تركيا والقوى الدولية الكبرى بعد الانتخابات

يأتي هذا المقال ضمن ملف شامل يقدمه معهد السياسة والمجتمع يتحدث عن الانتخابات التركية يتضمن سلسلة من المقالات وندوة موسعة تطرح تساؤلات تقودنا لفهم المشهد الانتخابي التركي ضمن أهم انتخابات تشهدها الساحة التركية كما يصفها الاعلام العالمي.

تمثل الانتخابات التركية التي ستجري في 15مايو/أيار الجاري اختبارًا حقيقيًّا ليس فقط لمستقبل الرئيس الحالي رجب طيب اردوغان أو مستقبل العلمانية التي غلب عليها في ظل حكم حزب العدالة والتنمية صبغةً “محافظة”، بل ستكون حاسمة أيضًا لمكانة تركيا الإقليمية والدولية والتي أخذت تتبلور في العشرين عامًا الأخيرة.

لربما من المرجح أن تمر العلاقات التركية بالقوى الدولية المؤثرة بمرحلة تحدٍّ كبيرة، ذلك التحدي الذي قد يتراوح ما بين الاستمرار في الخط الذي انتهجه حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، والقائم على ضرورة الاعتراف الدولي بمكانة تركيا مع خلق حالة من التوازن في علاقات تركيا الدولية بعيدًا عن السطوة الغربية، أو خيار العودة إلى الدور التقليدي قبل وصول الحزب إلى الحكم عام 2002 والذي يمكن وصف دور تركيا في تلك المرحلة بالدور الثانوي في السياسة الدولية في ظل دعم غربي كامل للجيش التركي للسيطرة والنفوذ على حساب بناء مؤسسات تركية حقيقية قادرة على مواجهة الجشع الغربي القائم على خلق دولة تتماهى كليًّا مع مصالحه.

شكلت الحرب الروسية – الأوكرانية مؤخرًا فرصةً كبيرة جدًّا لتمارس تركيا أدوارًا دولية متعددة، حيث فرضت تركيا نفسها كوسيط ناجح وخاصة فيما يتعلق بصفقة الحبوب -على سبيل المثال لا الحصر-، مما أجبر الدول المعنية على تقدير الدور التركي، لتثبت بذلك تركيا أنها تستطيع أن تنتزع احترام روسيا والغرب في آن معًا.


هذه المعادلة التي اتبعتها تركيا تقود إلى أن الحاجة الروسية لتركيا من المؤكد أنها ستستمر تحت قيادة حزب العدالة والتنمية؛ لإدراك روسيا بطموحات أردوغان والقائمة على علاقات ندية مع الغرب لا تبعية مغرقة، بعكس ما هو متوقع من مرشح الطاولة السداسية المعارضة كليجدار أوغلو إذا ما استطاع الظفر برئاسة الجمهورية.
أما في إطار الحديث عن العلاقات التركية – الامريكية، فعلى الأرجح أنها ستستمر بنفس الشكوك والمخاوف من قبل الطرفين إذا ما فاز الرئيس أردوغان، إلا أن واشنطن لن تجازف في الضغط المباشر على أنقرة هذه المرة؛ لإدراكها الخسائر المترتبة على ذلك في ظل تراجع واضح للنفوذ الأمريكي في المنطقة، مما سيدفع الولايات المتحدة الأمريكية بالقيام بمراعاة المصالح التركية مع امتعاض شديد خاصة بعد المراوحة الاستراتيجية التركية فيما يتعلق بعضوية الناتو لكل من فنلندا والسويد. وإذا استطاع الرئيس التركي الحالي أن يعيد رسم العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية ضمن أطر جديدة سواء العسكرية منها أو الاستراتيجية سيقودنا ذلك إلى الاستنتاج القائم على أن الولايات المتحدة الامريكية تمني النفس في رؤية مرشح المعارضة رئيسًا لتركيا لما لذلك من انعكاسات مهمة لرؤية الولايات المتحدة التي تسعى أن تكون حاضرة فيما يخص الدور المستقبلي للدولة التركية.


أما ما يتعلق بالعلاقات التركية مع الدول الأوروبية، فإنها ستجد نفسها مرغمة على التعامل مع رئيس استثنائي إذا ما فاز اردوغان بالانتخاب خاصة وأن الأوروبيين قد خبروه رئيسًا عنيدًا استطاع أن يضع مصلحة شعبه وبلده بالتساوي مع ما يؤمن به الغربيون لشعوبهم وبلدانهم. أما إن كانت النتيجة خلاف ذلك، سنجد أوروبا تتنفس الصعداء، ولن تصبح قضايا حقوق الانسان في تركيا وحقوق الصحافيين حاضرة وبقوة أو مسألة ذات بال. كما أن كل المصالح التي يتطلع الأوروبيون لتحقيقها من تركيا ستصبح سهلة المنال.


ستركز تركيا على زيادة نفوذها في آسيا الوسطى إذا ما فاز الرئيس الحالي في الانتخابات القادمة لما لها من أهمية استراتيجية واقتصادية كبرى انعكست إيجابًا على متانة الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة. ولكن ليس واضحًا أن تهتم تركيا بهذا المحور الدولي إذا ما فاز مرشح المعارضة. أما الصين فهي شريك تجاري مهم لتركيا وليست حليفًا يعتمد عليه لكلا المتنافسين في الانتخابات القادمة.


عربيًّا، هناك تنازع شعبي ورسمي على مستقبل العلاقات العربية – التركية؛ فالغالبية العظمى من الأنظمة الرسمية العربية تتطلع إلى فوز مرشح المعارضة تخفيفًا لوطأة النفوذ التركي في مخيال الشعوب العربية، حيث ترى أغلبية لا بأس بها من شعوب العالم العربي أن تركيا أردوغان قد شقت عصا الطاعة الغربي وقدمت نموذجًا تنمويًّا يمكن الاحتذاء به إذا ما توفرت الإرادة السياسية. وبذلك أصبحت تركيا بقيادة الرئيس الحالي عبئًا ثقيلًا على النظام الرسمي العربي ليس فقط من حيث النموذج التنموي ولكن من حيث الأداء السياسي للدولة التركية في السنوات الماضية والذي أثبتت تركيا من خلاله أن الدولة الواثقة من نفسها تستطيع أن تنتزع مكانتها بين الأقوياء ولا تنتظر من الآخرين تحديد موقعها ومستقبلها في السياسة الدولية.

إن الدول المؤثرة وذات النفوذ السياسي في الساحة الدولية تعلم أنها تعاملت مع رئيس تركي استثنائيّ في العشرين عامًا الأخيرة، حيث لم يعتد الغربيون خاصة على هذا النوع من الزعماء الأتراك طيلة فترة العلاقة الغربية التركية لعقود طويلة. فقد تحولت تركيا في عهد الرئيس أردوغان إلى دولة فاعلة وفرضت نفسها اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وعسكريًّا، وتجاريًّا بقوة لم يجد الغرب معه بُدًّا إلا الاعتراف بهذا لدور. لهذا، إذا ما فاز أردوغان فإنه لن يسمح بالتعامل معه كرئيس تابع وإنما سيضطر الغرب للتعامل معه كحليف لا غنى عنه في كثير من المواقع والأحداث التي يمر بها العالم.

بدر ماضي

مستشار أكاديمي في معهد السياسة والمجتمع، وأستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الألمانية – الأردنية. حاصل على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة اليرموك، ودرجة الماجستير في علم الاجتماع السياسي من الجامعة الأردنية، ودرجة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي من جامعة بريغهام يونغ في الولايات المتحدة الأمريكية. عمل في الديوان الملكي الهاشمي، ثم التحق بقسم العلوم السياسية في الجامعة الأردنية، يركز في أبحاثه على القضايا السياسية في الأردن والمنطقة العربية، وخاصةً التحول الديمقراطي، وحقوق الإنسان، ومشاركة الشباب في الحياة السياسية وقد نشر العديد من الكتب والمقالات في هذه المجالات.

زر الذهاب إلى الأعلى