الانتخابات التركية والتواجد الفلسطيني.. هل من تحولات؟

يأتي هذا المقال ضمن ملف شامل يقدمه معهد السياسة والمجتمع يتحدث عن الانتخابات التركية يتضمن سلسلة من المقالات وندوة موسعة تطرح تساؤلات تقودنا لفهم المشهد الانتخابي التركي ضمن أهم انتخابات تشهدها الساحة التركية كما يصفها الاعلام العالمي.


على مدى عشرين عاماً دخلت تركيا في تفاصيل الشأن الفلسطيني على نحو يجعل التغيير السياسي في تركيا، يتعدى في أهميته مواقف النظام الرسمية الدبلوماسية هناك من القضية الفلسطينية. الموضوع ليس مدى التأييد أو المعارضة للحقوق الفلسطينية، والسياسات الإسرائيلية وحسب، لكن الأمر يتعدى ذلك إلى أثر مباشر على جزء من النشاط والأداء الفلسطيني، فكثير من مؤسسات العمل الفلسطيني، خصوصاً القريبة من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، باتت تتخذ إسطنبول مقراً. هذا يجعل الانتخابات التركية والرئاسية المزمعة بدءا من يوم 14 آيار\ مايو المقبل ذات أهمية خاصة. في الأثناء تشير القراءة في مواقف مرشح المعارضة التركية الأساسي للانتخابات أنّه لا يوجد فرق واضح في الموقف من الشأن الفلسطيني، والإسرائيلي، ولكن الأثر على التواجد الفلسطيني سيتضح بشكل مباشر، وغير مباشر، سواء من حيث مدى الترحيب في تركيا بالعمل الفلسطيني بشكل خاص، أو من حيث قوانين الهجرة وفتح الباب للتواجد الأجنبي في تركيا عموماً.


يمكن تلخيص الموقف التركي تحت إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان، (كرئيس للوزراء بين عامي 2003- 2014، ورئيساً للبلاد منذ 2014)، بأربع قضايا أساسية. الثلاثة الأولى كانت سمة عامة للسياسة التركية حتى نحو عامين، وهي، أولاً، دعم القضية الفلسطينية سياسياً وإعلامياً بأخذ مواقف علنية واضحة ضد السياسات الإسرائيلية. ثانياً، دعم الفلسطينيين سياسياً واقتصادياً سواءاً عبر دعم القيادة الفلسطينية الرسمية، برئاسة محمود عباس دوليّاً، أو حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، والتي تم فتح الباب لتواجدها الإعلامي والبحثي والإنساني لمؤسساتها وكوادرها في تركيا، وثالثاً، الفصل بين السياسي والاقتصادي، فبينما تستمر العلاقات التركية الإسرائيلية تجارياً واقتصادياً وتطور، حدث توتر سياسي، وتم سحب السفراء بين البلدين. والقضية الرابعة ظهرت في آخر عامين، هي بدء اتجاه لفصل الموضوع الفلسطيني عن الإسرائيلي، حيث تم استعادة العلاقات مع إسرائيل، وتطبيع العلاقات معها.


تعد تركيا ملجأً إنسانياً، وسياسياً، ومركزاً اقتصادياً وإعلامياً لقطاعات من العمل الفلسطيني، خصوصاً من قطاع غزة، ومن فلسطيني سوريا الذين هجرتهم الحرب، وباتت تركيا وجهة أساسية للتعليم العالي لأعداد من الطلبة الفلسطينيين من داخل فلسطين، وهؤلاء بطبيعة الحال يصبحون جزء من الحياة السياسية والثقافية والإعلامية للعمل الفلسطيني في تركيا. أضف لهذا قدّمت تركيا في محطات عدّة دعماً دبلوماسياً وسياسياً لافتاً، للعمل السياسي الفلسطيني الرسمي، أي أنّ تركيا قدّمت في العقدين الماضيين دعماً وموقفاُ سياسياً مؤثراً للعمل الفلسطيني، بمختلف تياراته دون أن يحول هذا من استمرار نمو العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، وفي العامين الأخيرين، تم أيضاً تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وحدوث تقارب سياسي ودبلوماسي، في نوع من الفصل بين الملفين الفلسطيني والإسرائيلي.


يعتقد أن هناك حوالي ثلاثين ألف فلسطين مقيمون إقامة مستمرة في تركيا، وهذا الرقم (بحسب عام 2022) يعد نمواً كبيراً من نحو 250 عائلة نهاية التسعينيات. وبالتأكيد فإنّ الحديث عن 30 ألف شخص، يضاف له فلسطينيون آخرون يحملون جنسيات عديدة أخرى، ما يجعل الحديث عن ثلاثين ألف شخص انتقلوا من داخل فلسطين إلى هناك أو يحملون وثائق سفر فلسطينية، فضلا عن أشخاص يقيمون ويترددون دون إقامة دائمة، أو بجنسيات أخرى.


ليس سرّاً أن تركيا باتت وجهة أولى ومفضلة لعقد الندوات والمحاضرات والاجتماعات الفلسطينية، حيث لا تنافسها دولة في سهولة الدخول وعقد المؤتمرات، بالنسبة للفلسطينيين، وجزء من هذا الانفتاح لا يتعلق بالفلسطينيين بشكل خاص، بل هو نهج تركي لفتح الباب لأنواع استضافة مختلفة، تحقق في جزء منها فوائد اقتصادية لقطاعات السياحة والضيافة، وهذا الموضوع له أهمية خاصة في الانتخابات التركية كما يلي توضيحه.


النشاط التركي في استضافة العمل الفلسطيني لا يستثني المستوى الرسمي، وعلى سبيل المثال في عام 2011، اجتمع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، مع السفراء الفلسطينيين والمبعوثين إلى دول العالم، وتم ذلك في إسطنبول. وفي العام 2022، عقد الرئيس عباس لقاء موسع مع السفراء العرب في تركيا. وكانت تركيا ذات دور بارز وخاص في دعم توجه فلسطين للحصول على اعتراف وعضوية الأمم المتحدة، وظهر مسؤوليها بجانب المسؤولين الفلسطينيين في حملتهم في الأمم المتحدة للحصول على العضوية، وحضر وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو أثناء التصويت على العضوية فلسطين في الأمم المتحدة كدولة، عام 2012، بجانب الوفد الفلسطيني وعانق الرئيس الفلسطيني تهنئة له أمام الكاميرات.
في العام 2022، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، يائير لابيد، تركيا، واستأنف العلاقات الدبلوماسية، وتبادل السفراء، وذلك بعد شبه قطيعة سياسية منذ عام 2018، وفتحت تلك الزيارة والتطورات الباب لسؤال عن أثر ذلك على الوجود الفلسطيني في تركيا، وتأتي الانتخابات الأخيرة لتعزز هذا السؤال.


المسؤولون الأتراك يشددون أنّ التقارب مع الإسرائيليين، لا يتضمن تغيير في السياسات إزاء الشرق الأوسط، وأنّه سيساعد على تقديم العون للفلسطينيين، كما أكد مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، عقب تطبيع العلاقات مع إسرائيل.


تخوض الانتخابات التركية 24 قائمة حزبية، فضلا عن المستقلين، وهناك أربعة مرشحين للرئاسة، هذا يصعب رصد مواقف المتنافسين، من شأن مثل الموضوع الفلسطيني، خصوصاً مع وجود أولويات انتخابية داخلية، ويمكن القول إنّ أي نتائج للانتخابات التركية لن يكون لها آثار فورية، على الموضوع الفلسطيني، وذلك لاعتبارات تتعلق بالأولويات التركية، الداخلية والخارجية، ولأنّ أثر هذه الانتخابات يمكن أن يكون تدريجي وغير مباشر، عبر تغيير قوانين وأنظمة تتعلق بأمور مثل منح الجنسية، ومثل مدى انفتاح تركيا على الوجود الأجنبي، بما فيه فتح الباب للمؤسسات الإعلامية والبحثية والسياسية لدول وشعوب مختلفة، منها الفلسطينيين.


في نظرة إلى البرامج الانتخابية للمرشحين والأحزاب الأساسية، يلاحظ أن الاقتصاد يتقدم خطاب الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان (مرشح تحالف الشعب الذي يجمع حزبي العدالة والتنمية الحاكم والحركة القومية)، وتشير القراءة في برنامجه أنّ توجهاته ستكون نحو المزيد من فتح البلاد للاقتصاد العالمي، والمزيد من الليبرالية الاقتصادية، وهذا يتوقع أن يرافقه استمرار بل وتعزيز، فتح البلاد لحرية الحركة ولاستقبال المؤسسات والهيئات الراغبة في العمل في تركيا. من هنا يمكن توقع استمرار فتح البلاد لمؤسسات العمل الفلسطيني، في ظل برنامج أردوغان. بطبيعة الحال هذا الوجود مقتصر على الشؤون الإعلامية والبحثية والفكرية والعلمية والتجارية، بينما أي نشاط متعلق بالشأن العسكري محظور، بل إن الحضور السياسي بحد ذاته محدود.


المرشح الأساسي، للمعارضة، لمنصب الرئيس، كمال كليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، والذي يمثل ستة أحزاب، وتعطيه استطلاعات رأي تفوقاً على أردوغان، بحيث يتوقع أن تحدث جولة ثانية من الانتخابات لمنصب الرئيس، بعد أخذ أعلى مًرشّحين، وهما أردوغان وأوغلو، خص فلسطين في خطاباته الانتخابية بأهمية خاصة، فعندما تحدث عن فلسطين في برنامجه قال “لا يمكن إلا أن تقف تركيا بجانب فلسطين”، واعتبرها قضية “عدل”، و”مأساة مستمرة”.

وبالعودة إلى المواقف السابقة لكمال أوغلو، قبل ترشحه للانتخابات، يلاحظ أن خطابه في الشأن الفلسطيني لا يقل وضوحاً عن خطاب أردوغان، وفي خطاباته إدانة لما يسميه “المجازر” الإسرائيلية، ومن تصريحاته على سبيل المثال “كل طفل يموت هناك (فلسطين) فإنّه أمر مقلق للناس الذي يعيشون في كل العالم. وكل واحد منّا عليه مسؤولية”. ومثل هذه التصريحات التي أطلقها في آيار\ مايو 2021، وغيرها تعكس انّ التوجه العام لمرشح المعارضة يتفق مع الوقوف بجانب القضية الفلسطينية، وبضرورة تحمل مسؤولية في مساعدة الفلسطينيين. كما أنّ نشاطاته في السنوات الأخيرة تضمنت زيارة أسر الأتراك الذين قتلتهم إسرائيل في سفينة “مافي مرمرة”، التركية، عام 2010، والتي كانت تحاول الوصول لقطاع غزة، وكسر الحصار عليه، وفي زيارة لعائلة أحد الذين قتلتهم إسرائيل في حزيران يونيو\ 2022، قال “إنّ استشهاد المواطنين (الأتراك) في المياه الدوليّة له ثمن. رسالتي لإسرائيل أنّ هذه القضية لم تقفل بعد”. وقد انتقد أوغلو في مناسبات أردوغان أنّه يجب أن يكون “أعلى صوتاً” في انتقاد إسرائيل، وعارض انفتاح أردوغان على إسرائيل في السنوات الثلاث الأخيرة.


الملاحظ أن الجانب الإسرائيلي يمتنع عن التعليق على الانتخابات التركية، في إشارة واضحة لعدم وضوح أو وجود تمايز كبير في المواقف داخل الأطراف التركية، تحفّز الإسرائيليين للتعليق. خصوصاً أن اتجاه التطبيع في السنوات الأخيرة يبدو تطوراً إيجابياً ترغب به إسرائيل، ولا يوجد ما يشير أن تغير القيادة التركية سيأتي بتحولات كبيرة في أي اتجاه.


في الختام، لا يوجد فرق كبير في التوجهات التركية الأساسية بالشأن الفلسطيني، وسيبقى السؤال ما هو الموقف مستقبلاً من قضايا مثل اللاجئين، والحضور الأجنبي في تركيا، وهذه قضايا لا تخص الفلسطينيين وحدهم، لكن حضور مؤسسات العمل الفلسطيني، قد يتأثر، أو لا يتأثر، بتغير في القوانين والأنظمة، بشأن هذه القضايا، فضلا عن احتمالات مراجعة هذا الوجود بشكل خاص في ضوء تطورات سياسية محددة. في الوقت الحالي لا يوجد أسباب قوية لتوقع تغير سريع في تركيا في هذا الشأن، ولكن الاتجاهات العامة قد تتضح تدريجياً بعد الانتخابات، مع عدم توقع سيناريو تحول استراتيجي تركي من الشأن الفلسطيني، أو حتى التواجد المؤسساتي المدني، والتعليمي، هناك.

أحمد جميل عزم

مستشار أكاديمي في معهد السياسة والمجتمع، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة بيرزيت وجامعة قطر، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة إدنبرة في المملكة المتحدة في العلوم السياسية، تخصص العلاقات الدولية، ودرجة الماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأردنية. لديه العديد من المؤلفات منها: ''الشباب الفلسطيني من الحركة إلى الحراك (1908 - 2018)''، كما شارك في تأليف العديد من الكتب، من أبرزها القنوات الفضائية العربية والديموقراطية، وتاريخ الأردن الاجتماعي (الأردن في الدراسات الغربية). كما تظهر كتاباته في دورية السياسة الدولية، في مصر، ومنشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في بيروت والقدس، وهو عضو الهيئة الاستشارية للبحوث، لمركز دراسات مسارات في فلسطين.

زر الذهاب إلى الأعلى