العرش الأردني: بين إدارة المخاطر وترسيخ الشرعية في زمن الإقليم المأزوم

يأتي خطاب العرش لجلالة الملك عبد الله الثاني في لحظة سياسية دقيقة محليا وإقليميا، تتقاطع فيها تحولات الداخل الأردني مع اشتعال الإقليم، وتتصاعد فيها تحديات الإصلاح السياسي والاقتصادي مع ضغوط اجتماعية ومعيشية متنامية. في مثل هذه اللحظات، لا يكون خطاب العرش مجرّد افتتاح دستوري لدورة برلمانية، بل يتحوّل إلى مرآة للسياسات العليا للدولة، وإلى وثيقة تعبّر عن أولويات الحكم واتجاهات الدولة في إدارة المخاطر وصون الاستقرار.

الخطاب يحمل بين سطوره رسائل مزدوجة: طمأنة داخلية، وتثبيت خارجي لموقع الأردن كفاعل متزن في الإقليم. يتحدّث الملك بلغة وطنية حازمة تُعيد تعريف “الوطن” بوصفه كيانا مقاوما للظروف، ويستخدم ضمير الجماعة (“علينا”، “نحن”) لتجديد التعاقد الرمزي بين الدولة والمجتمع. وبذلك، يتجاوز الخطاب وظيفة الاحتفال الدستوري ليصبح بيانا سياسيا لإدارة مرحلة قادمة من التحديث تحت الضغط.

تموضع الخطاب في لحظته: لماذا الآن؟

يأتي خطاب العرش في لحظة تتقاطع فيها الضغوط المحلية والإقليمية، حيث تتشابك خطوط الأزمة السياسية في المنطقة مع التحديات البنيوية التي يواجهها الداخل الأردني. فهو خطاب وُلد في سياق “مركّب”، تتداخل فيه عوامل الإقليم والمجتمع والأمن الوطني.

على الصعيد الإقليمي، يتزامن الخطاب مع تصاعد غير مسبوق في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، حيث تحوّلت غزة إلى رمز إنساني وسياسي يختبر ضمير العالم، فيما تتعمّق الانتهاكات في الضفة الغربية والقدس، لتعيد ترتيب أجندة الأمن الإقليمي وتضع الأردن في موقع بالغ الحساسية. فالمملكة ليست مجرد جار جغرافي لفلسطين، بل طرف تاريخي في معادلتها السياسية والرمزية. بحكم الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وبحكم الارتباط الشعبي الوجداني بين الضفتين، يجد الأردن نفسه أمام مسؤولية مزدوجة: الدفاع عن الموقف المبدئي من العدالة والكرامة، وحماية استقراره الداخلي من ارتدادات الإقليم. ومن هنا، يتّخذ الخطاب الملكي نبرة مزدوجة تجمع بين الصلابة القيمية والبراغماتية الواقعية، ليؤكد أن “الموقف الأردني راسخ لا يلين”.

أما داخليا، فيأتي الخطاب في لحظة سياسية حساسة تتقدّم فيها مسارات “رؤية التحديث الاقتصادي والسياسي” كعنوان رئيسي للمرحلة التي يسعى الملك إلى ترسيخها منذ 4 أعوام. إلا أن هذه الرؤية الطموحة تواجه واقعا اقتصاديا صعبا؛ بطالة مرتفعة، وضغط معيشة متزايد، وتحديات مزمنة في كفاءة الإدارة والخدمات العامة. لذلك، يتبنّى الخطاب وظيفة تعبئة وتحفيز، إذ يعيد توجيه النقاش الوطني نحو “العمل والانضباط” كشرط للإصلاح. فالجملة المحورية “لا نملك رفاهية الوقت” تختصر فلسفة المرحلة، حيث يتحوّل الزمن نفسه إلى مورد نادر لا يحتمل التردد أو المراوحة، في محاولة لتعبئة البيروقراطية والمجتمع معا حول منطق الإنجاز لا الانتظار.

أمنيا، يتّسع الحيّز الأمني في الخطاب بما يتجاوز المفهوم التقليدي للأمن العسكري. فبينما يواجه الأردن تحديات حدودية مع سوريا والعراق، تتنامى في الوقت نفسه ظواهر التهريب، وتتحرك في الإقليم موجات اضطراب يصعب التنبؤ بمدياتها. غير أن الخطاب لا يتعامل مع الأمن بلغة القلق، بل بلغة الثقة. فاستحضار الجيش العربي وعبارات مثل “رجال مصنع الحسين، درع مهيب” تعيد صياغة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع باعتبارها علاقة انتماء وحماية متبادلة.

تلتقي هذه الدوائر الثلاث – الإقليمية، والداخلية، والأمنية – في لحظة ضاغطة تصوغ ملامح المرحلة الجديدة. فالخطاب لا يهدف إلى التهدئة الخطابية بقدر ما يسعى إلى إعادة ترتيب أولويات الدولة الأردنية في بيئة إقليمية متوترة ومجتمع يطالب بنتائج ملموسة.

الإطار التحليلي: الخطاب كأداة حكم

يتجاوز خطاب العرش في بنيته ووظيفته كونه مجرد بيان سياسي موجه إلى البرلمان أو الرأي العام، ليغدو أداة من أدوات الحكم وإدارة المجال العام في لحظة تحوّل مزدوجة: داخليا نحو التحديث، وإقليميا نحو التكيف مع بيئة أمنية متغيرة. ومن منظور تحليل الخطاب النقدي (CDA) كما يطرحه فيركلوف، يمكن قراءة النص الملكي من خلال ثلاثة مستويات مترابطة: مستوى النص بما يتضمنه من مفردات وصيغ ودلالات لغوية؛ ومستوى الممارسة الخطابية المرتبط بكيفية إنتاج الخطاب وتلقيه داخل إطار مؤسسي رمزي؛ ومستوى السياق الاجتماعي والسياسي الذي يمنح النص معناه ويحدّد وظيفته. هذه المستويات الثلاثة لا تُفهم بمعزل عن بعضها، إذ يعمل كل منها كعدسة تكمّل الأخرى في تفكيك العلاقة بين اللغة والسلطة والمعرفة.

فعلى مستوى النص، يتضح أن الخطاب يشتغل ضمن معجم لغوي مفعم بمفردات الواجب والانضباط والضرورة، حيث تُستبدل اللغة التبريرية بلغة الحزم. لا مجال في النص لتوصيفات عاطفية أو تبريرات ظرفية، بل تركيز متواصل على الفعل والتوجيه: “علينا أن ننهض”، “علينا أن نستمر”، “لا نملك رفاهية الوقت.” هذه التكرارات ليست مصادفة بل هي جزء من ما يسميه فيركلوف “الاستراتيجيات اللغوية للهيمنة الناعمة”، إذ تُستخدم اللغة هنا لإنتاج توافق طوعي مع أهداف السلطة من خلال خطاب مسؤولية مشتركة. فبدل أن يصدر الأمر من الأعلى، يُعاد توزيعه لغويا بحيث يبدو كواجب جماعي يشارك فيه الجميع.

أما على مستوى الممارسة الخطابية، فإن الخطاب يُلقى ضمن مناسبة دستورية تمثل ذروة الرمزية في الحياة السياسية الأردنية: افتتاح الدورة البرلمانية. هذه المناسبة ليست مجرد إجراء بروتوكولي، بل فضاء مؤسسي يتم فيه تجديد الشرعية وتأكيد استمرارية العقد السياسي بين القيادة والدولة والمجتمع. في هذا السياق، يصبح الأداء اللغوي للملك نفسه جزءا من عملية الحكم، إذ يعيد إنتاج التوازن بين الدستور كمنظومة شكلية، والإرادة السياسية كقوة موجهة. إن الخطاب هنا لا يشرح السياسة بقدر ما يُنتجها، فهو يضع البرلمان في موقع التكليف، والشعب في موقع الشريك، والدولة في موقع الفاعل الأخلاقي الذي يسعى للإصلاح دون تراخٍ أو تردد.

وعلى مستوى السياق الاجتماعي والسياسي، فإن البيئة التي يُنتج فيها الخطاب تشهد تداخل أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية. في مثل هذا السياق، تصبح اللغة أداة لتثبيت الاستقرار من خلال إعادة تعريف القلق الجماعي. فالملك يعترف بأنه “يقلق”، لكنه يحدّد نوع القلق المسموح به: قلق منتج، لا خوف مشلول. بهذه الجملة القصيرة، يُعاد ضبط المزاج الوطني وتطبيع فكرة القلق بوصفه محرّكا للفعل لا دلالة ضعف. إنها صيغة بلاغية تتحول إلى أداة حكم في حد ذاتها، لأنها توجّه طريقة تفكير الناس بالزمن والمستقبل.

أما من منظور ميشيل فوكو، فإن الخطاب في مثل هذه اللحظات ليس فقط وسيلة للتعبير عن السلطة، بل هو أحد أشكال ممارستها. فالحاكم في المنظور الفوكوي لا يُمارس سلطته عبر الإكراه المباشر، بل من خلال إعادة تشكيل وعي الأفراد بمفاهيم مثل الزمن، الواجب، والسلوك العام. وهنا، يتجلى الخطاب الملكي كآلية من آليات “الحكمانية” الحديثة التي تدير السكان عبر المعاني لا الأوامر. فحين تتكرر العبارات الزمنية مثل “الوقت ليس في صالحنا”، و”علينا أن نستمر”، يتم تحويل الزمن إلى سلطة موازية للقانون، وخلق إحساس جمعي بالعجلة والمسؤولية. هذه التقنية الخطابية تُنتج طاعة طوعية لأنها تُقنع المواطن بأن الانضباط ليس فرضا من فوق، بل استجابة طبيعية لضرورة موضوعية.

يتّضح من هذا التحليل أن الخطاب الملكي يقوم بوظيفتين متكاملتين: الأولى رمزية، إذ يعيد تثبيت شرعية النظام السياسي عبر لغة الوجدان الوطني والتاريخ المشترك؛ والثانية تنظيمية، إذ يستخدم المفاهيم والقيم لإدارة السلوك الجمعي وتوجيهه نحو أولويات الدولة. وبهذا المعنى، يغدو الخطاب الملكي أداة حكم متكاملة تجمع بين الرمز والسياسة، بين اللغة والإدارة، وبين الهيمنة والإقناع. إنه نموذج لما يمكن تسميته في علم السياسة بـ “القيادة عبر الخطاب”، حيث لا تُمارس السلطة بالقرارات فقط، بل أيضا بتعريف ما هو ممكن، وما هو ضروري، وما هو مؤجل.

يجب الأخذ بعين الاعتبار بأنه من الناحية التداولية، نجاح الملك في الانتقال من لغة التوجيه إلى لغة المشاركة لا يلغي الحاجة إلى آلية مؤسسية لترجمة المشاركة إلى قرار، أي تطوير قنوات دائمة للحوار والمساءلة تضمن أن “الطاعة الطوعية” تتحول إلى “مواطنة فاعلة”.

البنية التداولية: من “أنا الملك” إلى “نحن الدولة

يتأسس خطاب العرش على تحوّل تداولي مدروس في البنية اللغوية، حيث ينتقل المتحدث من ضمير الفرد إلى ضمير الجماعة في حركة دلالية مقصودة تُعيد رسم العلاقة بين القيادة والشعب والدولة. يبدأ الخطاب من لحظة إنسانية خاصة تجسّدها عبارة “يقلق الملك”، ليُخرج القائد من دائرة التقديس البارد إلى فضاء المشاركة الشعورية. لكن هذا القلق لا يُقدَّم كعلامة ضعف، بل كمدخل لبناء الثقة: “نعم، يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله، ولا يهاب شيئا وفي ظهره أردني.” هنا يُعاد تعريف القلق ذاته بوصفه فعلا قياديا مسؤولا، فيتحوّل من انفعال ذاتي إلى طاقة تعبئة جماعية. هذه الصياغة البلاغية المزدوجة تنقل الخطاب من ضمير “الأنا” إلى ضمير “النحن”، ومن سلطة الفرد إلى روح الدولة، فيُعاد توزيع القوة على مساحة الوطن كله.

هذا التحول التداولي يعبّر عن استراتيجية لغوية وسياسية في آن واحد. فالضمير الجمعي لا يُستخدم هنا كزينة بلاغية، بل كوسيلة لخلق ما يمكن تسميته “الشرعية الشعورية”، أي الشرعية التي لا تستند إلى النصوص الدستورية أو الإنجازات المادية فحسب، بل إلى إحساس المواطن بأنه جزء من القرار والمصير. “في ظهره أردني” ليست مجرد استعارة، بل صيغة هوية متبادلة: القائد يستمد قوته من شعبه، والشعب يجد في الملك تجسيدا لإرادته الوطنية. بهذه الطريقة، يُستبدل منطق “الولاء” بمنطق “الشراكة”، وهو تحول نوعي في خطاب الدولة الحديثة التي لم تعد ترى المواطن متلقّيا للسياسات، بل شريكا في صناعتها.

ومن زاوية تحليل الخطاب السياسي، يحقّق هذا التحوّل في الضمائر وظيفتين تداوليتين واضحتين. الأولى هي تعميم المسؤولية، إذ تُترجم عبارات مثل “علينا أن ننهض” و”علينا أن نستمر” إلى دعوة جماعية لتحمّل العبء الوطني. والثانية هي تفكيك الفجوة السلطوية بين القيادة والمؤسسات المنتخبة. فحين يخاطب الملك مجلس الأمة قائلا: “أمام هذا المجلس مسؤولية متابعة ما تم إنجازه في مسار التحديث السياسي”، فإنه لا يوجّه أوامر من مركز القوة، بل يضع البرلمان في موقع الفاعل ضمن هندسة أوسع لإنتاج السياسات العامة. بهذه اللغة التكليفية الهادئة، يُعاد تموضع البرلمان من كيان شكلي إلى ذراع تنفيذية تشاركية مسؤولة أمام الوطن لا أمام القصر.

إن الخطاب، في هذا المستوى، لا يقدّم صياغة لغوية فحسب، بل يبني هندسة رمزية جديدة للعلاقة بين الدولة ومواطنيها. فـ”أنا الملك” ليست مركزا مطلقا للقرار، بل نقطة انطلاق نحو “نحن الدولة” التي تُعرَّف من خلال قيم مشتركة: الإيمان بالله، والولاء للوطن، والعمل من أجل الصالح العام. هذه النقلة التداولية تشكّل نواة الخطاب الملكي المعاصر، حيث تُعاد كتابة السلطة بلغة القرب، ويُعاد تأطير القيادة كفعلٍ جماعي لا يكتمل إلا بشراكة المواطنين. وهنا تتجلّى قوة الخطاب السياسية: تحويل اللغة إلى عقد رمزي يُعيد إنتاج الثقة، ويُحوّل الانتماء من شعور عاطفي إلى مسؤولية مشتركة تجاه الدولة ومصيرها.

إن  خطاب “القلق” الإنساني الذي تبناه الملك بذكاء يعزّز القرب من الشعب، لكنه يحمل مخاطرة تحويل العاطفة إلى بديل عن السياسة إذا لم يُرافقه أداء حكومي يوازي هذا التعاطف بلغة الأرقام والنتائج. كما يُوصى بأن تُعمّق الدولة في خطابها المقبل هذا التحول من “الأنا” إلى “النحن” عبر توسيع المشاركة السياسية والإعلامية، وإشراك المجتمع المدني في عملية صنع القرار بما يتجاوز الرمزية إلى الممارسة الفعلية.

الحقول الدلالية المهيمنة

يُظهر الخطاب الملكي بنية دلالية متماسكة تقوم على ثلاث مجموعات من المفردات التي تتكرر وتتعاضد لتؤسس معا منظومة المعنى السياسي والأيديولوجي الكامنة خلف النص. هذه الحقول ليست مجرد مفردات عابرة، بل هي محاور فكرية تحدد هوية الخطاب ووظيفته في إنتاج الشرعية وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها ودورها الإقليمي.

المجموعة الأولى تتمحور حول الوطن – الأردني – الجيش، وهي تمثل الركيزة الأساسية للشرعية الداخلية. فالوطن هنا ليس كيانا إداريا أو جغرافيا، بل فكرة جمعية تتجاوز حدود السياسة لتلامس البعد الوجداني والرمزي. الأردني في الخطاب ليس متلقّيا للسياسات العامة، بل شريك في صنعها، وهو الحارس الأول لمكانة الدولة وصورتها. أما الجيش، فيقدَّم كالتجسيد الأعلى لهذه العلاقة الثلاثية، بوصفه سياج الوطن ودرعه المنيع. إن استدعاء الجيش في خطاب سياسي داخلي ليس تفصيلا رمزيا، بل هو إعادة تثبيت لركيزة “الأمن كهوية”، حيث يُعاد تعريف الأمن الوطني بوصفه علاقة بين الدولة ومواطنيها تقوم على الثقة والانضباط والانتماء. فعبارات مثل “رجال مصنع الحسين” و”درع مهيب” لا تصف مؤسسة عسكرية فحسب، بل تحيل إلى منظومة قيم وطنية تجعل من الجيش رمزا للاستمرارية في عالم مضطرب. في هذا الحقل الدلالي، يتماهى المواطن والجيش والوطن في مثلث واحد يُعيد إنتاج صورة الأردن كدولة متماسكة رغم الأزمات، وككيان تُمثّل فيه القوة امتدادا للأخلاق لا للعنف.

أما الحقل الثاني فيدور حول الإصلاح – التحديث – العمل، وهو ما يشكّل البعد المستقبلي للخطاب. فالإصلاح في هذا السياق لم يعد مجرد شعار سياسي يرفع في وجه الضغوط الداخلية أو الدولية، بل أصبح مشروعا وطنيا شاملا يُقدَّم باعتباره واجبا جماعيا. وهنا تتضح استراتيجية الخطاب في الانتقال من الإصلاح بوصفه “مطلب نُخبوي” إلى كونه “مسؤولية مواطِنية”. فحين يتحدث الملك عن تطوير التعليم والنظام الصحي وقطاع النقل والقطاع العام، فإن اللغة لا تتوجه إلى الوزراء فحسب، بل إلى المواطن الذي يُطالَب بأن يكون جزءا من عملية التحديث، شريكا لا متفرجا. بهذا المعنى، يُعيد الخطاب صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس عقد اجتماعي جديد، يقوم على المقايضة بين التزام الدولة بتوفير بيئة تنموية وفرص حياة كريمة، والتزام المواطن بالمشاركة والانضباط والإنتاجية. فالتحديث لا يُقدَّم كسياسة حكومية، بل كفلسفة وطنية شاملة تنقل الإصلاح من المكاتب إلى الشوارع والبيوت والمدارس. وهو أيضا أداة لإعادة بناء الثقة بين السلطة والمجتمع، من خلال الوعد بأن ثمار التحديث ستلمسها الفئات العادية لا النخب وحدها.

أما الحقل الثالث فيتمثل في مجموعة غزة – الضفة – القدس – الوصاية، وهي المفردات التي تشكّل الامتداد الإقليمي للشرعية الأردنية. في هذا المستوى، يربط الخطاب الداخل الوطني بدور الأردن التاريخي والديني في الإقليم، ويعيد تذكير الداخل والخارج على حد سواء بأن هوية المملكة ليست منغلقة على ذاتها، بل متجذّرة في رسالتها القومية والدينية. فالدفاع عن القدس ليس واجبا دبلوماسيا بل جزء من الهوية الأردنية، إذ تمتزج الوصاية الهاشمية بالمقدسات مع مفاهيم الشرف والكرامة والالتزام التاريخي. أما غزة، فتتحوّل في الخطاب إلى مرآة أخلاقية تُختبر فيها الإنسانية والسياسة معا، إذ يؤكد الملك أن “الأردن سيبقى إلى جانب أهل غزة بكل إمكانياته.” هذه اللغة تتجاوز التضامن الإنساني لتكرّس دور الأردن بوصفه حاملا لـ “الشرعية الأخلاقية” في النظام العربي، وهي شرعية ناعمة لكنها مؤثرة، تمكّنه من لعب دور الوسيط الموثوق، والحارس للقيم والمقدسات في وقت تنزاح فيه موازين القوة من الأخلاق إلى المصالح. بهذا التشكيل اللغوي، يصبح الحقل الإقليمي امتدادا للحقل الوطني؛ فكما أن الجيش يحمي حدود الوطن، تحمي الوصاية الهاشمية حدود الهوية والكرامة في الإقليم.

إن هذه الحقول الدلالية الثلاثة تتفاعل فيما بينها لتؤلف سردية كلية متماسكة. فالوطن والجيش يشكّلان الإطار الواقعي للشرعية، والإصلاح والتحديث يمنحانها بُعدها المستقبلي، بينما تمنحها القدس وغزة بعدها الرمزي العابر للحدود. هكذا يُعاد بناء صورة الأردن كدولة ترتكز على ثلاث ركائز: قوة الانتماء، دينامية التحديث، وعمق الرسالة. وبهذا المعنى، لا تُستخدم المفردات في الخطاب الملكي كمجرّد أدوات تواصل، بل كوسائل لإنتاج المعنى السياسي وتثبيت موقع الأردن في معادلة داخلية وإقليمية معقدة.

الاقتصاد السياسي للخطاب

يقدّم الخطاب الملكي معادلة دقيقة تجمع بين وعود التنمية وخطاب الانضباط، في توازن محسوب يعكس فلسفة إدارة الدولة الأردنية في المرحلة الراهنة. فبينما يتحدث الملك عن النمو وجذب الاستثمارات وتوفير فرص العمل، تترافق هذه الوعود بتحذير واضح من التراخي والتأخير في التنفيذ. هذه المزاوجة بين الأمل والتحذير تمثل ما يمكن تسميته بـ “المقايضة الرمزية” في الاقتصاد السياسي الأردني: الدولة تعد بالتنمية، والمواطن يلتزم بالعمل والانضباط. ليست هذه المقايضة مجرد شعار بل جوهر منظومة الحُكم في سياق محدود الموارد وكبير التحديات، حيث يصبح الاستقرار الاجتماعي شرطا سابقا للتنمية، والقبول الشعبي النسبي شرطا لاستدامة الإصلاح.

من خلال هذا التوازن، ينجح الخطاب في نقل الإصلاح من لغة الأرقام إلى لغة القيم. فالمفردات التي يستخدمها الملك — كالواجب والعزم والالتزام — تحوّل السياسات العامة إلى واجبات وطنية ذات طابع أخلاقي. لا يعود تحسين التعليم أو تطوير قطاع النقل مجرد مشروع إداري، بل مهمة جماعية تشترك فيها الدولة والمجتمع. بهذا المعنى، يمارس الخطاب وظيفة مزدوجة: فهو يشرعن القرارات الاقتصادية من جهة، ويؤطرها أخلاقيا من جهة أخرى. فالإصلاح هنا ليس مطلبا تقنيا فحسب، بل امتحانا للضمير الوطني.

وفي خلفية هذا الخطاب، يمكن تلمّس إدراك عميق لخصوصية الاقتصاد الأردني الذي لا يملك ترف الازدهار السريع ولا موارد الوفرة، بل يعتمد على “اقتصاد الثقة” — أي بناء الثقة بين المواطن والدولة باعتبارها رأس المال الأهم. لذا، فإن الدعوة إلى العمل والانضباط ليست موعظة أخلاقية فحسب، بل وسيلة للحفاظ على التوازن الاجتماعي الذي يمكّن الاقتصاد من الاستمرار في ظل محدودية الموارد وتقلّب الدعم الخارجي. وفي هذا الإطار، يمكن القول إن الخطاب يعيد بناء المعادلة السياسية الاقتصادية حول فكرة العدالة في الجهد أكثر من العدالة في النتائج، أي أن المشاركة في الإصلاح تصبح شكلا من أشكال الانتماء الوطني.

الاستراتيجيات الخطابية الحاكمة

يكشف تحليل البنية العميقة للخطاب الملكي عن مجموعة من الاستراتيجيات الخطابية الحاكمة التي تضبط إيقاع النص وتمنحه قوته الإقناعية. هذه الاستراتيجيات ليست مجرد أدوات لغوية، بل مكونات في هندسة الحكم ذاتها، إذ تتقاطع فيها اللغة مع السلطة والسياسة.

أولى هذه الاستراتيجيات هي التثمين الأخلاقي للمواطن، حيث يقدّم الخطاب المواطن الأردني في صورة المثابر، المتعلم، المنتج، والمستقيم أخلاقيا. هذا التمجيد المتكرر يرفع كلفة المعارضة الأخلاقية للإصلاح، فالمواطن الذي يُشاد به على أنه “حامي الحمى” و”الذي زرع فأطعم” لا يمكنه بسهولة أن يقف ضد سياسات الدولة دون أن يبدو وكأنه يخذل الصورة النبيلة المرسومة له. إنها صيغة ذكية لإنتاج “التطابق الرمزي” بين المواطن المثالي والسياسات الحكومية، ما يخلق حاضنة معنوية للإصلاح. لكن هذا التثمين قد يحمل وجها آخر سلبيا، إذ يرفع سقف التوقعات العامة من الدولة ويحوّل المواطن إلى معيار مثالي يصعب الوصول إليه، مما قد يولّد خيبة حين لا يترجم الخطاب إلى واقع معيشي محسوس.

أما الاستراتيجية الثانية فهي تسييج الزمن، أي تحويل الوقت إلى مورد سياسي نادر لا يحتمل الهدر. عبارات مثل “لا نملك رفاهية الوقت” تؤدي وظيفة مزدوجة: فهي تحفّز المسؤولين على العمل، لكنها في الوقت ذاته تبرّر التسريع الإداري وتمرير القرارات الصعبة تحت شعار العجلة الوطنية. هذه اللغة الزمنية تُنتج ما يشبه “الاستعجال المُمَأسس”، حيث يغدو الإسراع في الإصلاح معيارا للوطنية بحد ذاته. غير أن هذا النهج قد يُضعف لاحقا قدرة المؤسسات على التخطيط بعيد المدى، وقد يخلق شعورا بالضغط المستمر لدى المواطنين والبيروقراطية على حد سواء.

الاستراتيجية الثالثة تتمثل في الردع القيمي الخارجي، وهي أداة السياسة الأردنية في التعامل مع الأزمات الإقليمية. فبدل الردع العسكري، يعتمد الخطاب على الردع الأخلاقي المستند إلى ثبات الموقف والالتزام بالواجب التاريخي تجاه فلسطين والقدس. هذه المقاربة تمنح الأردن قوة ناعمة وتؤهله للعب دور الوسيط الأخلاقي في المنطقة. إلا أن الجانب السلبي لهذه المقاربة يكمن في محدودية أثرها التنفيذي: فالقيم لا تُردع وحدها، وقد يُنظر إليها من قبل بعض الفاعلين الإقليميين بوصفها “خطابا بلا أدوات”، ما يضع على الأردن عبئا دائما للحفاظ على التوازن بين المبدأ والقدرة.

وتبرز استراتيجية تركيب الشرعية كركيزة مركزية، إذ يمزج الخطاب بين الشرعية الدينية المتمثلة بالوصاية الهاشمية على المقدسات، والشرعية التاريخية المتجذرة في الثورة العربية الكبرى، والشرعية الاجتماعية الحديثة التي تستمد حضورها من الشباب والجيش والتعليم. هذا المزج يمنح النظام السياسي عمقا متعدد الأبعاد ويعيد إنتاج الإجماع الوطني عبر مصادر متجددة للثقة. لكن هذا التعدد في مصادر الشرعية قد يتحوّل إلى عبء إذا لم يُترجم إلى أداء متماسك؛ فالتنوع في الرموز يحتاج إلى انسجام في السياسات، وإلا تحولت الشرعية إلى تعدد في الخطاب دون وحدة في الاتجاه.

وأخيرا، تُعد إدارة التوترات إحدى أبرز أدوات الخطاب. إذ يُدرج الملك الملفات الخدمية كالتعليم والصحة والنقل في صلب الخطاب السياسي، لتعمل كمجالات امتصاص للضغط الناتج عن الإصلاح السياسي والاقتصادي. فحين يشعر المواطن بضعف الأثر المباشر للإصلاح السياسي، يجد في تحسّن الخدمات ملمحا ملموسا للمكاسب. إنها مقاربة “التعويض الرمزي”، حيث يُعاد توجيه الاهتمام من المطالب السياسية إلى الإنجازات الخدمية اليومية. لكن الخطر الكامن هنا أن هذه المقاربة، إذا لم تُرافقها نتائج حقيقية، قد تؤدي إلى العكس تماما: إحباط جماعي وتآكل الثقة في الوعود الإصلاحية. ولكن، إداة إدارة التوترات فنجاحها مرهون بقدرة الحكومة على تحقيق إنجازات خدمية ملموسة. فإدراج الملفات الخدمية كتعويض عن الإصلاح السياسي خطوة ذكية، لكنها قد تتحول إلى أداة لتأجيل الإصلاحات الجوهرية إن لم تُترجم إلى تحسين فعلي في مستوى المعيشة.

الثنائيات المؤسسة للمعنى

يقوم الخطاب الملكي على شبكة من الثنائيات الدلالية التي تُنتج معناه وتحدد رؤيته للعالم. أولى هذه الثنائيات هي القلق مقابل الخوف. فالملك يعلن أنه “يقلق” لكنه “لا يخاف إلا الله”. بهذه الصياغة، يُرفع القلق إلى مرتبة الفضيلة القيادية، بينما يُنزَع الخوف من دائرة السياسة. القلق هنا علامة مسؤولية، لا ضعفا؛ وبهذه اللغة يُقدَّم القائد كإنسان يفكر ويخشع لكنه لا ينهار. إنها صيغة تعاطفية تُعيد الإنسانية إلى القيادة وتمنحها في الوقت نفسه صلابة روحية.

الثنائية الثانية هي الأزمة مقابل القدَر. يقول الخطاب إن “الأزمات رفيقة الأردن منذ البدايات”، وهي جملة ذات حمولة فلسفية عميقة، إذ تُحوّل الأزمة من حالة استثنائية إلى جزء من الهوية الوطنية. هذه المقاربة تمنح الأردنيين قوة رمزية على التحمّل، لكنها في المقابل قد تُنتج نوعا من التطبيع مع الأزمة، بحيث تصبح الصعوبات أمرا اعتياديا لا يُستفزّ ضده. وهنا تكمن المفارقة: الخطاب الذي يهدف إلى تعبئة الهمّة قد يرسّخ في اللاوعي الجمعي فكرة أن الأزمات “قدر” لا يمكن تجاوزه بالكامل.

أما الثنائية الثالثة فهي الداخل مقابل الخارج. فالخطاب يقسّم المسؤوليات بذكاء: حماية الداخل تكون عبر الإصلاح والتحديث، أما حماية الخارج فتُنجز بالدبلوماسية والوصاية. هذه القسمة تخلق دوائر متكاملة للسيادة؛ الدولة تشتغل على جبهتين متوازيتين — جبهة المواطن وجبهة الإقليم. غير أن التحدي هنا يكمن في التوفيق بينهما، لأن التركيز الزائد على الخارج (القضية الفلسطينية، الوصاية) قد يُفهم أحيانا كتعويض عن تعثّر الإصلاح الداخلي، والعكس صحيح.

ومع ذلك، إن الانتقال من الثنائيات القطبية إلى سردية تكاملية تُبرز التفاعلات المتبادلة بين الهوية الوطنية والدور الإقليمي، وبين الأزمات والفرص، بحيث يصبح الخطاب أكثر واقعية في فهم العلاقات المعقدة التي تحكم مسار الدولة الأردنية.

الخاتمة

من الناحية التحليلية، يختصر الخطاب فلسفة الحكم الأردني في ثلاث كلمات: الإصلاح، الصبر، والاستمرارية. الإصلاح هو أداة البقاء، الصبر هو شرط النجاح، والاستمرارية هي الضمانة ضد الانهيار. لكنه في الوقت نفسه لا يخلو من تحديات؛ فغياب التفصيل الزمني والعملي للسياسات يجعل من مهمة المتابعة أكثر صعوبة، والاعتماد المفرط على الخطاب القيمي قد لا يكفي لإقناع جيل يبحث عن نتائج ملموسة لا وعود متكررة. ومع ذلك، فإن قوة الخطاب تكمن في وضوح اتجاهه وفي اتساق لغته مع المزاج الوطني العام: روح العزيمة التي ترى في الأزمة فرصة وفي الضغوط امتحانا للثبات.

في المحصلة، يكرّس الخطاب رؤية الأردن لنفسه كدولة عقلانية في إقليم مضطرب، وكقيادة توازن بين الواجب الأخلاقي والمصلحة الواقعية. وإذا كان هذا الخطاب قد نجح في إعادة بناء الثقة الرمزية بين الدولة والمجتمع، فإن التحدي المقبل يكمن في ترجمة هذه الرمزية إلى ممارسة يومية، بحيث يصبح الإصلاح سلوكا مؤسسيا لا شعارا وطنيا، وتتحول الرسائل الملكية إلى سياسات ملموسة تقاس بنتائجها.

إن خطاب العرش، في شكله ومضمونه، ليس مجرد افتتاح دورة برلمانية، بل هو بيان استراتيجي يعلن أن الأردن ماضٍ في طريق التحديث دون أن يفرّط باستقراره، وأن قوته الحقيقية لا تكمن في امتلاك الموارد، بل في امتلاك الوعي والإرادة. وهذه، في النهاية، هي المعادلة الأردنية التي تتجدّد في كل خطاب: وطن صغير في المساحة، كبير في المعنى، ثابت في العاصفة، وماضٍ بثقة نحو المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى