونا”

في الوقت الذي عانت فيه “الجهادية العالمية” من صعوبات عملياتية بالغة في إعادة التكيّف الهيكلي والمالي وتنشيط عمليات الدعاية والاستقطاب والتجنيد الضرورية لمواصلة التمدد والانتشار وتنفيذ الهجمات في ظل تركيز الجهود العالمية والمحلية أولوياتها على المخاطر “الإرهابية” الأمنية، حلّت جائحة فيروس كورونا المستجدّ (كوفيد 19) في أسوأ وقت لمنطقة الشرق الأوسط، مانحة ممثلي “الجهادية العالمية” الأبرز  تنظيم “الدولة الإسلامية” وتنظيم “قاعدة الجهاد” فرصة مثالية نادرة لاستثمار الوباء للانبعاث من جديد، فقد استثمرت الجهادية العالمية حالة الفوضى والانشغال العالمي بأولوية الحفاظ على الصحة العامة من منطلق وبائي أولا، ثم بإعادة تشغيل المحرك الاقتصادي العالمي ثانيا، وبات الاهتمام  بحرب “الإرهاب” في مرتبة ثالثة.

تشير استجابة الجهادية العالمية لجائحة كورونا إلى تفوق تنظيم “الدولة الإسلامية” على تنظيم “قاعدة الجهاد” على كافة المستويات النظرية والعملية، وهو ما يعكس صعود نهج “داعش” وانحسار نهج “القاعدة” الذي ظهر جليا منذ 2013، فقد اقتصرت استجابة تنظيم “القاعدة” على إصدار بيانات دعائية وتنفيذ بعض الهجمات المحدودةـ، حيث نشرت القيادة العامة لتنظيم القاعدة المركزي في أفغانستان بياناً في ٣١ مارس ٢٠٢٠، بعنوان “السبيل لخروج البشرية من بطن الحوت: وصايا ومكاشفات بشأن وباء كورونا”، تضمن خطابا تقليديا حول تفوق “الإسلام” في التعامل مع الجوائح واعتبارها عقابا إلهيا، ولم يدعو تنظيم القاعدة أتباعه للقيام بعمليات إرهابية، وكانت استجابة مختلف فروعه  مماثلة  مع تنفيذ هجمات محدودة خاصة “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” في مالي، و”حركة الشباب المجاهدين” في الصومال، و”قاعدة الجهاد في جزيرة العرب” في اليمن.

أظهر تنظيم “الدولة الإسلامية” تفوقا كبيرا في التعامل مع جائحة “كورونا”، فقد تكيّف بسرعة كبيرة مع تعمّق الأزمة الصحية التي خلقها “كوفيد-19″، وتمكن خلال فترة وجيزة من تحويل محنة الوباء إلى فرصة ومنحة، حيث اتخذ منذ البداية إجراءات مشددة وأصدر لمقاتليه ارشادات ملزمة، أتبعها بسلسلة هجمات واسعة في مختلف ولاياته المنتشرة في بلدان عدة، وقد تعامل مع الوباء بحذر شديد، وتدرجت خطواته بصورة واضحةـ، ففي 27 فبراير 2020 نشر تنظيم “الدولة” أول مرة عن فيروس الكورونا في العدد (223) من صحيفة التنظيم الأسبوعية النبأ في افتتاحيته بعنوان “ضل من تدعون إلا إياه”، ثم أصدر التنظيم في العدد (225) من صحيفة  النبأ في  12مارس 2020  توجيهات تحت عنوان “توجيهات شرعية للتعامل مع الأوبئة”، وتضمنت توجيهاته  “الأخذ بأسباب الوقاية من الأمراض واجتنابها”، كتغطية الفم عند التثاؤب والعطاس، غسل اليدين، وعدم الدخول إلى أو الخروج من منطقة موبوءة، وفي العدد التالي (226) من النبأ بتاريخ 19مارس 2020 ، اعتبر التنظيم هذا الوباء  “أسوأ كوابيس الصليبيين” في الافتتاحية التي حملت ذات العنوان، حيث دعا التنظيم إلى استغلال انشغال العالم والغرب خاصة بهذا الوباء لتنظيم هجمات وإطلاق سراح سجناء التنظيم.

قبل حلول جائحة “كورونا” برهن تنظيم “الدولة الإسلامية” على أنه من أكثر التنظيمات الجهادية تطورا على صعيد تماسك الهيكلية التنظيمية والصلابة الإيديولوجية، فقد شكّل ذروة تطور غير مألوفة في نشاط الجماعات “الجهادية” العالمية، وبدت هيكليته وإيديولوجيته مبتكرة في العديد من خصائصها واستراتيجياتها، فرغم طرد تنظيم “الدولة الإسلامية” من مناطق سيطرته الحضرية المدينية في العراق وسوريا، وخسارة  آخر جيب مكاني في بلدة الباغوز في محافظة دير الزور في 23 مارس 2018 على يد قوات سوريا الديموقراطية بدعم من قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، فإن التنظيم كان لا يزال يتمتع بقدرات قتالية وتمويلية وإعلامية كبيرة،  ففي إحصائية التنظيم لهجماته منذ سقوط الباغوز حتى 19 مارس 2020، أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مسؤوليته عن أكثر من 2000 هجوم في العراق وسوريا مجتمعة. 

كشفت الوقائع الميدانية ما قبل جائجة “كورونا” عن سرعة تكيّف تنظيم “الدولة الإسلامية” مع التطورت الميدانية، وتمتعه بمرونة شديدة بالتحول من نهج المركزية إلى حالة اللامركزية، حيث تمكن من إجراء إعادة هيكلة تنظيمية على الصعيد العسكري والأمني والإداري والشرعي والإعلامي، فمع نهاية المشروع السياسي للتنظيم كدولة “خلافة”، عاد إلى حالة “المنظمة”، ورجع إلى الاعتماد على تكتيكاته القتالية التقليدية بالاعتماد على نهج الاستنزاف وحرب العصابات، وقد برهنت القيادة الجديدة لتنظيم الدولة عقب مقتل أبو بكر البغدادي في 27 أكتوبر 2019 عن أن القيادة الجديدة بزعامة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي )أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى(، لا يقل دهاء عن البغدادي وربما يتفوق عليه بامتيازات عديدة، والذي  حول قدرات تنظيم “الدولة الإسلامية”، من أجل توكيد أنّ موت البغداديّ لن يعني أبدًا موت التنظيم الّذي استقطب في ذروته قرابة الـ 40 ألف مقاتلٍ أجنبيٍّ من 110 بلدانٍ مختلفة، ويشير تقرير “فريق الرصد”  التابع للأمم المتحدة، والذي أنجز في نهاية ديسمبر 2019 إلى تواصل الدول الأعضاء تقييمها بأن ما بين نصف وثلثيْ الأفراد الذين يتخطى عددهم 40 ألف مقاتل ممن انضموا إلى “الخلافة” لا يزالون على قيد الحياة، وقد أكدت الحكومة الأمريكية والأمم المتحدة وأطراف أخرى أنه يوجد ما يصل إلى 25 ألف مقاتل في العراق وسوريا مجتمعين: حوالي 11 ألف في العراق و 14 ألف في سوريا، فضلا عن أكثر 25 ألف آخرين ينشطون في فروع التنظيم الأخرى المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط.

تشكل الظروف المادية والرمزية التي يخلفها وباء “كورونا” بيئة مثالية للجهادية العالمية والحركات الراديكالية، إذ لم يقتصر تعامل تنظيم “الدولة الإسلامية”  مع جائحة “كورونا” على التوجيهات الصحية والإيديولوجية والإعلامية، فقد باشر بتكثيف هجماته المتنوعة في مركز التنظيم في العراق وبقية فروعه المنتشرة في الشرق الأوسط وغيرها من المناطق،وقد حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس في 10 إبريل الماضي من أن “الوباء يشكل  تهديدا كبيرا لصون السلم والأمن الدوليين، مما قد يؤدي إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية والعنف الذي من شأنه أن يقوض إلى حد كبير قدرتنا على مكافحة المرض، وحذر غوتيريس، من أن تستفيد الجماعات المتطرفة من عمليات الإغلاق بسبب “كوفيد- 19” لنشر الكراهية وتكثيف جهودها على وسائل التواصل الاجتماعي لتجنيد الشباب الذين يقضون المزيد من الوقت على الإنترنت.

في هذا السياق حذرت لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي  في 2 أبريل الماضي من استثمار تنظيم “الدولة الإسلامية” لظروف الدولة وانشغال القوات الأمنية العراقية بمواجهة وباء كورونا المستجد، وقال تقرير اللجنة إن التنظيم شن ثلاثة هجمات متتالية على الجيش وفصائل الحشد الشعبي ما أوقع قتلى وجرحى في صفوف القوات العراقية، وأضاف التقرير أن التنظيم يستغل ظروف الوباء في حرية التحرك صوب المناطق والقرى في المدن الكبيرة شمال وغرب العراق، وأكد تقرير الأمن والدفاع البرلماني أن تنظيم الدولة الإسلامية يحاول استثمار وباء كورونا لتحرير سجنائه، ولذلك شددت السلطات العراقية من إجراءات حراسة السجون التي تأوي عناصر التنظيم، وأشار تقرير لجنة البرلمان إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية حاول استغلال الوباء وأجواء القلق لإعادة عناصره لدخول المدن سيما في الموصل غرب البلاد من خلال انشغال النازحين وخوفهم من إصابة مخيماتهم بالوباء، وقد أعلنت وزارة الدفاع العراقية أن التنظيم كثف من هجماته خلال الأيام القليلة الماضية، وأعلنت القوات الأمنية العراقية في بيان  بتاريخ ٢٨ نيسان الماضي أن عشرة عناصر من قوات الحشد الشعبي قتلوا في هجوم شنه تنظيم “الدولة الإسلامية” بمحافظة صلاح الدين شمال العاصمة العراقية بغداد، وكان التنظيم قد تبنى  تنفيذ عملية انتحارية استهدفت مديرية استخبارات كركوك في ٢٨ نيسان الماضي، خلفت أربعة جرحى،  وقد شن التنظيم عمليات  منسقة عدة في مثلث “كركوك وديالى وصلاح الدين”، وكذلك في الأنبار ونينوى، وبات التنظيم قادرا على شن هجمات داخل احزمة المدن الريفية وفي عمق المدن الحضرية.

إن عودة تنظيم الدولة مجددا للمشهد، بدأ يظهر في شكل عدد متزايد من الهجمات في دول المنطقة، التي تعاني حالة عدم الاستقرار السياسي، مع تركيز الحكومات على خطر الفيروس وضعف الضغط العسكري على التنظيم، فقد أدت جائحة كورونا إلى توقف عمليات مكافحة الإرهاب، مما أنعش تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق،  ففي 19 مارس الماضي قام كل من بعثة التدريب للتحالف الدولي وحلف الناتو بتعليق العمليات العسكرية لمدة شهرين بسبب تفشي فيروس كورونا، وبحلول 29 مارس، سحبت كل من أستراليا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة ونيوزيلندا والبرتغال وهولندا جميع مدربيها تقريباً، وانسحبت الولايات المتحدة من قواعد عملياتها الأمامية في الموصل والقائم والقيارة وكركوك، وأعيد توزيع معظم القوات الأمريكية داخل قواعد عراقية أقل وأفضل حماية مثل قاعدة الأسد ومطار أربيل، على خلفية الصراع بين إيران ومليشياتها في العراق، فقد كثّف تنظيم الدولة الإسلامية من هجماته في العراق ويحاول الاستفادة من أزمات بغداد المتراكمة التي تشمل التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران وانخفاض أسعار النفط والاحتجاجات التي تغطّي البلاد بأسرها، وسوء التفاعل بين القوات المسلحة العراقية في محاربة التنظيم؛ ووباء فيروس كورونا. 

رغم تصاعد هجمات تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، فإن القلق في سوريا يتنامى باطراد، حيث شهدت هجمات التنظيم ارتفاعا واضحا، فقد نفذ التنظيم سلسلة من الهجمات زادت عن 34 هجوما خلال أقل من شهرين توزعت بين الشرق الفرات (مناطق سيطرة قسد) ,وغرب الفرات (مناطق سيطرة القوات الحكومية السورية  وتحديدا في  باديتي حمص الشرقية وديرالزور الجنوبية ومناطق جنوب محافظة الرقة، واستهدفت بشكل رئيسي طريق دمشق/ديرالزور الذي يعتبر من أهم خطوط إمداد قوات النظام في مناطق شرق سوريا، كما طالت هجمات التنظيم الشريط الحدودي بين سوريا والعراق بالقرب من مدينة البوكمال السورية ومدينة القائم العراقية، وقد قتل 11 عنصراً من قوات النظام السوري والمسلحين الموالين له في 7  مايو الماضي في هجوم نفذه التنظيم في البادية السورية، وفي التاسع من أبريل الماضي، قتل 27 عنصراً من قوات النظام والمسلحين الموالين له خلال اشتباكات مع التنظيم الذي شنّ هجوماً مباغتاً على نقاط عسكرية في بادية مدينة السخنة، وثمة مخاوف من أن يتمكن التنظيم من إطلاق سراح الآلاف من مقاتليه في السجون المحلية وعشرات الآلاف من مؤيديه في مخيمات اللاجئين المنتشرة في الشمال الشرقي، مع تنامي محاولات تمرد سجناء التنظيم  في سجن غويران بالحسكة. 

في ظل تركز جهود الحكومة في مصر على مواجهة الوباء، مع تزايد حالات الإصابة بالفيروس بشكل ملحوظ، استثمر تنظيم الدولة الإسلامية ولاية سيناء الجائحة بتكثيف هجماته في سيناء، ففي 1 مايو الماضي  استهدف التنظيم آلية للجيش المصري في شمال سيناء أسفرت عن مصرع وإصابة 10 أفرادـ وقال المتحدث العسكري المصري إن عبوة ناسفة انفجرت بإحدى المركبات المدرعة جنوب مدينة بئر العبد نتج عنها مقتل وإصابة ضابط وضابط صف و8 جنود.

تبدو إفريقيا ساحة واعدة لتنظيم الدولة الإسلامية في زمن جائحة “كورونا”، فقد كثّف التنظيم من هجماته في مناطق غرب أفريقيا ومنطقة الصحراء والساحل، وشرق إفريقيا في الصومال، حيث نشطت فروعه الأكثر تطورا ونشاطا، فقد نفذ فرع التنظيم  في ولاية غرب أفريقيا، سلسلة من الهجمات الدامية  في ولاية “بورنو”، شمال شرقي نيجيريا، وحول بحيرة تشاد، أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة المئات، وشن فرع التنظيم في ولاية وسط إفريقيا هجمات عنيفة ما بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو وصولًا إلى خليج غينيا، وظهر ذلك جلياً في العملية التي استهدف من خلالها 25 جندياً من النيجر في 19 مارس الماضي، بجانب استهداف قوات فرنسية وعناصر أمن ماليين قبل ذلك بيوم واحد، وتمدد التنظيم وشن هجمات في موزمبيق في السابع من أبريل الماضي، أسفرت عن مقتل نحو 52 قرويا في إقليم مضطرب في أقصى شمال البلاد، وكان التنظيم قد استولى على ميناء موسيمبوا دا برايا الاستراتيجي لفترة وجيزة  في 24 مارس الماضي، واستولوا بعد ذلك بيومين على بلدة مهمة أخرى، هي كيسانغا، وفي الصومال تنامت هجمات ولاية شرق إفريقيا، إلى جانب هجمات حركة الشباب.

في أفغانستان كثف “تنظيم “الدولة الإسلامية” ـ(ولاية خراسان) الذي يشكل مركز ثقل التنظيم في جنوب آسيا من هجماته، رغم مواجهته عاما صعبا عقب الاتفاق بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، انتهى بالقضاء على قاعدته في ولاية ننكرهار، لكنه أعاد ترتيب قواته القتالية  البالغة نحو 2500 عنصر، وتتمركز أغلبية عناصر التنظيم حاليا في ولاية كونار، وقد شن التنظيم هجوما في العاصمة الأفغانية كابل، في 5 مارس الماضي أسفر عن سقوط  29 قتيلا و61 جريحا، خلال احتفال كان يشارك فيه عدد من الزعماء والسياسيين الأفغان، بينهم  المرشح الرئاسي عبد الله عبدالله، وتبنى التنظيم في 25 مارس الماضي هجوماً على معبد للسيخ في كابول أسفر عن سقوط 25  قتيلا، وتعرضت قاعدة باغرام الجوية، التي تعد أكبر قاعدة أمريكية في أفغانستان، إلى قصف بالقذائف الصاروخية.

وفي ولاية جنوب شرق آسيا التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، شن التنظيم  في 17 أبريل الماضي بعد شهر من فرض الرئيس الفلبيني، رودريغو دوتيرتي، أوامر الحجر الصحي في جميع أنحاء البلد الواقع جنوب شرق آسيا، هجوما حين فتح مسلحون مرتبطون بـتنظيم الدولة النار على قافلة عسكرية في مقاطعة سولو النائية، وقتل في الكمين 11 جنديًا كانوا يحاولون تنفيذ عملية ضد زعيم التنظيم في الفلبين، وكان هذا الكمين واحداً فقط من عدة هجمات تبناها تنظيم الدولة،  ففي أبريل الماضي، وقع هجومان آخران في دول لم تسجل حكوماتها هجمات يشنها التنظيم بشكل رسمي من قبل، وأعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن إشعال النار في عدة قوارب في جزر المالديف.

 إن الاستجابة السريعة التي أظهرها تنظيم “الدولة الإسلامية” في التعامل مع جائحة “كوفيد-19″، تشير إلى خبرة التنظيم الطويلة باستثمار اختلال الظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد أضاف إليها خبرة جديدة بالتعامل الأوضاع الصحية الاستثنائية، فلطالما كان التنظيم انعكاسا لفشل سياسات “الدولة الوطنية” المحلية الاستبدادية، وسوء تدبير الانقسامات المذهبية والإثنية والخلافات السياسية والإيديولوجية، وضعف الحوكمة، ووبؤس التدخلات الإمبريالية الخارجية، فقد كشف التنظبم منذ تأسيسه عن قدرة فائقة على التكيّف مع التحولات والمستجدات المحلية والإقليمية والدولية، حيث تمكن تنظيم الدولة خلال فترة وجيزة بعد طرده من مناطق سيطرة خلافته الجغرافية من إعادة الهيكلة والعمل كمنظمة لا مركزية، ولا تزال جاذبيته الإيديولوجية مرتفعة، وموارده المالية جيدة، وقدرته على استقطاب المقاتلين على الصعيد المحلي تتنامى.

 في المقابل لا يزال الوضع  السياسي والاقتصادي والأمني في منطقة الشرق الأوسط هشا، ويعاني من ضعف الاستقرار، ففي معظم البلدان التي ينشط فيها التنظيم، وخصوصا في مركزه الرئيس في العراق وسوريا تفتقر القوات الرسمية المحلية إلى الكفاءة والموارد اللازمة في ملاحقة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في إطار تحول التنظيم إلى نهج  الاستنزاف وتكتيكات حرب العصابات، ويشكل ضعف الاستقرار وتراجع عمليات إعادة الإعمار، إلى جانب سوء الحوكمة وسيادة منظومة الفساد وشيوع الاستبداد، وتفشي الطائفية، الحاضنة الكافية لعودة تنظيم الدولة، وفي منطقة رخوة تعاني من التدخلات الخارجية وصراع القوى الإقليمية والعالمية، فإن جائجة “كورونا”  شكلت هدية إضافية لعودة أنشطة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وسط شكوك حول الدور المستقبلي لمهمة التحالف الدولي في الشرق الأوسط، فالجهود الدولية الرامية لمنع عودة تنظيم “الدولة الإسلامية” تبدو حيوية ومطلوبة بشكل أكبر خلال الفترة المقبلة، ويتفق الجميع حول ضرورة مواصلة الحرب على الإرهاب دون التأثر بأية ظروف سواء كانت تتمثل في ظهور فيروس كورونا أو أي ظرفٍ آخر، فتنظيم الدولة سوف يستثمر أي ثغرة تضمن عودته من جديد كما فعل في السابق.

حسن أبو هنية

باحث غير مقيم في معهد السياسة والمجتمع، متخصص في شؤون الحركات الإسلامية، له العديد من المنشورات والإصدارات منها: "المرأة والسياسة من منظور الحركات الإسلامية في الأردن"، مؤلف مشارك في "السلفية الجهادية في الأردن بعد مقتل الزرقاوي: مقاربة الهوية، أزمة القيادة، ضبابية الرؤية"، وبالاشتراك أيضاً كتاب "السلفية المحافظة: استراتيجية أسلمة المجتمع وسؤال العلاقة الملتبسة مع الدولة"، و "الطرق الصوفية دروب الله الروحية: التكيف والتجديد في سياق التحديث"، وبالاشتراك كتاب "الحل الإسلامي في الأردن، الإسلاميون والدولة ورهانات الديمقراطية والأمن"، وبالاشتراك كتاب "تنظيم الدولة الإسلامية: الأزمة السنية والصراع على الجهادية العالمية"، وبالاشتراك كتاب "عاشقات الشهادة: النسوية الجهادية من القاعدة إلى الدولة الإسلامية "، وبالاشتراك أيضاً كتاب: "تنظيم حرّاس الدين: صعود القاعدة وأفولها في المشرق العربي". شارك مؤخرًا في تأليف كتاب "الإسلاميون في الأردن: الدين والدولة والمجتمع".

زر الذهاب إلى الأعلى