زيارة أسعد الشيباني إلى بيروت: نحو إعادة تعريف العلاقة السورية – اللبنانية

جاءت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت في تشرين الأول/أكتوبر 2025 لتشكّل لحظة سياسية فارقة في مسار العلاقة بين البلدين، ليس بوصفها زيارة دبلوماسية تقليدية، بل باعتبارها أول اختبار عملي لشكل العلاقة بين سوريا الجديدة ولبنان بعد عقدين من التحولات والانقطاعات. فالزيارة حملت دلالات متعددة، بعضها رمزي يتصل بإعادة الاعتراف المتبادل بين مؤسستين رسميتين كانتا منفصلتين بالسياسة ومتصِلَتين بالجغرافيا، وبعضها الآخر عملي يعكس إرادة في تجاوز مرحلة الشك والذاكرة الثقيلة التي رافقت سنوات القطيعة.
منذ سقوط النظام السابق في دمشق وصعود إدارة الرئيس أحمد الشرع، تبنّت القيادة السورية نهجًا يقوم على ترميم شبكة علاقاتها الإقليمية تدريجيًا عبر أدوات الدولة الرسمية لا عبر الوسطاء الأمنيين. وقد أُدرِج لبنان في هذا المسار بوصفه “الجار الذي لا يمكن الالتفاف عليه” ولا تجاوزه في أيّ عملية استقرار داخلي أو إقليمي. والتحوّل في السلوك السوري لا ينفصل عن حاجة دمشق إلى إعادة بناء علاقاتها العربية والإقليمية بعد سنوات من الانكفاء، وكذلك عن إدراكها أنّ لبنان يمثّل نقطة عبور سياسية واقتصادية أساسية نحو العالم، ومن جهته، وجد لبنان في الانفتاح السوري فرصة لاحتواء أزماته الأمنية والاجتماعية المتفاقمة، وفي مقدمتها ملف اللاجئين، والتحديات الاقتصادية المتصلة بالحدود المفتوحة والتهريب والفوضى الإدارية.
على خلاف الزيارات الشكلية التي اعتادت عليها العلاقات بين البلدين في فترات متقطعة، جاءت زيارة الشيباني بتفويض واضح من الرئيس السوري، وبجدول أعمال محدّد لا يتجاوز ثلاثة عناوين رئيسية: معالجة أوضاع الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، تنظيم التعاون الأمني والحدودي، وبلورة آلية سياسية – إدارية لعودة اللاجئين. والمباحثات التي جرت في بيروت بين الوفد السوري من جهة والرئيس اللبناني جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام وعدد من الوزراء والأجهزة الأمنية من جهة أخرى، اتسمت بطابع هادئ ودقيق. فقد حرص الشيباني على تأكيد أن دمشق لا تسعى إلى أي نفوذ داخل القرار اللبناني، وأنّ هدفها الأول هو تنظيم علاقة “تعاونية” تحفظ مصلحة الطرفين. هذا التوجه حظي بترحيب محسوب من القيادة اللبنانية التي رأت في الزيارة فرصة لفتح الملفات العالقة ضمن إطار مؤسساتي واضح يحدّد المسؤوليات والالتزامات، بعيدًا عن اللغة الانفعالية التي كانت تحكم النقاشات سابقًا.
في ملف الموقوفين السوريين، أبدى الشيباني استعداد بلاده لتوقيع اتفاق قضائي ثنائي يسمح بتبادل المحكومين وتسوية أوضاع الموقوفين الذين لا يشكّلون خطرًا أمنيًا. وقدّم لوائح محدّثة بأسماء الموقوفين، مقترحًا إنشاء لجنة قضائية مشتركة تعمل على تطبيق الاتفاق تدريجيًا. لبنان، بدوره، أبدى تجاوبًا مبدئيًا انطلاقًا من اعتبارات إنسانية واقتصادية تتعلق بالاكتظاظ في السجون وكلفة إدارة هذا الملف، أما في ملف الحدود والتهريب، فتم التوافق على خطة تعاون ميداني بين الأجهزة المختصة، تشمل تبادلًا آنيًا للمعلومات وإنشاء غرفة تنسيق مشتركة لمراقبة حركة المعابر غير الشرعية. وبرز خلال النقاش إدراك مشترك بأنّ التهريب لم يعد مجرّد نشاط اقتصادي غير شرعي، بل منظومة متكاملة تشكّل تهديدًا للأمن الوطني في البلدين على السواء.
وفي ملف اللاجئين، طرح الجانب السوري برنامج “العودة الطوعية الآمنة” مع تأكيده أنّ دمشق مستعدة لاستقبال دفعات متتالية من اللاجئين، شريطة أن تُدار العملية بين الحكومتين مباشرة دون تدخلات خارجية. إلى جانب هذه الملفات الثلاثة، تناولت اللقاءات مسألة إعادة تفعيل التعاون الاقتصادي، ولا سيما في مجالات النقل والطاقة والتبادل التجاري، حيث طرح الوفد السوري فكرة إعادة فتح المعابر أمام حركة الترانزيت اللبنانية إلى الأردن والعراق والخليج، وتفعيل خط الكهرباء العابر للحدود. وقد اعتُبر هذا الجانب بمثابة “المكافأة الاقتصادية” لأيّ تفاهمات سياسية ناجحة لاحقًا.
كما تطرّق الجانب السوري إلى ملف بالغ الحساسية يتعلّق بمتابعة تحرّكات عدد من الشخصيات الأمنية والاقتصادية المحسوبة على النظام السابق والمقيمة في لبنان، والتي تُتهم بإعادة تنظيم شبكات مالية وأمنية بالتنسيق مع مجموعات من “قوات سوريا الديمقراطية” في ظل اجتماعات وتحركات لتلك المجموعات داخل بيروت والبقاع، تُثير مخاوف جدّية من احتمال تحريكها داخل الأراضي السورية، ولا سيّما في الساحل وحمص، في محاولة لإرباك المشهد الأمني في الداخل السوري، ويُقرأ هذا الطرح، كرسالة مزدوجة، الأولى تحذيرية للبنان بضرورة ضبط هذه التحركات، والثانية سياسية تُذكّر بأنّ دمشق تتابع بدقة تفاصيل المشهد اللبناني، وتعتبر أيّ تهاون في هذا الملف مساساً بأمنها القومي.
أعمق ما يمكن قراءته في زيارة الشيباني هو انتقال العلاقة اللبنانية – السورية من الذاكرة إلى الواقع. فلبنان الرسمي، الذي كان يتهرّب لسنوات من التعامل المباشر مع دمشق خشية الاتهامات الدولية أو الداخلية، اختبر هذه المرة مقاربة مختلفة قائمة على التنسيق الإداري لا التحالف السياسي. وسوريا، من جهتها، قدّمت نفسها لأول مرة كطرف يسعى إلى بناء ثقة جديدة مع الدولة اللبنانية، بعيدًا عن منطق الإملاء أو الاستعلاء.
في الجوهر، الزيارة كانت تجربة سياسية لامتحان النوايا: هل تستطيع بيروت إدارة العلاقة مع دمشق ضمن حدود المصلحة الوطنية دون الخضوع، وهل تملك دمشق القدرة على التعامل مع لبنان بوصفه شريكًا كامل السيادة لا تابعًا. ما ميّز اللقاءات أيضًا هو تغيّر اللغة المستخدمة. فقد غابت المفردات القديمة التي كانت تربط بين “الأمن القومي السوري” و”شعب واحد في دولتين” وحلّت مكانها عبارات عن “التكامل المؤسسي” و”المصالح المشتركة”. هذا التغيّر في الخطاب لا يعني بالضرورة تغيّرًا كاملاً في الممارسة، لكنه يعكس تحوّلًا في الإدراك، أن استمرار التوتر بين البلدين صار مكلفًا أكثر من إدارة العلاقة بحدودٍ واضحة. تواجه هذه الانطلاقة تحديات متشابكة. أولها الانقسام السياسي اللبناني الذي يقيّد قدرة الحكومة على المضي بعيدًا في أيّ تفاهم مع دمشق، حيث ترى بعض القوى أن الانفتاح على سوريا مبكر قبيل تثبيت الواقع الداخلي، بينما تعتبر قوى أخرى أن التنسيق معها ضرورة أمنية واقتصادية.
التحدي الثاني هو غياب إطار قانوني جامع بعد انتهاء مفاعيل المجلس الأعلى اللبناني – السوري. فالعلاقات الحالية تجري بلا مظلة مؤسساتية واضحة، ما يجعل أيّ اتفاق أو تفاهم عرضة للتجميد أو التعطيل السياسي، على الرغم من أن المؤسسات المنوطة بالعلاقة ستكون مباشرة. أما التحدي الثالث فيرتبط بالملفات الحساسة نفسها، وخصوصًا اللاجئين، الذي يحتاج إلى بيئة سورية مستقرة وقدرات لوجستية ضخمة لا تتوافر حاليًا. لذلك، ستبقى العودة المنظمة مرهونة بدعم إقليمي ودولي لا يمكن لبلدَيْن منهكَين أن يتحمّلاها وحدهما. ورغم هذه الموانع، يمكن القول إنّ الزيارة أعادت وضع العلاقة على مسار إداري قابل للبناء. فإذا نجحت اللجان المشتركة في تحقيق خطوات ملموسة في ملف الموقوفين أو في ضبط المعابر الحدودية، فسيكون ذلك كافيًا لتكريس الثقة الضرورية لمزيد من التعاون. أما الفشل أو التباطؤ فسيعيد الخطاب السلبي القديم إلى الواجهة، حيث يرى كل طرف في الآخر مصدر تهديد لا شريكًا في الاستقرار.
في المحصّلة، حملت زيارة أسعد الشيباني إلى بيروت مزيجًا من الواقعية والرمزية، ووضعت أسس علاقة قد تكون مختلفة جذريًا عن تلك التي حكمت البلدين في العقود السابقة. فدمشق، التي تعيد تعريف نفسها كدولة بعد الانقسام والحروب، وجدت في بيروت أول مختبر لسلوكها الإقليمي الجديد. ولبنان، الذي يسعى لتثبيت سيادته ضمن توازنات دقيقة، وجد في دمشق الجار الذي لا يمكن تجاهله ولا الارتباط به من جديد بالطريقة القديمة. الزيارة إذًا لم تُغلق الملفات، بل فتحت الباب أمام مرحلة جديدة عنوانها إدارة التعقيد لا تجاوزه. فالعلاقات اللبنانية – السورية لن تعود كما كانت، لكنها أيضًا لن تبقى كما هي. إنها تدخل مرحلة “الاختبار الطويل” الذي سيُحدّد خلاله أيّ من البلدين أقدر على التعامل بعقل الدولة لا ذاكرة الصراع.
