زيارة الشرع إلى موسكو: مسار تطبيع واستراتيجية روسية- سورية جديدة

أثارت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو ولقاؤه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2025 موجة واسعة من التفاعل والنقاش حول خلفياتها وأبعادها السياسية، لاسيّما أنها جاءت في لحظة مفصلية وسياق جيوسياسي حسّاس سوريًا وإقليميًا. فالزيارة تتزامن مع تصاعد وتيرة الانفتاح العربي والدولي مع دمشق، والاعتراف التدريجي بشرعية الحكومة الانتقالية الحالية كما أنها تأتي بعد أقل من أسبوعين على مرور الذكرى العاشرة للتدخل العسكري الروسي في سوريا، وهو ما أعاد إلى الواجهة النقاش حول الإرث الثقيل لذلك التدّخل وتداعياته على المشهد السوري الراهن.
وقد أثارت هذه الزيارة، بما تحمله من رمزية سياسية وتوقيت بالغ الحساسية، تساؤلات حول الأجندة الحقيقية لكلٍّ من موسكو ودمشق، خصوصًا فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين البلدين، ودور روسيا في المرحلة الانتقالية المقبلة. وفي هذا السياق، تصدّرت قضية تسليم بشار الأسد ومن تبقى من أركان النظام السابق واجهة التفاعلات الشعبية والسياسية التي رافقت الزيارة، في سياق أوسع يتعلق بمسار العدالة الانتقالية، ودور روسيا في هذه المرحلة الحرجة من إعادة صياغة الترتيبات والتوازنات السياسية والإقليمية لما بعد عقد كامل من الحرب.
جاءت الزيارة في إطارٍ يمكن قراءته من زاويتين: روسيّة وسوريّة. فمن الجانب الروسي، يبدو أن الكرملين يسعى إلى إعادة تثبيت حضوره في المشهد السوري بعد مرحلة من التراجع النسبي لدوره الإقليمي نتيجة انشغاله في الحرب الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى تنامي أدوار قوى أخرى – إقليمية على رأسها تركيا ودولية كأميركا – في إدارة الملف السوري. ولذا، مثّلت الزيارة بالنسبة لموسكو فرصة لإعادة تموضعها وبأنها لا تزال فاعلاً رئيسياً في صياغة مستقبل سوريا.
دمشق تسعى لشراكة متوازنة مع موسكو بدل التبعية، وروسيا تحاول تثبيت نفوذها رغم تراجعها
أما من الجانب السوري، فتبدو الزيارة محاولة لإعادة تعريف العلاقة مع موسكو في ضوء التحولات العميقة التي أعقبت سقوط نظام الأسد وبروز الحكومة الانتقالية الجديدة برئاسة أحمد الشرع. فدمشق اليوم تسعى إلى موازنة علاقاتها بين القوى الدولية والإقليمية، والانتقال من علاقة التبعية التي كرّسها الأسد تجاه روسيا إلى علاقة أكثر ندّية وبراغماتية، تستند إلى المصالح المشتركة لا إلى الحماية السياسية والعسكرية فحسب. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى اللقاء مع بوتين بوصفه اختباراً مبكّراً لشكل العلاقة الجديدة بين دمشق وموسكو، ومدى استعداد الأخيرة لتقبّل التغيّر في موقع سوريا ودورها ضمن منظومة التحالفات الإقليمية.
إعادة تعريف العلاقة بين موسكو ودمشق
تُعدّ الاتفاقيات العسكرية بين سوريا وروسيا الركيزة الأهم في ترسيخ الوجود الروسي طويل الأمد على الأراضي السورية، إذ أسهمت في تغيير موازين القوى الإقليمية وإعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط. فقد منح “اتفاق حميميم” الموقَّع في آب 2015 موسكو حق استخدام المطار العسكري في ريف اللاذقية بلا مقابل أو مدة محددة، مع إعفاءات جمركية وضريبية شاملة وحصانات دبلوماسية كاملة للأفراد والممتلكات الروسية، ما جعل القاعدة الجوية تتحول إلى مركز قيادة رئيسي للعمليات الروسية في سوريا والمنطقة. وتُوّج هذا الوجود العسكري باتفاقٍ آخر في كانون الثاني 2017 يقضي بمنح روسيا استخدام ميناء طرطوس كقاعدة بحرية لمدة 49 عامًا قابلة للتمديد، لتصبح بذلك القاعدتان (حميميم وطرطوس) ركيزتين استراتيجيتين للانتشار العسكري الروسي شرق المتوسط، ومعبرًا دائمًا لنفوذ موسكو في المعادلات الأمنية الإقليمية.[1]
تاريخيًا، اتسمت العلاقات السورية–الروسية بعمقٍ وتعقيدٍ متراكمين منذ خمسينيات القرن الماضي، حين كانت موسكو (الاتحاد السوفييتي آنذاك) الداعم الأبرز لدمشق سياسيًا وعسكريًا في مواجهة الغرب. إلا أن التحول الجوهري في هذه العلاقات جاء مع التدخل العسكري الروسي عام 2015 بطلبٍ إيراني، والذي أنقذ النظام من الانهيار، لكنه في المقابل وضع سوريا في موقع التبعية شبه الكاملة لموسكو. فباتت روسيا شريان الحياة الاقتصادي والسياسي للنظام، ومصدر السلاح والقمح والنفط، ووجهة البعثات التعليمية، ما جعلها تتحول من حليف إلى وصي فعلي على القرار السوري. ورغم محاولات دمشق وموسكو تثبيت هذا التحالف عبر مسارات مثل مباحثات أستانة (2018)، فإن سقوط النظام في نهاية عام 2024 فتح الباب أمام إعادة تقييم شاملة للعلاقة. إذ تسعى الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع إلى انتهاج سياسة خارجية أكثر توازنًا، تُقِرّ بأهمية الدور الروسي لكنها في الوقت نفسه تسعى لتقليص الارتهان لهيمنته وإعادة تعريف الشراكة على أسس سيادية جديدة.
أماعن زيارة الشرع الأخيرة لموسكو فقد جاءت كمحصِّلة لمسار طويل من التحركات المتبادلة بين الوفود السورية والروسية، والتي مهدت الطريق لقواعد جديدة لتطبيع العلاقات بين موسكو والحكومة الانتقالية في سوريا. وذلك بعد مرحلة توتر صامت، تراجعت فيها التفاعلات بين الطرفين بعد سقوط النظام، وغابت أي أخبار عن تعاون مشترك، أو تواصل دبلوماسي.
روسيا تعيد ضبط التوازنات في الجنوب والشمال لضمان حضورها كقوة استقرار، ودمشق تستفيد براغماتيًا دون صدام
حتى الإعلان عن مكالمة بوتين والشرع في شباط 2025، ومن ثم زيارة الشيباني لموسكو في 31 تموز، والزيارة الرسمية لنائب رئيس الوزراء الروسي إلى سوريا في 9 أيلول، إضافة إلى لقاء رئيس هيئة الأركان السوري مع وفد عسكري روسي في 2 تشرين الأول الجاري، جاءت زيارة الشرع لتتوج هذا المسار التدريجي. وكان من المتوقع أن تستضيف موسكو القمة العربية – الروسية، قبل أن يتم تأجيلها إلى نوفمبر/تشرين الثاني إثر توقيع الهدنة في غزة، ما أضاف بعدًا إقليميًا للزيارة ودور موسكو المتصاعد في الملفات العربية والسورية. ومع ذلك، سارعت الصحافة الغربية – بحسب صحيفة «ريا نوفوستي» المدعومة حكوميًا في روسيا[2] – للإشارة إلى أن تأجيل القمة جاء نتيجة رفض أو تحفّظ بعض القادة العرب على الحضور، معتبرة هذا التأجيل مؤشرًا على ضعف موقف موسكو الإقليمي، لا سيما بعد نجاح ترامب في غزة، ما منح زيارة الشرع أهمية إضافية في إظهار حضور روسيا السياسي والتنسيقي في المنطقة.
الهندسة الأمنية الجديدة: الجنوب، قسد، وتوازنات القوى
تصدّر الملف الأمني–العسكري جدول أعمال الزيارة، في ضوء الطابع الأمني للقاءات التمهيدية التي سبقتها، ويُرجَّح أن يكون التركيز الأساسي قد انصبّ على مستقبل القواعد الروسية وبرامج تدريب الجيش السوري وتطوير بنيته الدفاعية، مع احتمال تطرّق المباحثات بصورة غير مباشرة إلى ملفات أخرى مرتبطة بالأمن الإقليمي مثل “قسد” والجنوب السوري وإسرائيل.
وفي أولوية هذا الملف مستقبل القواعد الروسية في سوريا قاعدَتي حميميم الجوية في اللاذقية وطرطوس البحرية[3]. تكمن أهمية قواعد روسيا في سوريا في بعده الجيوسياسي الاستراتيجي، إذ تمثل نقاط ارتكاز خارج حدودها المباشرة وتواكب رؤيتها كقوة أوراسية[4] تسعى لإعادة تشكيل التوازنات الدولية. ففقدانها يعني تراجع النفوذ الروسي في المتوسط وتهديد مكانتها كقوة عالمية قادرة على الوصول إلى المياه الدافئة والممرات الاستراتيجية.
ومع إدراك موسكو لهذا البُعد الاستراتيجي وسعيها للاحتفاظ بهذه القواعد، يبرز التحدي المتمثل في إدارة النفوذ الروسي في مواجهة اللاعبين الإقليميين، وعلى رأسهم إسرائيل وتركيا، بما يضمن الحفاظ على مصالحها دون الدخول في صدام مباشر، ويُهيئ الأرضية للملفات الأمنية والسياسية التي تصدّرت زيارة الشرع إلى موسكو.
تسعى روسيا للاحتفاظ بقاعدتي حميميم وطرطوس[5]، ولا يبدو أن أياً من الفاعلين (بمن فيهم دمشق وأنقرة) يعارضون بقاء الروس في القاعدتين عموماً (باستثناء أوكرانيا وألمانيا[6]، حيث طالبتا بطرد الروس). وتحدثت تقارير بأن “إسرائيل” طالبت واشنطن بعدم الضغط على الروس لإفراغ القاعدتين لأن روسيا توازن النفوذ التركي[7].
في الجنوب السوري، تحدثت تقارير[8] عن إمكانية إعادة ترتيب الأوراق عبر تفاهمات مع روسيا، خصوصًا فيما يتعلق بإعادة تموضعها ونشر قوات شرطية في المنطقة لردع إسرائيل، ورفض مطالب تل أبيب بإنشاء “منطقة منزوعة السلاح” واسعة النطاق. كما يُتوقع أن تلعب موسكو دور الضامن في أي ترتيبات أمنية مستقبلية مع إسرائيل.
جاءت هذه التدابير ردًا على تصاعد الخروقات الإسرائيلية خلال المرحلة الماضية، في إطار سعي إسرائيل إلى فرض معادلات أمنية جديدة في الجنوب السوري، ولا سيما في محافظتي القنيطرة ودرعا، مستفيدةً من هشاشة البنية الأمنية وتضارب نفوذ القوى المحلية لتعزيز حضورها على حساب السيادة السورية.
يكتسب هذا السيناريو أهميةً خاصة في ضوء مقاربة موسكو للتدخلات الإسرائيلية، إذ تؤكد روسيا في خطابها الدبلوماسي رفض أي عمليات عسكرية تُقوِّض سيادة الدول[9]، على خلاف المقاربة الأميركية والأوروبية التي تُظهر قدرًا أكبر من تقبل الضربات الإسرائيلية داخل سوريا ضمن إطار مواجهة “النفوذ الإيراني” وحماية حدودها الشمالية ضد أي تهديدات محتملة خصوصًا الجماعات الإسلامية المسلّحة” مع وصول هيئة تحرير الشام للحكم. غير أنّ السياسة الروسية تتسم ببراغماتية واضحة تسعى إلى تجنب أي احتكاك مباشر مع تل أبيب، خصوصًا منذ عام 2018 عقب إرساء آلية “فضّ الاشتباك” لتفادي الحوادث الجوية وضمان التنسيق الميداني في الأجواء السورية. وقد أسهم هذا التفاهم العملي في جعل الوجود الروسي عنصرًا مقبولًا لدى إسرائيل باعتباره عاملًا يسهم في احتواء الفوضى جنوب سوريا وضبط الحدود. وفي المقابل، يمنح هذا الوضع موسكو هامش مناورة سياسيًا وأمنيًا واسعًا يسمح لها بتعزيز دورها كقوة موازنة في الإقليم، ويتيح للحكومة السورية الجديدة الاستفادة من هذا الدور في إدارة الملف الأمني جنوب البلاد من دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
أما في شمال شرقي سوريا، فيُعدّ الوجود الروسي محدودًا من حيث الحجم لكنه مؤثر نوعيًا، إذ تتركز القوات الروسية في مناطق محددة أبرزها القامشلي ومحيطها، حيث تمتلك موسكو قاعدة جوية وعددًا من النقاط العسكرية التي تتيح لها التواصل المباشر مع قوات “قسد” وإدارة التفاهمات الأمنية مع أنقرة ودمشق. ورغم أن الحضور التركي يُمثّل القوة الخارجية الأكبر في الشمال السوري من حيث الانتشار العسكري، بما يتجاوز عشرين ألف جندي وأكثر من مئة موقع، فإن الحضور الروسي يُعدّ الضامن الأساسي للتوازن في المنطقة،[10] خصوصًا في ظل تقلّص النفوذ الإيراني وانكفاء الدور الأميركي التدريجي. بالنسبة لـ”قسد”، تنظر هذه القوات إلى موسكو بوصفها بديلًا استراتيجيًا محتملًا في حال الانسحاب الأميركي، بينما توظّف روسيا هذه العلاقة كورقة تفاوضية تمكّنها من الحفاظ على موقعها كفاعل رئيسي في إدارة التوازنات الإقليمية شمال شرق سوريا، وضبط حدود الصراع بين الأطراف المحلية والإقليمية دون الانخراط في مواجهة مباشرة مع أي منها. [11]
وكان من اللافت أيضًا طلب الشرع طلب الرئيس الشرع من روسيا تدريب الجيش السوري، رغم مشاركة تركيا حالياً في برامج التدريب وهو ما يُفهم، في إطار موازنة النفوذ الخارجي بين موسكو وأنقرة. ويتيح هذا التوجه للحكومة السورية دمج الخبرات الروسية مع التركية، مع الحفاظ على خيارات استراتيجية مفتوحة، ويعكس حرص دمشق على تعزيز قدراتها العسكرية ضمن منطق براغماتي متوازن، يربط بين صيانة السيادة الوطنية والاستفادة من الدعم الدولي–الإقليمي المتاح.
إضافةً لذلك تُعد البنية الدفاعية السورية ومسألة التسليح التي تصدّرت أيضا النقاش حول الزيارة، التي أنشأتها روسيا وتجري موسكو صيانتها بشكل مستمر، ركيزة أساسية للوجود الروسي في سوريا، كما توفر للقوات السورية قدرة قتالية عالية دون الحاجة لإنشاء بنية جديدة أو تكبد تكاليف ضخمة، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل استمرار العقوبات الغربية. هذه البنية تتيح لدمشق الحفاظ على جاهزيتها الدفاعية، وتوضح التفاوت في سياسات الولايات المتحدة وحلفائها تجاه حلفائهم، حيث قد لا يوفرون أسلحة أو دعمًا مماثلًا لحلفائهم التقليديين، ما يجعل الاعتماد على البنية الروسية خيارًا عمليًا واستراتيجيًا يوازن بين الفاعلية العسكرية والقدرة الاقتصادية والسياسية.
ومع تراجع الطابع العسكري في التفاعلات الروسية-السورية، ينتقل ثقل العلاقة تدريجيًا من إدارة الميدان إلى إدارة السياسة. إذ لم يعد النفوذ الروسي يُقاس فقط بالانتشار الميداني أو قواعده في حميميم وطرطوس، بل بقدرته على التأثير في ملفات السيادة والعدالة وإعادة بناء الشرعية الجديدة في دمشق. وهكذا، يبدأ الدور الروسي في التحوّل من “ضامن أمني” إلى “فاعل سياسي”، ما يجعل الملفات السياسية – وعلى رأسها العدالة الانتقالية وتسليم رموز النظام السابق – الميدان الحقيقي لاختبار شكل الشراكة السورية-الروسية في المرحلة المقبلة.
العدالة والسيادة: اختبار الشراكة الروسية–السورية بعد الأسد
الملف الأكثر حساسية وتصدُّرًا في الزيارة كان بلا شك قضية تسليم الرئيس المخلوع بشار الأسد وأركان نظامه ومسار العدالة الانتقالية. فالمجتمع السوري والدولي ينتظر من الحكومة الجديدة خطوات أكثر جدّية ووضوحًا في هذا المسار. وتلوح موسكو في الأفق كفاعل حاسم في رسم ملامح المرحلة المقبلة. ورغم تصريح مصدر حكومي سوري – لوكالة الصحافة الفرنسية – أن الشرع سيطلب خلال زيارته الأولى إلى روسيا تسليم الرئيس المخلوع بشار الأسد والمتورطين معه في جرائم حرب.[12]
ملف تسليم الأسد يختبر استقلال الحكومة الجديدة وموقف موسكو بين المصالح والشرعية
هذا الملف هو أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات الروسية–السورية بعد سقوط النظام، إذ يضع موسكو أمام معادلة معقدة بين حماية مصالحها الاستراتيجية والحفاظ على صورتها كحليف وفيّ من جهة، وبين الاستجابة لمتطلبات الشرعية الجديدة في دمشق والضغوط الدولية من جهة أخرى. فبالنسبة لروسيا، لا تمثل شخص الأسد أولوية بحد ذاته بعد انهيار نظامه، بقدر ما يهمها ضمان بقاء نفوذها السياسي والعسكري في سوريا، والحفاظ على الاتفاقيات طويلة الأمد التي أبرمتها خلال السنوات السابقة. لكنها في الوقت نفسه تدرك أن تسليمه سيُضعف مصداقيتها كقوة تدافع عن حلفائها، ما قد يثير قلق شركائها الآخرين الذين يرون فيها مظلة حماية من الغرب، ولذلك يُتوقع أن تنتهج موسكو سياسة المماطلة والالتفاف على هذا الملف، بحيث تدعم مبدئيًا مسار العدالة الانتقالية دون السماح له بالمساس المباشر برموز النظام السابق. أما بالنسبة للحكومة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، فإن إثارة قضية التسليم خلال زيارته إلى موسكو تمثل اختبارًا حقيقيًا لشرعيتها واستقلال قرارها الوطني، ورسالة مزدوجة للداخل والخارج على السواء: في الداخل لتأكيد القطيعة مع إرث النظام السابق، وفي الخارج لاستقطاب الدعم الدولي عبر إظهار الجدية في بناء مرحلة جديدة قائمة على العدالة والمحاسبة. وفي هذا السياق، تحاول روسيا أن تقدّم نفسها وسيطًا في العدالة الانتقالية لا طرفًا معرقلًا لها، عبر الترويج لصيغٍ توازن بين العدالة والاستقرار، كإخراجٍ سياسي للأسد مقابل ضمانات بعدم ملاحقته دوليًا. لكن توازن موسكو هذا يظل هشًا، إذ سيتوقف موقفها النهائي على طبيعة الضغوط الغربية ومكاسبها المحتملة من الحكومة الجديدة، ما يجعلها تتعامل مع الملف كورقة تفاوضية كبرى لضمان استمرار نفوذها في سوريا وصياغة مستقبلها السياسي وفق أولوياتها الاستراتيجية.
رغم أولوية الملف، تجدر الإشارة إلى أن زيارة الشرع لموسكو لم تتطرق إلى الانتهاكات الروسية الموثّقة، بما في ذلك القصف والتدمير الذي طال بلدات سورية وقتل آلاف المدنيين[13]. وهو ما يُمكن فهمه في إطار حرص سوريا على تعزيز العلاقات واستعادة التعاون الاستراتيجي مع روسيا، وفي المقابل، تراهن دمشق على روسيا كشريك قادر على تحييد العقوبات وضمان موقف داعم في مجلس الأمن، خصوصًا مع محاولة الشرع إعادة إدماج سوريا دوليًا والاستفادة من روسيا ورفع اسمه من قوائم الإرهاب. غير أن أي انفتاح روسي–سوري لن يكون مستدامًا ما لم يُفتح ملف العدالة الانتقالية بجدّية، إذ يمثل هذا الملف أساس إعادة الثقة بين الحكومة والمجتمع، ومعالجة إرث الانتهاكات السابقة، بما في ذلك آثار التدخل الروسي. غياب التقدم في هذا المسار يهدد استقرار البلاد ويضعف مصداقية المؤسسات، ويراكم الاحتقان الاجتماعي ويقوّض من قدرة سوريا على جذب الدعم الدولي وإطلاق مشاريع إعادة الإعمار، ما يجعل من العدالة الانتقالية شرطًا محوريًا لاستدامة العلاقة الروسية–السورية على أسس أكثر استقرارًا وشرعية.
بالنسبة لروسيا، يمكن القول إن الزيارة جاءت لتعيد التأكيد على متانة التحالف بين موسكو ودمشق، لكنها في الوقت ذاته تعكس مرحلة إعادة تموضع وتوازن في هذه العلاقة. فمنذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، نجحت موسكو في تثبيت وجودها بوصفها الضامن الرئيس لبقاء النظام، والمتحكم الأكبر في معادلات القوة الميدانية والسياسية. غير أن انشغالها في الحرب الأوكرانية وتداعياتها الداخلية والخارجية أدى إلى تراجع نسبي في قدرتها على إدارة الملف السوري بالزخم ذاته، ما أتاح لقوى أخرى – وفي مقدمتها إيران وتركيا – توسيع نطاق نفوذها داخل الأراضي السورية. ومن هنا، تسعى موسكو من خلال هذه الزيارة إلى إعادة تأكيد حضورها كفاعل مركزي لا يمكن تجاوزه في أي تسوية مستقبلية تخص سوريا.
وفي البعد الإقليمي الأوسع، لا تنظر روسيا إلى سوريا كحليفٍ تقليدي فحسب، بل كورقة استراتيجية في علاقاتها مع القوى الأخرى في المنطقة. فهي تدير وجودها في سوريا بمنطق المساومة الجيوسياسية، إذ تستخدمه أحيانًا كقناة اتصال وضغط على أنقرة في ملفات متعددة مثل البحر الأسود والملف الأوكراني، فيما توظفه في الوقت نفسه كورقة ضغط على الولايات المتحدة في سياق المواجهة الأوسع بين القوتين. كما تمثل الساحة السورية ميدانًا لتنسيقٍ حذرٍ مع إيران، حيث تتقاطع مصالح البلدين في دعم النظام السوري، لكنها تتباين في نطاق النفوذ والأهداف بعيدة المدى، وهو ما يدفع موسكو إلى الحفاظ على هامش مستقلٍّ في إدارة الملف السوري حتى لا تتحول إلى تابع في المحور الإيراني.
أما من منظور السياسة الخارجية الروسية الأشمل، فإن الزيارة تحمل بعدًا رمزيًا يتجاوز الجغرافيا السورية نفسها. فهي تأتي لتؤكد أن الكرملين ما زال يمتلك قدرة الحضور والمبادرة في الشرق الأوسط رغم انشغاله في أوروبا الشرقية، وأنه لا ينوي ترك فراغٍ يمكن أن تملأه القوى الغربية أو الإقليمية. بهذا المعنى، يمكن فهم الزيارة كرسالة سياسية مفادها أن موسكو ما زالت تعتبر سوريا ركيزة أساسية في هندسة توازنات القوة الإقليمية، وأنها قادرة على استخدام نفوذها هناك كورقة تفاوضية في مواجهة الضغوط الغربية والعقوبات المفروضة عليها.
من التبعية إلى النفوذ الذكي: مستقبل الدور الروسي في سوريا ما بعد 2025
تُقرأ زيارة موسكو في إطار لعبةٍ تفاوضية ثنائية المستويات تديرها دمشق وموسكو تحت قيود داخلية وخارجية صلبة؛ فدمشق تمارس تحوّطًا استراتيجيًا يهدف إلى تحييد الأدوار السلبية لروسيا من دون كسر العلاقة، عبر مقايضةٍ ضمنية بين استمرار امتيازات موسكو في ملفات القواعد والاقتصاد، وبين انخراطٍ روسي أكثر مسؤولية في ترتيبات الشمال الشرقي والجنوب ومسار العدالة الانتقالية. ومن جهتها، تتعامل موسكو بمنطق حوكمة أمنية شبكية يوازن بين قبولٍ إسرائيلي باستمرار دورها الضابط جنوبًا، وتنسيقٍ مُدار مع أنقرة و“قسد” شمالًا، مع الحرص على عدم تقويض صورتها كحليفٍ موثوق. وتعمل الآلية السببية الحاكمة عبر مقايضة النفوذ بالشرعية: كلما حصلت روسيا على ضمانات طويلة الأمد لوجودها العسكري والاقتصادي، زادت قابليتها لتقديم تنازلات عملية -ولو تدريجية- في ملفات حسّاسة. ويُقاس نجاح الزيارة بمؤشرات ملموسة: ملاحق تنفيذية للقواعد، ترتيبات دوريات/مراقبة في الشمال الشرقي، انخفاض الاحتكاك في الجنوب بفعل قنوات فضّ الاشتباك، وخطوات قابلة للتحقق في العدالة الانتقالية (تسليم محدود/فتح أرشيف/لجان مشتركة). بهذا المعنى، لا تمثّل الزيارة قطيعةً ولا تبعيةً، بل تحولًا إلى علاقة براغماتية مُقنّنة تستجيب لبنية أمنٍ إقليمي مركّب، وتُتيح لدمشق توسيع هوامشها التفاوضية من دون الانزلاق إلى صدامٍ مكلف مع موسكو.
النفوذ الروسي يتحول من عسكري إلى سياسي–اقتصادي، ودمشق تبني توازنات جديدة تحفظ سيادتها
في المحصلة، يمكن النظر إلى الزيارة بوصفها منعطفًا في إعادة تعريف العلاقة السورية–الروسية بعد عقدٍ من الارتهان الكامل لسياسات موسكو. فالحكومة السورية الجديدة لا تسعى إلى كسر التحالف التاريخي بقدر ما تعمل على إعادة هندسته على أسس الندية والسيادة، مستفيدة من واقع دولي متغيّر يتّجه نحو تعدد الأقطاب وتراجع القدرة الروسية على فرض الإملاءات في ظل استنزافها في الحرب الأوكرانية. هذا التحوّل يمنح دمشق فرصة نادرة لاستعادة قرارها الوطني، وإعادة توزيع أوزان القوى الخارجية على أرضها بطريقة تخدم مصالحها العليا، دون أن تخسر المكاسب الأمنية والسياسية التي وفّرها التنسيق مع موسكو خلال السنوات الماضية. وبذلك تتحوّل العلاقة من “تبعية أمنية” إلى شراكة تفاوضية توازن بين الحاجة إلى الدعم العسكري والاقتصادي الروسي، والرغبة في بناء استقلال استراتيجي فعلي في إدارة الملفات الداخلية والإقليمية.
أما على المستوى الإقليمي والدولي، فتؤشر الزيارة إلى أن سوريا الجديدة تسعى لتثبيت موقعها كفاعلٍ متوازن في معادلات الشرق الأوسط، من خلال إدارة شبكة علاقات متداخلة تشمل موسكو وأنقرة وتل أبيب وواشنطن، دون الارتهان لأي محور. فروسيا، رغم تراجع قدراتها، ما زالت تمتلك أوراقًا نوعية: القواعد العسكرية، العلاقة مع المكوّنات المحلية، الخبرة الميدانية، والقدرة على الوساطة مع الأطراف المتصارعة. في المقابل، تمثّل دمشق بيئة اختبارٍ لنمطٍ جديد من العلاقات الدولية يقوم على التكيّف البراغماتي بدل الاصطفاف الأيديولوجي. وعليه، فإن نجاح زيارة موسكو لا يُقاس بالتصريحات أو البروتوكول، بل بقدرة الطرفين على تحويلها إلى عقدٍ استراتيجي مرن يضمن مصالحهما المشتركة ويؤسس لمرحلة من “التوازن المتعدد” في سوريا ما بعد الصراع.
في المنظور الاستشرافي، يُرجَّح أن يتّجه الدور الروسي في سوريا خلال السنوات الخمس المقبلة نحو إعادة التموضع بدل التراجع الكامل، بحيث تتركز أولوياته في الحفاظ على المكاسب الجوهرية التي حققها منذ 2015 – ولا سيما القواعد العسكرية، واتفاقيات الطاقة، ومكانته كوسيطٍ مقبول بين الفاعلين الإقليميين. إلا أن هذا الدور سيتحول تدريجيًا من نموذج الهيمنة العسكرية إلى نموذج النفوذ المحدود بالصفقات السياسية والاقتصادية، في ظل الضغوط المتزايدة التي تفرضها الحرب الأوكرانية وتكاليفها على القدرات الروسية. كما سيُدرك الكرملين أن استمرار حضوره الفعّال في سوريا لن يكون ممكنًا إلا من خلال التكيّف مع ديناميات السيادة السورية الجديدة، والانفتاح على ترتيبات إقليمية أوسع تضم تركيا وإسرائيل وربما بعض الدول العربية المعنية بإعادة الإعمار. ومن شأن هذا التحوّل أن يعيد تعريف طبيعة النفوذ الروسي في المنطقة، بحيث يغدو أكثر واقعيةً ومرونةً وأقل طموحًا للهيمنة، ويستند إلى مقاربة “النفوذ الذكي” القائمة على الوساطة والاستثمار والمصالح المشتركة بدل الوجود العسكري الكثيف. وبهذا المعنى، يمكن القول إن مستقبل الدور الروسي في سوريا سيتحدد وفق قدرة موسكو على تحويل إرث تدخلها العسكري إلى رأس مال دبلوماسي واستثماري، وعلى قبولها بلعب دور “الضامن الشريك” بدل “الوصي المهيمن” في معادلة الشرق الأوسط الجديدة.
[1] الغد، «أبرز الاتفاقيات السورية-الروسية بعد سقوط نظام الأسد»، الغد (الأردن)، 17 تشرين الأول 2025 https://alghad.com/story/2050741
[2] Akopov, Petr. “Опять мимо: Путин потерял, а Трамп нашел.” RIA Novosti, October 16, 2025. https://ria.ru/20251016/putin-2048467957.html.
[3] تعد القاعدتان ركيزتين أساسيتين للوجود العسكري الروسي في البحر الأبيض (مساحة عملية مهمة في جنوب النيتو) المتوسط وأفريقيا. إضافةً إلى التواجد العسكري في مطار القامشلي شمال شرقي البلاد.
[4] جابر، حسن. “سوريا وروسيا: سقوط الحليف وانكسار الفكرة؟” معهد السياسة والمجتمع، 14 ديسمبر 2024. https://wp.me/pdSIuF-2Ka
[5] رويترز. “روسيا تُقامر بالحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا ما بعد الأسد.” وكالة رويترز، 2 آذار/مارس 2025. https://bitly.cx/SUCTA
[6] عنب بلدي. “ألمانيا تدعو روسيا إلى إغلاق قواعدها في سوريا.” عنب بلدي، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2025. https://www.enabbaladi.net/734514
[7] رويترز. “إسرائيل تضغط على الولايات المتحدة للإبقاء على القواعد الروسية في سوريا «الضعيفة»، بحسب مصادر.” وكالة رويترز، 28 شباط/فبراير 2025. https://bitly.cx/XHq3
[8] الأسعد، عبد الله. “هل ستعود الشرطة العسكرية الروسية قواتِ فصلٍ جديدةٍ في الجنوب السوري.” تلفزيون سوريا، 18 أكتوبر 2025. https://www.syria.tv/333025
الجيش الأمريكي – قيادة التدريب والعقيدة (TRADOC). “روسيا تعيد نشر الشرطة العسكرية في جنوب سوريا.” منشور بيئة العمليات – Operational Environment Enterprise، تشرين الأول/أكتوبر 2025 https://oe.tradoc.army.mil/product/russia-redeploys-military-police-to-southern-syria
[9] Lavrov, Sergey. “Sergey Lavrov’s remarks and answers to media questions at a news conference following the High-Level Week of the 80th session of the UN General Assembly.” Permanent Mission of the Russian Federation to the United Nations, September 27, 2025. https://russiaun.ru/en/news/270925.
[10] تشير تقديرات ميدانية إلى وجود أكثر من 20 ألف جندي تركي موزعين على نحو 120 موقعًا، مقابل بضع مئات من الجنود الروس في القامشلي ومحيطها، ونحو ألف جندي أميركي في قواعد التحالف شرق الفرات.
[11] وينتر، لوكاس. “روسيا تستخدم الأكراد لاستعادة نفوذ النظام في شرق سوريا.” معهد نيو لاينز (New Lines Institute)، 18 أيلول/سبتمبر 2020
رووداو. “روسيا تعتبر اتفاق قوات سوريا الديمقراطية ودمشق خطوة مهمة نحو استقرار سوريا.” رووداو، 13 مارس 2025. https://www.rudaw.net/english/world/130320251.
[12] الكرملين رفض التعليق عليه لاحقًا بحسب جواب السكرتير الصحفي للرئيس الروسي والمتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، على ما إذا كانت قضية تسليم الرئيس المخلوع بشار الأسد، قد أثيرت خلال المحادثات السورية الروسية في موسكو.
[13] الشبكة السورية لحقوق الإنسان. “في الذكرى العاشرة للتدخل العسكري الروسي في سوريا.” الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 30 سبتمبر 2025 https://bitly.cx/oGXoY.
