محددات المعارك الكُبرى

كيف أدّت الفصائل امتحانَ الاستهداف الفردي؟

شهدنا خلال الأسبوع الفائت عمليةً عسكرية قادتها قوات الاحتلال على قطاع غزة قالت إنها تأتي في سياق الرد على الصواريخ التي أطلقتها حركة سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي رداً على استشهاد القيادي في الحركة خضر عدنان في سجون الاحتلال، واستهدفت الغارات الإسرائيلية منذ فجر الثلاثاء منازل لثلاثة قيادات في سرايا القدس أدت الى استشهادهم مع عوائلهم، ثم بعد ذلك جاء رد الفصائل الفلسطينية بقصف كثيف طال مدناً وبلدات محتلة من مدن غلاف غزة وصولاً إلى تل أبيب.

حاول الإسرائيليون من اللحظة الأولى أن يتمسكوا بالنموذج الذي يستخدمونه الآن للمرة الثالثة وهو الاستهداف الفردي لإحدى الفصائل دون غيرها والتأكيد باستمرار على أن العملية تستهدفها وحدها وتشدد وتهدد في حال دخول أي فصيل آخر إلى المعركة إلى جانب سرايا القدس؛ وتحديداً دخول حماس، وهو ما تحول إلى سؤال صعب في الفضاء العام العربي وسؤال صعب بالنسبة للمحللين السياسيين الذين وجدوا في هذه الحالة استهدافاً للبنية المتماسكة للمقاومة والتي تشكلت منذ الحرب الأولى على القطاع أواخر عام 2008، وطُرحَ هذا السؤال وهذا التخوف من تفكك صف الفصائل الفلسطينية في القطاع وتمكُن الاحتلال من الاستفراد بفصيل دون غيره منذ الاستهداف الأول للجهاد في نوفمبر 2019 بعد رد سرايا القدس على استهداف قائدها بهاء أبو العطا بغارة إسرائيلية على القطاع، وهي المعركة التي لم تشارك فيها حماس وجناحها العسكري ولم يظهر فيها الزخم العسكري المعتاد لا في الضربات من غزة  ولا عدوان الاحتلال بل وذهب القول إلى أن حماس ضغطت باتجاه تهدئة الوضع وعدم تفاقمه، وهنا بدأت التحليلات تتحدث عن جهدٍ إسرائيليٍّ حثيث لتفسيخ الصف الفلسطيني بالاستهدافات الفردية للحركات، وهو ما يظهر أنه كان بالفعل هدفاً جلياً أبرزته التحركات العسكرية والتصريحات الإعلامية التي ركزت وكثفت جهودها في استعراض إبقاء حماس والفصائل الأخرى بعيدةً عن المعركة، لم تكن هناك تصريحات واضحة بتبنّي المعركة من قبل غرفة العمليات المشتركة مع وجود تصريحات سياسية من كافة الفصائل والقيادات السياسية في القطاع وخارجه تدعم حركة الجهاد وتدين عملية الاغتيال.

ذهبت التحليلات آن ذاك إلى القول بأن هذه المعركة التي قادتها الجهاد ولم تشارك بها حماس هي إحدى تجليات ما تعمل عليه إيران في غزة من محاولةٍ لتنمية قوة الحركة على حساب حماس، خصوصاً بعد توتر علاقات الأخيرة مع النظام السوري وتراجع أسهمها عند إيران نتيجةً لذلك، وذهب آخرون إلى دراسة حماس بعد إطلاقها لوثيقتها عام 2017، والتي رأوا فيها تنازلات كبيرة من الحركة عن مواقفها التاريخية على رأسها اعترافها بدولة فلسطين على حدود عام 67، وهنا بدأت إسقاطات افتراضية بالبروز في الرأي العام منها تشبيه هذا المسار بمسار حركة فتح المتراجع عن الكفاح المسلح نحو التفاهمات السياسية، وأن حماس ستتجه بهذا الاتجاه وأن الجهاد ستكون حماس الجديدة حينها، وبدأ البعض محاولةً لبناء دورة حياة افتراضية لحركات التحرر الفلسطينية تبدأ بالنضال وتنتهي بالمسايسة والتفاوض والتنازل نهاية المطاف، وهنا يمكن القول أن مثل هذه الافتراضات لا يمكن عزلها عن الشعور العربي آن ذاك والذي كان محمّلاً بمشاعر اليأس وخيبة الأمل الذي أنتجته مرحلة تهشم عديد من الدول العربية بعد الثورات والثورات المضادة ومجموعة من الانقلابات العسكرية والنزاعات المسلحة، عزز هذا الشعور قدوم ترامب إلى السلطة بمشروعٍ يحمل في جوفه تصفية القضية الفلسطينية، متبوعاً بانطلاق مسيرة التطبيع وتجريم لحركات مثل حماس والجهاد، وهو الذي أورد خيار الضعف والاضطرار إلى التنازل كممكن في ذهن المتابع للمشهد على الساحة الفلسطينية، وهو الافتراض الذي يمكن القول بأن الفصائل الفلسطينية عموماً وحماس خصوصاً قامت بتفنيده بقوة في معركة سيف القدس عام 2021.

إن قراءة أسباب دخول غزة في معركة ما من عدمها بعيداً عن الحمولة العاطفية الكثيفة التي أظهرتها التحليلات آن ذاك، وخصوصاً في معارك كبرى تحتاج إلى دراستها من خلال محددات موضوعية لا يمكن تجاوزها، على رأسها الوضع الدولي القائم والأوضاع العربية والسياق الفلسطيني الداخلي والسياق في داخل حكومة الاحتلال، ووضع الفصائل الفلسطينية الداخلي، وفي النظر في تلك المحددات عام 2019 يمكننا إلقاء الضوء على مجموعة من النقاط:

أولاً: الظرف الدولي:

إن أولى المحددات التي يجدر النظر لها عند دخول حرب مع كيان الاحتلال هي تقييم ظرفه مع حلفائه وعلى رأسهم الحليف الأهم وهي الولايات المتحدة الأمريكية، ويجدر القول هنا أن حركة حماس منذ سيطرتها على قطاع غزة لم تدخل إلى الآن أي معركة كبرى إلا في وجود رئيس ديمقراطي، على قِصر هذه الفترة إلا أنه يمكن للمتابع أن يرصد الحد الذي ذهبت فيه حماس لضبط انفعالاتها خلال الفترة الرئاسية لترامب والذي كان أولاً يقود حملة ممنهجة في العالم تحت عنوان الإرهاب الإسلامي، كما كان يقود حملة ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية، عدا عن أنه كان يتوجه إلى سلوك أمريكي غير معتاد في الاستبداد بالرأي الغربي دون اعتبار لحلفائه التقليديين في أوروبا والذي بدأ بانسحابه من اتفاقية المناخ والضغط على الأوروبيين في ملفات اقتصادية كبرى أدى بهم لانتهاج سلوك احترازي معه، وهو ما يعني أن ردود الفعل الداعمة للاحتلال من قبل الولايات المتحدة في حالة الحرب لم تكن متوقعة أو محسوبة وكانت المراهنة في تلك المساحة خطيرة للغاية، إضافةً إلى وجود ضاغط كبير على الرأي العام العالمي وخصوصاً الرسمي يحد من رفع الكلفة السياسية على الاحتلال في معركته مما يعني عدواناً غير منضبط الوحشية والدمار.

ثانياً: الظرف الإقليمي:

تعتمد الفصائل الفلسطينية في حربها بشكل كبير على حجم الدعم القادم من حلفائها في الإقليم، وفي نظرة سريعة على الإقليم آن ذلك تظهر الروافد العسكرية والدبلوماسية بأنها كانت في أكثر أحوالها ضعفاً، من توتر العلاقة مع النظام السوري والإيراني إلى انهيار النظام السوداني الذي كان أحد أهم موردي السلاح أو معابر مروره على الأقل ثم إغلاق الأنفاق من الجانب المصري وتشديد الرقابة في البحر الأحمر على عمليات التهريب، يمكننا القول بأن أوضاع خطوط الإمداد للفصائل في القطاع لم تكن تسعفها لدخول حرب كبرى.

يضاف إلى هذا أن وضع حماس إقليمياً عند الدول العربية لم يكن بهذا التردي من قبل، فمن منع قياداتها من دخول دول عربية عديدة واعتقالهم وخروجهم من دول حلفائهم تحت ضغط إسرائيلي أمريكي، وشبه انقطاع في العلاقة مع مصر لم تكن حماس تمتلك الحد الحرج من الاتصال والعمق الدبلوماسي اللازم والضروري في الحرب والذي يمكن من خلاله الضغط على الاحتلال أو فتح قنوات اتصال خلال المعركة خصوصاً فيما يتعلق بقضايا وقف إطلاق النار.

وأخيراً إن من روافد المعركة هو البعد النفسي والمعنوي والدعم الإعلامي الذي يوفره تسليط الضوء على القطاع أثناء الحرب ويحشد الرأي العام باتجاهها ويشكل ضاغطاً على الأنظمة السياسية العربية للتحرك بهذا الاتجاه وعلى الرأي العام الإقليمي والدولي، غير أن المنطقة العربية كانت حينها في لحظة من أكثر لحظاتها اشتعالاً في كل من شمال سوريا والسودان ولبنان واليمن وليبيا ودول عربية أخرى وحتى في الساحة الأردنية، وفي صالونات السياسة وقاعات الدبلوماسيين المغلقة أيضاً يمكن القول بأنه لم يكن أحدٌ متفرغاً للنظر إلى حرب في غزة كما المعتاد، وهو وما سيتركها مكشوفة نسبياً في حربها.

 ثالثاً: السياق الإسرائيلي الداخلي:

من أهم خصائص الحرب أنها مكروه يدفع لنقد شديد لمسببها في المجتمعات المستقرة، في حين أنها الوصفة التاريخية لتوحيد مجتمعات مضطربة وإعادة لملمة صفوفها، وفي قراءة السياق السياسي في الداخل الإسرائيلي عام 2019 فإنه يمكن القول بأنها أكثر لحظات السياسية الإسرائيلية تعكرساً واضطراباً، وبعد فشل تشكيل الحكومة عدة مرات متتالية لم تكن الحرب لتكون إلا خياراً منقذاً للإسرائيليين وموحداً لصفوفهم ودعايةً انتخابيةً في ذات الوقت للتيارات اليمينية على اختلافها، وهذا يعني تحول الحرب إلى مساحة استعراض عسكري فج واستخدام كل وسيلة ممكنة لتهويلها في سبيل لملمة الوضع الداخلي الإسرائيلي، وهو ما أظن أنه خيار يقترب من الانتحارية بالتوجه إليه اذا كان من الممكن تفاديه .

رابعاً: الترسانة العسكرية والقدرة على الاستدامة:

تبعاً للظروف التي يعيشها القطاع ومنها ما أوردناه سابقاً عن ضرب خطوط الإمداد العسكري للمقاومة، فإن خيار الحرب لا يمكن أن يكون خياراً أولاً، بل يكاد يكون دوماً خيار ما بعد الأخير، وكذلك الأمر فإن هذا الخيار في حين اتخاذه لا يمكن العودة إليه مرة أخرى في وقت قصير قبل العمل على إعادة التعبئة، حيث تعمل الأجنحة العسكرية لفترات طويلة جداً على ترميم المخزون الصاروخي بعد معارك طويلة، ولا يمكن القياس هنا على كل من حرب حجارة السجيل والعصف المأكول التي جاء كل منهما في ظل الربيع العربي وانفتاح غير معهود لخطوط الإمداد على القطاع وخصوصاً بوجود محمد مرسي في رئاسة مصر وهي أحد أهم عناصر التطور النوعي في سلاح المقاومة حينها، وهو محدد آخر تحاول الفصائل الفلسطينية الحفاظ عليه في كل معركة من معاركها، وهو وجود تطور نوعي في المعركة عن سابقتها بما يؤشر على أن الكفاح المسلح ليس متوقفاً في مكانه وهو ما يرسل رسالة سياسية قوية للإسرائيليين كما أنه يحشد الرأي العام حول الفصائل.

يمكن القول بأن هذه المحددات من ضمن أهم المحددات التي تضبط إدارة المعركة عند قيادة الفصائل الفلسطينية وخصوصاً حماس، وهي المحددات التي يحضر دوماً إلى جانبها الكلفة البشرية والمادية التي سيتم دفعها عند الدخول في حروب كبرى مع الاحتلال، فإذا ما نظرنا إلى كل هذه الخيارات يمكننا أن نقيّم فرص الذهاب إلى معركة موسعة مع الاحتلال من عدمها.

تبعاً لذات المحددات وعند محاولة اسقاطها على الظرف الذي كان يمر به العالم عام 2021، والذي يمكن هنا القول بأن أول محدداته المتمثل بالعلاقات الدولية كان غياب ترامب ووجود خلاف كبير بين نتنياهو وبايدن وضجر العالم الغربي عموماً من التعامل مع حكومة يمينية، إضافةً إلى الوضع القائم في القدس وأزمة حي الشيخ جراح التي جمعت الرأي العربي والدولي الشعبي والرسمي نحو فلسطين لفترة طويلة، بل أنه حشد الرأي العام الفلسطيني في داخل فلسطين كلها نحو قضية واحدة، وإضافةً إلى الهدوء النسبي الذي كان يمر به العالم نتيجة جائحة كورونا، وهدوء نسبي في عدة ملفات في الإقليم ومرور قرابة 7 سنوات على أخر معركة دخلها القطاع؛ ما يعني بناء مخزون حربي مريح، فإن كل هذه الخيارات يمكن القول بأنها أتاحت الفرصة للمقاومة لا للدخول في معركة رد عدوان عن غزة فقط، بل أتاحت لها الفرصة للرد على صدام مع الاحتلال خارج حدود غزة، وشن معركة سريعة وتحقيق ضربة كانت مؤثرة في الاحتلال على عدة أصعدة إضافةً إلى وجود تطور نوعي في سلاح القسام والسرايا والقوة التفجيرية للرؤوس الحربية حينها، يضاف إلى هذه المعركة أن حماس استطاعت فرض واقع جديد في ما يخص طبيعة الحرب، حيث أنها دفعت ونتيجة رفع كفاءة ضرباتها وحدتها الاحتلال إلى التوجه لاتباع سياسة أكثر حذراً في القصف تحديداً بدلاً من الطرق التي اتبعها الاحتلال في الحروب السابقة وظهر هذا جلياً على أعداد الشهداء حيث انخفض عدد الشهداء في كل يوم من الحرب بصورة كبيرة مقارنةً في المعارك السابقة.

في ذات السياق إذا ما نظرنا إلى العام الذي تلاه، وعند حدوث ظروف مشابهة في القدس فإن حماس لم تتمكن في رمضان أو بعده من دخول معركة مرة أخرى، حتى مع التوعد الذي أطلقه قائد الحركة في غزة يحيى السنوار آن ذاك، إلا أنه على ما يبدو لم يتمكن من حشد الحركة وراء خيار الذهاب لمعركة مرة أخرى  بعد سنة واحدة من معركة كبيرة أطلقت الفصائل الفلسطينية فيها 4 آلاف صاروخ في 11 عشر يوم وهو نصف العدد الذي أطلقته في العصف المأكول التي امتدت لقرابة 51 يوم، ما يعني أن الحركة بحاجة إلى وقت ترمم فيه ترسانتها العسكرية بعد تصعيد بهذا الحجم، بل حتى أنه (السنوار) واجه نقداً واسعاً داخل وخارج حماس في ما يخص تصريحاته التي وصفت بأنها تدخل الحركة في مربع لا ضرورة لبلوغه،  وأن الحركة لا يمكنها إشعال حرب كلما اقتحم مجموعة من المستوطنين المسجد الأقصى أو حي الشيخ جراح، وهذا انطلاقاً من قاعدة انعدام القدرة والإمكانية لا من قاعدة انعدام الداعي والحاجة، حيث أن حدث الاقتحام على ضرره سياسياً ومعنوياً إلا أن الرد عليه بالحرب ليس خياراً متاحاً باستمرار، وخصوصاً مع الأعداد الضخمة من المدنيين الذين يروحون ضحية هذه المعركة.

بعد هذه الأحداث بأشهر، اغتالت قوات الاحتلال مجموعة من قادة الجهاد الإسلامي في أغسطس 2022، ورغم أن الموقف بدا مرتبكاً في بداية المعركة لعدم الجاهزية لمعركة واسعة وفقاً للمحددات التي ذكرناها سابقاً حيث بدت الصورة على أنها مشابهة لما ظهرت عليه الفصائل الفلسطينية في معركة صيحة الفجر عام 2019، إلا أنها وعلى ما يبدو تحت هذا الامتحان استطاعت أن تطور صيغة معقولة للتعامل مع الاغتيالات والضربات الإسرائيلية وهي صيغة لم تكن مقنعة أو لنقل مُرضية إلى حد كبير بدايةً، ولا يمكن القول بأنها تطورت كثيراً لاحقاً لكن وجهة النظر تجاهها بدت أكثر قبولاً مع مرور الوقت، وهي صيغة تبنّي الغرفة المشتركة للفصائل الفلسطينية بصورة واضحة ومستمرة لموقف الحركة الداخلة بشكل مباشر في المعركة، وتبني عملياتها العسكرية إعلامياً، إلا أن الموقف كان متقدماً نسبياً عن الموقف خلال تصعيد عام 2019 الذي جاء فيه موقف الغرفة المشتركة متأخراً قليلاً وتزامن مع تصريحات للنخالة قال فيها أن المعركة تقودها الجهاد وهي من يتحمل مسؤوليتها، قبل أن يتدارك قادة من السرايا تلك التصريحات بعد المعركة بأن العملية أديرت بالتفاهم والتنسيق بين كافة الفصائل.

يجدر القول هنا أن الجبهة الشعبية دعت إلى اجتماع عاجل بعد تصعيد عام 2019 لتقييم الأداء المقاوم الفلسطيني وهو ما يظهر أن الوضع أثار تساؤلاً بين الحركات الفلسطينية، ولم يذهب الأمر بعيداً إلى أن قامت الغرفة المشتركة للفصائل بتنسيق مناورات هي الأولى من نوعها شارك فيها قرابة 11 فصيل مقاوم في غزة عام 2020، وهو ما ينم عن اتفاق على ضرورة اتخاذ خطوات عملية بتطوير دور غرفة الفصائل المشتركة.

على الرغم من أن الاحتلال الإسرائيلي سعى جاهداً لاستخدام الاستهداف المنفرد لفصيل دون آخر لزعزعة الصف الفلسطيني وتخفيف كلف المعركة عليه، إلا أنه يظهر بصورة أو بأخرى أن الاحتلال قد تورط في ما هو أبعد من ذلك نتيجة تفاعل الفصائل الفلسطينية مع العمليات المنفردة بصورة إيجابية نسبياً ومحاولة الاستفادة منها، حيث يمكن القول بأن الفصائل الفلسطينية ورغم أنها وجدت في هذا الاستهداف تهديداً حقيقياً لوحدتها بادئ الأمر، إلا أنها وجدت في هذا الخيار خياراً يمكن لها أن تستفيد منه بنفس الطريقة التي أراد الاحتلال أن يستفيد منه وبدرجة أكبر، حيث تقوم الفصائل بتنفيذ ضربات منسقة مع الفصيل الذي دخل المعركة، وتمده بصورة أو بأٌخرى ببعض الإمدادات اللوجستية والتقنية سرياً أو إلى حد لا يدفع بالاحتلال إلى اعتبارها شريكاً في المعركة، وفي قراءة أهداف الفصائل في المعارك والنتائج التي تحققها فيمكن القول أنه يمكن تحقيق هذه الأهداف من خلال دعم فصيل بدلاً من دخول حرب موسعة، فمثلاً من أهم المنجزات  في المعارك المختلفة أن يتم تعطيل الحياة اليومية في المستوطنات والمدن المحتلة وإنزال المستوطنين إلى الملاجئ، أو تعطيل حركة الملاحة الجوية، وهو ما يحصل بإطلاق 100 صاروخ أو بإطلاق ألف صاروخ، كلاهما سيفعل صافرات الإنذار ويدفع لتفعيل حالة الطوارئ، وهو ما يحصل بإطلاق صواريخ متطورة ومكلفة أو إطلاق صواريخ أقل كلفة وخصوصاُ على مستوطنات غلاف غزة، حيث أن رفع عدد الضحايا والقتلى في صفوف المستوطنين لا يمكن أن يكون خياراً منطقياً للمقاومة ( حالياً على الأقل ) ، ففي معركة سيف القدس وبعد إطلاق أكثر من 4000 آلاف صاروخ كان قتلى الإسرائيليين حوالي 16 قتيل، وهو رقم لا يتناسب إطلاقاً مع الكثافة الصاروخية، في ذات الوقت قدرت مواقع عديدة كلفة المعركة على دولة الاحتلال بما يزيد عن 2 مليار دولار، وتعطل للحياة اليومية ، والأهم من هذا كله المعركة المعنوية التي تحاول الفصائل من خلالها تثبيت عامل القلق وانعدام الاستقرار عند المستوطن الإسرائيلي، لا أقول أن الكثافة الصاروخية ليست ذات تأثير إلا أن هذا التأثير يتطلب إزاحة هائلة في أعداد الصواريخ ليكون ملموسا.

إن كل هذه المنجزات من تعطيل الملاحة الجوية من خلال ضرب تل أبيب، وتعطيل الحياة اليومية في محيط غزة وعلى نطاق 40 كيلو متر من حدود القطاع، وإنزال المواطنين إلى الملاجئ، قد تمت بالفعل خلال معركة دامت لخمس أيام الأسبوع الفائت بكلفة لا تقارن بسابقاتها على صعيد الكلف البشرية والكلف المادية بالنسبة للمقاومة، وعلى ما يبدو أن الاحتلال قد وجد ضرراً كبيراً في اختزال العملية العسكرية خصوصاً عند تعاطي الفصائل معه بهذا الشكل، خصوصاً في حين أن جزء كبير من عملياته كان معتمداً بشكلٍ رئيسي على مقدار الضرر الذي يوقع في غزة عموماً من خلال الضحايا البشرية وتدمير البنى التحتية في إقناع قواعده الشعبية بصرامة جيشه وفعله، يمكن القول أن هذا النوع من العمليات قد يكون مقنعاً لتيارات يسارية وليبرالية من المستوطنين وهو ما أظهرته آراء وتعليقات يائير لبيد مثلاً خلال العملية الأخيرة حيث أوصى بإنهاء العملية سريعاً والاكتفاء بالمنجز المحقق، إلا أن حكومة مثل حكومة نتنياهو لا تجد في معركة كهذه نفعاً كبيراً لها، ويبدو أنها عوّلت على دخول فصائل أخرى في المواجهة لتوسيعها وحاولت استفزاز حماس بخطاب تهديد إذا ما شاركت في محاولة لإحراجها مع قواعدها، في حين أنها وبدون مشاركة حماس وخصوصاً بعد الواقع الذي فرضته معركة سيف القدس من ناحية الضغط الدولي على الاحتلال تبقى مضطرة إلى هذا النوع من العمليات التكتيكية والمحددة قليلة الضحايا والذي تحاول الاستفادة منه في شق صف الغزي وهو ما يبدو أن الفصائل تعمل على تجاوزه باجتهاد، ولا  أقول هنا أنها تجنبت كل مخاطره، إلا أنها لا تسمح للاحتلال بالاستفادة منه كما أراد، وتحاول هي أيضاً أن تستفيد منه قدر المستطاع فالمعركة التكتيكية المحددة للاحتلال هي أيضاً تكتيكية ومحددة للفصائل الفلسطينية، إلا أنها ونتيجة طبيعة أهدافها فإن ما تحققه من منجزات هنا لا يقل كثيراً عن ما تحققه في معركة واسعة، بينما تنخفض الكلف إلى حد بعيد.  

زر الذهاب إلى الأعلى