من خان إلى ممداني: قيادة المدن الكبرى في مواجهة تراجع الدولة

تعيش المدن الكبرى اليوم مرحلة إعادة تعريف لدورها السياسي والاقتصادي والثقافي، إذ لم تعد مجرد فضاءات عمرانية للسكن والعمل، بل باتت مراكز القرار والتأثير في القضايا الكونية مثل المناخ، والهجرة، والمساواة، والتنمية المستدامة. ومع انكماش قدرة الدولة القومية على احتكار السلطة التمثيلية، تصعد المدينة بوصفها فاعلا مستقلا في السياسة العالمية. في هذا الإطار، تبرز تجربتا صادق خان في لندن وزهران ممداني في نيويورك بوصفهما مثالين على “اليسار الحضري الجديد” الذي يجمع بين الواقعية الإدارية والطموح الاجتماعي، ويعيد صياغة مفاهيم العدالة والمواطنة من منظور حضري متعدّد الثقافات. كلاهما يوظف موقعه كعمدة ليس فقط لإدارة الخدمات، بل لإعادة تعريف معنى السياسة ذاتها في زمن تراجع الأيديولوجيات الكبرى وصعود سياسات المعيشة والكرامة.
يمثّل صادق خان، ابن المهاجرَين الباكستانيَّين من الطبقة العاملة، تجسيدا دقيقا لصعود جيل ما بعد الإمبراطورية البريطانية؛ جيل يستخدم أدوات الدولة نفسها لتصحيح اختلالات التاريخ الإمبريالي. انتقاله من ضواحي لندن الفقيرة إلى مجلس العموم ثم إلى عمادة العاصمة ليس مجرد مسار فردي، بل هو قصة إعادة توزيع رمزي للسلطة داخل المجتمع البريطاني نفسه. فخان يجسّد صورة المواطن الكوزموبوليتاني[1] الذي يوحّد بين الانتماء الوطني والجذور المهاجرة، في رسالة مضادة للخطابات اليمينية والشعبوية التي تسعى لاحتكار الهوية البريطانية.
أما زهران ممداني، فهو ينتمي إلى جيل “الشتات المعولم”،[2] الذي ولد في سياقات ما بعد الاستعمار والتنقل القسري، ويعبّر عن مزيج ثقافي معقّد بين أفريقيا وآسيا وأمريكا. هذا الخليط منح خطابه طابعا عالميا متجاوزا للهويات الصلبة، إذ يطرح المدينة كمجال للمواطنة الكونية لا كمجرد مساحة إدارية. خطابه حول “الحق في المدينة” يستند إلى قناعة بأن العدالة الاجتماعية تبدأ من الأحياء لا من البرلمانات، وأن السياسة يمكن أن تنطلق من الميدان المحلي لتعيد تشكيل وعي وطني شامل.
ينتمي خان إلى تقليد حزب العمال البريطاني الاجتماعي الديمقراطي، الذي يوازن بين مبادئ العدالة والمصلحة الاقتصادية. ورغم خلفيته اليسارية، فإن نهجه الإداري يميل إلى البراغماتية، إذ يفضل حلولا وسطا تضمن الاستقرار الاجتماعي دون الدخول في صدام مباشر مع الحكومة المركزية أو رأس المال.
مقابل ذلك، يجسّد ممداني الوجه التقدّمي الجريء للاشتراكية الديمقراطية داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي؛ فهو لا يتردد في توجيه نقد صريح للبنية الطبقية داخل الحزب الديمقراطي نفسه، ويقدّم سياسات راديكالية مثل تجميد الإيجارات أو تمويل السكن العام من ميزانية المدينة. هذا التباين يسلّط الضوء على اختلاف ثقافة اليسار في البلدين: يسار بريطاني مؤسسي يسعى إلى الإصلاح التدريجي، ويسار أمريكي شاب يطمح إلى إعادة هندسة العقد الاجتماعي من الأساس.
كلاهما، رغم الفروق الأيديولوجية، يعيد إحياء فكرة أن السياسة المحلية ليست مجرد إدارة خدمات بل إعادة إنتاج للشرعية الاجتماعية والاقتصادية داخل المدينة.
المجالات والسياسات الأساسية
- السكن وتكلفة المعيشة: أصبحت أزمة السكن مرآة لعمق التفاوتات الاجتماعية في المدن العالمية. في لندن، ربط خان بين السكن والعدالة البيئية، معتبرا أن التلوث والمضاربة العقارية وجهان لخلل حضري واحد. أطلق برامج إسكان ميسّر تسعى إلى خلق “طبقة وسطى جديدة” داخل المدينة بدل تهجيرها نحو الأطراف. أما ممداني، فاعتبر السكن حقا دستوريا، وذهب أبعد من ذلك بدعوته إلى إنشاء مؤسسات تموّلها المدينة لامتلاك الأبنية وإدارتها. رؤيته تقوم على تحويل السكن من سلعة سوقية إلى خدمة عامة، مما يضعه في مواجهة مباشرة مع مصالح رأس المال العقاري.
- النقل والبيئة: طرح خان رؤيته البيئية في مشروع منطقة الانبعاث المنخفض جدا (ULEZ)، التي اعتُبرت نموذجا عالميا في سياسات المناخ الحضرية. ربط النقل النظيف بالعدالة الاجتماعية عبر جعل تكلفة التنقل أقل للفئات الفقيرة. بينما يقدّم ممداني النقل المجاني كأداة لدمقرطة المدينة؛ فكل مواطن، بغضّ النظر عن دخله، يجب أن يتمكن من التنقل بحرية في الفضاء الحضري. هذا الطرح يجعل العدالة البيئية جزءا من العدالة الاقتصادية، ويحوّل النقل العام من خدمة إلى حق اجتماعي أساسي.
- الهوية والتمثيل: تعامل خان مع التنوع كقيمة إنتاجية وثقافية في آن، مؤكدا أن لندن أقوى بتعدديتها. أما ممداني، فقد استخدم موقعه كابن للهجرة ليعيد تعريف الوطنية الأمريكية من منظور الاحتواء لا الإقصاء، مبرهنا أن العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن العدالة العرقية.
يتلاقى العمدتان في أربعة محاور رئيسية: الانطلاق من خلفية مهاجرة، وتركيز الخطاب على الحياة اليومية، واستثمار الموقع الحضري في الدفاع عن العدالة، والتعامل مع السياسة كحقل تجريبي للابتكار الاجتماعي.
لكن الفارق الجوهري يكمن في طبيعة النظام السياسي الذي يعملان ضمنه: خان يتحرك في بيئة مركزية تقيد سلطاته بقرارات الحكومة البريطانية، في حين يملك ممداني مساحة أوسع للمناورة ضمن النظام الفدرالي الأمريكي. كما أن خان يمثل يسارا إداريا يوازن بين الطموح والإمكان، بينما يرمز ممداني إلى يسار تحويلي يسعى لتغيير قواعد اللعبة نفسها.
المدن كقنوات سياسة خارجية
في السنوات الأخيرة، أصبحت المدن وحدات فاعلة في السياسة العالمية، قادرة على تطوير “دبلوماسية مدينية” تتجاوز الدول. ففوز ممداني بعُمدة نيويورك أتاح له الولوج مباشرة إلى شبكات مثل C40 وICLEI، حيث يجتمع عمدات العالم لتنسيق السياسات المناخية والاجتماعية. هذه الشبكات لا تقتصر على تبادل الخبرات؛ بل تمثل سلطة معيارية جديدة تنتج نماذج تُعتمد دوليا.[3]
تجربة خان في لندن توضح ذلك: مشروع ULEZ تحوّل إلى نموذج تطبقه مدن أوروبية وآسيوية، مما جعل لندن مركزا لتصدير السياسات البيئية. وبذلك، أصبحت المدينة لاعبا دبلوماسيا غير رسمي، يتفاوض عبر القنوات البيئية والاجتماعية لا العسكرية.
يشير التفاعل بين لندن ونيويورك إلى آلية جديدة لتداول المعرفة السياسية تُعرف بـ”التعلّم الأفقي”. فحين تُجرّب مدينة كبرى أداة ناجحة، مثل تسعير الطرق أو دعم النقل، تنتقل التجربة بسرعة إلى مدن أخرى عبر الشبكات الحضرية. في هذا السياق، يمكن اعتبار التقدّمية الحضرية بمثابة “مختبر عالمي للحوكمة”. إذ إن القرارات الصغيرة حول السكن أو البيئة تحمل آثارا تراكُمية تتجاوز الحدود الجغرافية، وتشكل ضغطا على الحكومات القومية لتبني سياسات أكثر عدالة.
في سياق آخر، يمثل انتخاب عمدتين مسلمين في عاصمتين غربيتين لحظة مفصلية في تطور القوة الناعمة. فبدل تصدير القيم عبر الدبلوماسية الثقافية التقليدية، أصبحت المدينة نفسها منصة رمزية تُجسّد قيم التسامح والكرامة والمواطنة العالمية.
تشير تحليلات The Guardian و Manchesterhive إلى أن هذا النوع من القيادة الحضرية يولد “قوة ناعمة من الأسفل”، أي شرعية تستند إلى التجربة اليومية لا إلى الخطاب الرسمي. خان وممداني لا يصدران قرارات خارجية، لكن سياساتهما تُترجم في الإعلام والمنتديات الدولية كرسائل ضمنية عن نوع المدينة والعالم الذي يريدانه.
إن تجارب خان وممداني تجعل من قضايا المعيشة اليومية (السكن، النقل، الأجور) محورا للخطاب السياسي العالمي. فحين تنجح نيويورك في تسويق سياسة للنقل الميسّر، تتلقفها منظمات التنمية الدولية بوصفها “أداة قابلة للتصدير”.
وهكذا، يتشكّل خط عالمي جديد للسياسات الاجتماعية، يجعل العدالة المعيشية مقياسا للشرعية السياسية، ويدمج المحلي بالعالمي في إطار واحد.
تُظهر التجربتان أن التقدّمية الحضرية ليست مجرد اتجاه إداري بل رؤية فكرية جديدة تعيد تعريف السياسة.
- المدينة كمُنتِج للسياسات: تُنتج حلولا عملية تنتقل عالميا بوصفها معرفة تطبيقيّة.
- القوة الناعمة الحضريّة: الشرعية تُبنى على الأداء اليومي لا على الرمزية القومية.
- الشبكات الحضرية كبديل للمنظمات الدولية: تنتج معايير جديدة للمناخ والعدالة الاجتماعية.
- الكرامة المعيشية كإطار جامع: تُعيد ربط المواطن بالمدينة على أساس الحقوق لا الانتماء فقط.
ختاما، يُجسّد كلٌّ من صادق خان وزهران ممداني ملامح يسار عالمي جديد ينشأ من رحم المدينة لا من مكاتب الأحزاب. فالتحديات التي يواجهانها – من السكن إلى الهجرة – ليست محلية فحسب، بل كونية بطبيعتها. وبينما يوازن خان بين القيم والواقع عبر إصلاحات تدريجية، يسعى ممداني إلى هندسة نموذج حضري بديل أكثر جرأة. لكن ما يجمعهما هو الإيمان بأن السياسة تبدأ من الشارع، وأن العدالة الحقيقية تُقاس بقدرة الناس على العيش بكرامة في مدنهم. تجربتاهما معا تُقدّمان نموذجا لتجديد اليسار العالمي من خلال سياسات الحياة اليومية، وتبرزان أن مستقبل السياسة العالمية لن يُرسم في قصور الحكم، بل في البلديات الكبرى التي تدير تفاصيل المعيشة وتبني شرعية جديدة للعالم القادم.
[1] مصطلح يُشير إلى الفرد الذي يرى نفسه جزءًا من جماعة إنسانية عالمية تتجاوز الحدود القومية، ويوازن بين انتمائه المحلي وانفتاحه العالمي. يرتبط المفهوم بفلسفة الكوزموبوليتانية التي تدعو إلى التضامن الإنساني والمواطنة الكونية، وتُعد المدن الكبرى فضاءها الطبيعي لتمثّل هذا النمط من الهوية والانتماء.
[2] يُقصد به الجيل الثاني أو الثالث من أبناء المهاجرين الذين نشأوا في بيئات متعددة الثقافات بعد العولمة، ويحملون هويات هجينة تتجاوز الانتماء القومي الأحادي. يتميّز هذا الجيل بقدرته على التحرك بين لغات وثقافات وأنظمة اجتماعية مختلفة، وبنزعة نقدية تجاه الحدود التقليدية للهوية والوطن، ما يجعله أكثر انفتاحًا على مفاهيم المواطنة الكونية والعدالة العابرة للحدود.
[3] C40 وICLEI شبكتان عالميتان من المدن تهدفان إلى التعاون في قضايا المناخ والتنمية المستدامة.
