السيكولوجيا السياسية لنتنياهو: كيف يُعاد إنتاج الجدار الحديدي في إسرائيل

نتنياهو هو الابن المخلص لعقيدة الجدار الحديدي التي صاغها مؤسس الصهيونية التصحيحية وصديق والده، زئيف جابوتنسكي. “بيبي” -كما يطلق عليه أنصاره- لا يثق بأحد ولا يهادن أحدًا، ويؤمن أن البقاء لا يتحقق إلا بالقوة. ولا يرى في القوة مجرد خيار سياسي فقط، بل يعتبرها الجدار الحديدي الذي يحميه، ويحمي إسرائيل، من السقوط والانهيار. إن السلوك السياسي المتطرف لأطول رؤساء وزراء إسرائيل بقاءً في الحكم لا يمكن فهمه بمعزل عن جذوره النفسية والبيئية التي شكلته؛ فهو ليس مجرد سياسي يراوغ هنا ويكذب هناك، بل نتاج بيئة أيديولوجية متشددة ونشأة عائلية مشبعة بعقدة البقاء والاعتقاد بأن العالم بأسره عدو. في هذا المقال، نقدم قراءة سيكولوجية لفهم نتنياهو، ونبرز كيف تحول لتجسيد حي لفكر جابوتنسكي، وكيف أن هذه السيكولوجية جعلت من الخوف والقوة والكذب أدوات لا غنى عنها في مسيرته السياسية.

النشأة

في سيرته الذاتية قصة حياتي (ביבי סיפור חיי)، نجد وصفًا يساعدنا على فهم ظروف نشأته؛ إذ نجد وصفًا لها على لسانه “عشتُ حياةً ذات معنى، غايتها تأمين مستقبل شعبٍ عريق”، هذه العبارة ليست توصيفًا عاطفيًا يبحث من خلالها عن إثارة العواطف، بل هي واقعٌ عاشه في طفولته، وساهم في تكوين شخصيته. والده بنصهيون ميليكوفسكي، المؤرخ الصهيوني التصحيحي، والذي قام بتغيير كنيته إلى نتنياهو، والتي تعني عطية الرب؛ إيمانًا منه برؤية تاريخية نقلها لبينيامين “شعب إسرائيل في خطر دائم من الفناء، ووجوده المستقبلي غير مضمون، ورجل الدولة اليهودي الكفؤ هو من يتنبأ بهذا الخطر ويتعامل معه”. لم يكن البيت الذي وُلد فيه نتنياهو في القدس عام 1949 مجرد بيت عادي، بل كان خلية صغيرة تعكس فكر زئيف جابوتنسكي، الأب الروحي للصهيونية التصحيحية وصديق والده؛ ففي ظل سيطرة اليسار والاشتراكية على الحركة الصهيونية، سادت مشاعر العزلة والعداء داخل هذا البيت، هذه العزلة عزّزت عند “بيبي” الصغير شعورًا بالاغتراب، وعمّقت داخله قناعة أن محيطه معادٍ، لا من العرب فقط، بل حتى من داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه.

نظرية الجدار الحديدي.. الأساس السيكولوجي

ولد زئيف جابوتنسكي عام 1880 في مدينة أوديسا الاوكرانية، كان صحفيًا، كاتبًا، وسياسيًا عسكريًا، انشق عن الحركة الصهيونية التي قادها بن غوريون وحزب العمل، وأسس حركة الصهيونية التصحيحية، والتي تميزت بالتشدد والرفض المطلق لأي تنازل وحوار مع العرب إلا من باب القوة. أسس منظمة البيتار (בית”ר) المتطرفة، والتي ولد من رحمها المنظمة الاكثر تطرفًا وإجرامًا، منظمة اتسل (אצ”ל) والتي أصبحت بعد حرب عام 1948 حزبًا سياسيًا على يد مناحم بيغن باسم حيروت (חירות) والذي اندمج لاحقًا مع حزب الليكود (הליכוד) بقيادة نتنياهو اليوم. في عام 1923، وضع جابوتنسكي نظرية الجدار الحديدي، في مقال نشره يحمل نفس اسم نظريته، وقال أن العرب لن يتنازلوا عن أرضهم، بدافع داخلي يتجلى بانتمائهم الديني والوطني، ولن يقبلوا طوعًا بالمشروع الصهيوني ويتنازلوا عن أرضهم؛ لذلك لا سبيل للصهيونية إلا في القوة المفرطة لاقتلاعهم من الأرض، وبناء جدار عسكري، سياسي، واقتصادي من القوة، حينها لن يكون هناك بصيص أمل صغير للمقاومة، وأي ثقب صغير بالجدار -وهنا يعني تنازل من الصهيونية، تنازل سياسي أو أمني- سيعطي للعرب الأمل لاستمرار مقاومتهم.

لذلك ووفقًا لنظرية الجدار الحديدي، يجب قتل الأمل عند العرب، وجعل أي محاولة للمقاومة عملية ميؤوس منها، حينها سيأتي العرب لطاولة المفاوضات لكن لا كشركاء، إنما كمهزومين، وبناءً على معطيات أمنية فرضت عليهم. هذه النظرية التي تشربها نتنياهو -كما يؤكد في سيرته الذاتية بتأثره الكبير بأفكار جابوتنسكي- ليست نظرية سياسية، بل منظومة نفسية إدراكية نشأ عليها، تؤكد أن أي تنازل، ولو كان صغيرًا، يعني الفناء. عقيدة الجدار الحديدي هي العدسة التي يرى من خلالها نتنياهو العالم، وبها يقود علاقته مع العرب، وهي العقيدة التي تساعدنا على فهم قراراته وتصريحاته السياسية.

موت يوني.. الولادة الحقيقية لنتنياهو سياسي اليوم

يونتان بن صهيون نتنياهو، الشقيق الأكبر لبنيامين، ولد في القدس عام 1946، التحق في سرية سيريت متكال (סיירת מטכ”ל) وهي وحدة النخبة الأكثر سريةً ومهارةً في الجيش الإسرائيلي، برز سريعًا وتدرج في صفوفها إلى أن أصبح من أبرز ضباطها.

يونتان، الاسطورة التي كانت تتشكل، لقي حتفه خلال قيادته لعملية عنتابي في أوغندا عام 1976 لتحرير رهائن إسرائيليين اختطفوا من قبل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان المقاتل الوحيد الذي قتل في هذه العملية. بالنسبة لبنيامين، الذي كان قد خدم في ذات السرية، سيريت متكال (סיירת מטכ”ל)، وشارك في حرب النكسة 1967 ومعركة الكرامة 1968، كان موت يونتان بمثابة زلزال نفسي، قلب حياته رأسًا على عقب؛ فقد كان يونتان أخاه الكبير وقدوته، وعمقت هذه الحادثة من مشاعر الكره للعرب داخل بنيامين، وتصويرهم على أنهم شعوب إرهابية، وهذا تجلى في إنشائه لمعهد يونتان لدراسات الإرهاب.

هذه الصدمة، صنعت ثلاث تحولات جوهرية في شخصية نتنياهو أولاً الانتقال من ظل الاخ إلى حامل الإرث: يونتان كان مركز الاهتمام في العائلة، بنيامين وجده نفسه حاملاً راية تحقيق ما طمح إليه والدهما، وثانياً الهوس بالأمن؛ نتنياهو تشرب عقيدة الجدار الحديدي، لكن موت اخاه يونتان كان تطبيقًا عمليًا لها؛ لذلك تشكل لديه الإيمان الراسخ بالعقيدة: أي لحظة ضعف تعني خسارة كبرى. وأخيراً البقاء مهما كلف الثمن؛ أصبح نتنياهو يقدم نفسه بأنه الجدار الحديدي الاخير لإسرائيل، وأن أي تراجع أو تنازل سيفتح الباب أمام مأساة كموت أخيه لكن على مستوى الدولة والشعب.

السمات السيكولوجية لنتنياهو

ظروف التنشئة في صباه، والتحولات النفسية التي عاشها بعد وفاة أخيه، شكلت لدى نتنياهو شخصية لا يمكن فهمها إلا كخليط معقد من النرجسية المفرطة، عقلية الارتياب، الوصولية الميكافيلية، والاعتياد على الكذب المستمر كأداة لتحقيق أهدافه في السلطة.

هذه السمات النفسية المعقدة، ليست توصيفًا نفسيًا فقط، بل هي مفاتيح لفهم مسيرة رجل يرى نفسه بأنه الجدار الحديدي ونبوءة والده. 1) النرجسية السياسية “أنا الدولة والدولة أنا”: نتنياهو لا يرى نفسه رئيسًا لحكومة تنادي بأنها الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، بل يعتبر نفسه معادلة البقاء والوجود لإسرائيل، وفي عام 2025 خرج بتصريح “أريد ان أٌذكر كحامي اسرائيل”، هذه العقلية ليست بجديدة؛ ففي انتخابات عام 1996 وبعد فوزه في الانتخابات صرح قائلًا “لقد أنقذنا اسرائيل من كارثة أوسلو”، وأثناء محاكمته بتهم الفساد 2019-2021 شبّه نتنياهو محاكمته بأنها إسقاط لدولة إسرائيل، وكأنه يعيد صياغة مقولة لويس الرابع عشر، لكن بصورة أكثر حداثة.

2) عقلية الضحية: منذ طفولته، وشعوره العائلي بالعزلة التامة بسبب أفكار والده، بدأ يشعر بأن العالم كله ضده، حمل شعورًا بالاغتراب والعداء، وتشكل لدى نتنياهو الصغير شعورًا بأن كل ما هو مختلف، هو العدو، وفي أثناء محاكمته عام 2019 صور القضاء والإعلام الإسرائيلي كجزء من دولة عميقة يسارية تستهدف اليمين الاسرائيلي المتمثل بشخصه هو.

3) الوصولية الميكافيلية: إذا كانت النرجسية تمنحه شعور التفوق، وعقلية الضحية تصنع له أعداء دائمين، فإن الميكافيلية توفر له الأدوات للبقاء. نتنياهو لم يتردد في تشكيل أكثر حكومات اسرائيل تطرفًا، وذلك من خلال حكومة تحالف مع إيتمار بن غفير، رمز الفاشية الجديدة، والذي كان منتميًا لمنظمة كاخ (כך) المصنفة كمنظمة إرهابية على لوائح الإرهاب الامريكية وحتى الإسرائيلية، فقط ليضمن أصوات اليمين المتطرف، وفي المقابل، تحالف أيضًا مع أحزاب دينية لا يشاركها

الأيديولوجيا. جعلت براغماتيته القاسية من كل تحالف ورقة مؤقتة، وكل شعار أداة لتحقيق الغاية النهائية: البقاء في السلطة.. مهما كلف الامر.

4) الكذب كقوة: عند نتنياهو، لا يعد الكذب عيبًا أخلاقيًا، بل أداة حكم، وفي عام 2002 عندما كان بنيامين نتنياهو في الكونغرس الأمريكي، وعد بأن غزو العراق والإطاحة بصدام حسين سيكون له “تداعيات إيجابية هائلة” في الشرق الأوسط، وفي خطابه الشهير في الأمم المتحدة 2012، حين رفع رسمة كاريكاتورية لقنبلة محذرًا من اقتراب إيران من امتلاك السلاح النووي خلال عام واحد. وفي الداخل الإسرائيلي، اعتاد نتنياهو على استخدام خطاب مزدوج: يعد المستوطنين بالتوسع، ويعد المجتمع الدولي بالانضباط؛ ويعد بالسلام في واشنطن، ويعزف على وتر الخوف في تل أبيب. بالنسبة لنتنياهو، الحقيقة ليست ما حدث، بل ما يضمن بقاءه.

إلى أين يتجه نتنياهو؟

من المتصور أن يواصل نتنياهو صنع الأزمات الخارجية للهرب من الأزمات الداخلية، حتى لو اضطَر إلى المساس “بإحدى اتفاقيات السلام”، سيبرر ذلك بالخطر الديموغرافي الفلسطيني، سيجد المهرب لتبرير ذلك من خلال خطاب الخوف الذي مارسه مرارًا وتكرارًا، وبكل تأكيد سيستخدم التضليل كأداة تعبئة، وكلما ضاق عليه الخناق، سيتكئ أكثر على أقصى اليمين الديني القومي، ولو على حساب العزلة الدولية لإسرائيل.

خاتمة

نتنياهو ليس مجرد رئيس وزراء، بل سجين جدرانه النفسية، ابن لعقيدة ترى في القوة الخلاص الوحيد، ووريث لصدمة حولت الموت الشخصي إلى هاجس قومي. لكن، وفي سعيه لأن يكون “الجدار الحديدي الأخير”، حول إسرائيل إلى دولة تعيش على الخوف، وتقتات على الأزمات، ويومًا بعد يوم تتعرض لعزلة أكبر.

الخطر الأكبر لا يكمن في كذب نتنياهو، أو مراوغته، أو تضخيمه للتهديدات، بل يكمن الخطر في نجاحه في تحويل هذه السمات السيكولوجية إلى وعي جمعي إسرائيلي، حتى صار المجتمع الإسرائيلي يرى العالم بذات عدسته: كل تنازل يعني هزيمة وانهيار، وكل أزمة تعني فرصة للبقاء.

إن عقيدة الجدار الحديدي التي تبناها لحماية إسرائيل قد تتحول إلى مقبرة سياسية وأخلاقية لها؛ فالجدار الذي بناه بيبي ليصد الأعداء قد ينهار من الداخل، لا بفعل قذائف الفلسطينيين أو صواريخ إيران، بل بفعل انقسام مجتمع يستهلك نفسه في عقد زعيمه. السؤال الحقيقي هنا ليس: هل سيرحل نتنياهو؟ بل هل تستطيع إسرائيل أن تنجو من “نتنياهويتها” بعد أن زرع في وعيها أن البقاء لا يكون إلا بجدار من الخوف والكذب؟

زر الذهاب إلى الأعلى