التداعيات الإقليمية للحرب الإسرائيلية على غزة

تحولات استراتيجية وديناميكيات جديدة (مقاربة رقم 1)

بالرغم من أنّ النتائج الاستراتيجية للحرب على غزة لم تظهر بعد، وسترتبط بدرجة كبيرة بما ستؤول إليه التطورات الميدانية، إلاّ أنّه من الواضح أنّ هنالك تداعيات ونتائج مبدئية ظهرت للعيان، منذ بداية الحرب الحالية، بما يعكس تحولاً كبيراً في بنية العلاقات الإقليمية، وهو المصطلح الأدقّ في تعريف حالة منطقة الشرق الأوسط اليوم؛ إذ من الصعب حالياً أن نستخدم مصطلح نظام إقليمي، بما يشير إلى نمط ثابت مؤسس للعلاقات بين دول المنطقة وقواعد للسلوك، فهنالك حالة من الفوضى واللا يقين Un Certainty في علاقات الدول ببعضها وفي توقعات السلوك من قبل الأطراف الأخرى، بل وفي تعريف من هم الأطراف واللاعبون الرئيسيون في المشهد السياسي الإقليمي اليوم، وارتباطاته المختلفة والمتعددة بالقوى والسياسات الدولية.
ثمّة العديد من النتائج والملاحظات الأوّلية التي من الضروري الوقوف عندها في المرحلة الأولى من الحرب الإسرائيلية على غزة، منها ما يتعلّق بطبيعة اللاعبين والفاعلين السياسيين وبروز فاعلين جدد، ومنها ما يتعلق بالديناميكيات التفاعلية بين الدول، ومنها ما يرتبط أيضاً بمفهوم الحروب والجيل الجديد من الحروب، ودور الإعلام التقليدي والالكتروني.

الفاعلون الهجينون الجدد The Hybrid New Actors

أحد أهم الأبعاد يتمثّل في تراجع دور الدول الوطنية National States لصالح أنظمة أو جماعات هجينة، جزء منها في الحكم وجزء لديه ميليشيات عسكرية،  لا هي بالحكومات ولا هي بالتنظيمات البحتة، ويمكن توصيفها إن جاز التعبير بـSemi- State Actors ، مثلما هي الحال بحركة حماس وحزب الله والحشد الشعبي والحوثيين وربما معهم هيئة تحرير الشام في إدلب وقوات البيشمركة الكردية، وهنالك أيضاً ما تزال الجماعات غير الحكومية Non State Actors، التي أصبحت فاعلاً رئيساً في الأمن الإقليمي، مثل جماعات مسلّحة عراقية، أو حتى جماعات محلية مسلحة هنا وهناك.

صعود هذا النوع من الفاعلين السياسيين، وتصدّره للمشهد الإقليمي والمحلي في العديد من الدول (غزة، سوريا، العراق، اليمن)، يعكس انهياراً كاملاً في مفهوم الدولة الوطنية وفشلاً جلياً في قدرتها على بناء مجتمعات متكاملة والقيام بإدماج سياسي. مثل هذه الديناميكيات الجديدة ترتبط مجموعة من الديناميكيات والسياسات الجديدة في المنطقة، منها “الحرب بالوكالة”، إذ أصبحت هذه الكيانات والكائنات السياسية- العسكرية تقوم بدور رئيس في النيابة عن أطراف نزاع دولية وإقليمية أخرى بالدخول في مواجهات مسلّحة مع أطراف أخرى، وتحل محل الجيوش الكلاسيكية في القيام بالعديد من المهمات، التي تعفي، ولو شكلياً وقانونياً، الدول المعنية من مسؤولية تلك الأفعال.

وقد ينظر إلى صعود هذه الفواعل، من زاوية أخرى، من خلال ازدهار النزعات والتوجهات ما قبل الدولة، مثل الطائفية والعرقية والدينية والاجتماعية، وهي الظاهرة الأكثر انتشاراً بعد احتلال العراق 2003، وانبثاق النفوذ الإيراني في المنطقة، الذي استثمر ما حدث بعد الربيع العربي 2011 ليتمدد إلى مساحات أخرى (سورية، اليمن، لبنان)، من خلال العمل السياسي الحزبي والانتخابات أو من خلال الميليشيات المسلحة.

إلى الآن لا نستطيع الحكم، فعلاً، فيما إذا كان هذا النوع من الفاعلين السياسيين والعسكريين والأمنيين سيستمر بالوجود خلال المرحلة القادمة، أم أنّه سيتراجع وسيتم إعادة هيكلته أو ضبطه على الصعيد الإقليمي ضمن تشكّلات نظام جديد يحدّ من الفوضى الراهنة في المنطقة.

في المقابل، من الصعوبة بمكان تصوّر تراجع دور هذا النوع من الفواعل السياسيين على المدى القصير، إذ أنّه ارتبط بسياقات بنيوية من انهيار المنظومات الوطنية العربية والنظام الإقليمي التقليدي، الذي كان يقوم على التنافس بين مراكز وحواضر عربية رئيسة، مثل مصر والعراق وسورية، على قيادة النظام الإقليمي، فيما تبدو هذه الدول الثلاثة الكبرى غارقة في مشكلاتها الداخلية، مع تنوع واختلاف هذه المشكلات، من فرقة طائفية وحروب أهلية وأزمات اقتصادية.

بدت عملية طوفان الأقصى وكأنّها تدشين لعودة معسكر الممانعة كمحور إقليمي مهم ورئيس، لكن تردد إيران وحزب الله في التدخل الكلي والمباشر في الحرب، حتى هذه اللحظة، قد ينعكس سلباً، لاحقاً، على حالة هذا المعسكر، ويعزز الشكوك بين حركة حماس وجماهير الحركات الإسلامية السنية والمجموعات الإيرانية والشيعية المنتشرة في المنطقة. في المقابل يلاحظ أنّ هنالك تراجعاً وانكماشاً في الدور التركي الإقليمي، بخاصة بعد الانتخابات التركية الرئاسية الأخيرة، التي كانت على درجة عالية من الصعوبة، ويتأرجح الموقف التركي بصورة جلية بين التقارب مع كل من روسيا وطهران والعلاقات الملتبسة المتوترة والمتحالفة في الوقت نفسه مع الغرب، ولا يبدو أنّ هنالك طموحاً تركياً شبيها بالطموح الإيراني في المنطقة العربية، مما يجعل الموقف التركي وإن كان مؤثراً، لكنه ليس مباشراً، سوى في مناطق محاذية لتركيا بصورة خاصة شمال سورية.

سيرتبط تطوّر الوضع الإقليمي بديناميكيات الحرب على غزة والنتائج السياسية التالية لها؛ فهنالك محور الممانعة (الذي يضم إيران ونفوذها؛ القوى الشيعية الموالية لها في المنطقة، وحركة الجهاد الفلسطينية، والنظام السوري، وحركة حماس)، الذي ما يزال قوياً ومؤثراً في المنطقة، أما محور الاعتدال العربي فيعيش حالة من الارتباك والتردد والتفكك، تحت وطأة الخلافات الداخلية، وهي غير معلنة عادة، بين الإمارات والسعودية (يتم الحديث في أوساط ديبلوماسية عربية عن أزمة كبيرة في العلاقات السعودية – الإماراتية وخلافات شديدة بين القيادتين)، والأردن والسعودية والإمارات (ثمّة أزمة مستترة في العلاقات الأردنية – السعودية، منذ مجيء الملك سلمان إلى الحكم هناك، وازداد منسوب الأزمة بصورة كبيرة بعد ما سمي بحادثة الفتنة أو الأمير حمزة في الأردن في العام 2020)، والعلاقات المصرية السعودية الإماراتية المتذبذبة، ولعلّ السؤال المفترض لمرحلة ما بعد غزة حماس، على وجه الافتراض في حال نجحت المخططات الصهيونية والأميركية، ما هو التصور الأميركي للمرحلة القادمة، وما المقصود الإسرائيلي بالقول بأنّ هذه الحرب ستغيّر وجه الشرق الأوسط، هل سيجري إطلاق عملية سياسية سلمية، كما يروّج كثير من السياسيين، وأيّ عملية سياسية أميركية اليوم من الواضح أنّها لن تتجاوز إعادة إنتاج صفقة القرن من جديد، إذ لم تقدم إدارة الرئيس جوزيف بايدن أي مشروع جديد، ومن المعروف أنّ صفقة القرن وإن كانت مثّلت موقف إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، إلاّ أنّها تستبطن أيضاً محصلة المفاوضات والنقاشات والخلاصات التي وصلت إليها مراكز القرار والتفكير في واشنطن حول الحل السياسي – السلمي المحتمل أو الممكن قبوله من قبل الإسرائيليين.

ما هو  مآل التطبيع العربي- الإسرائيلي، هل سينهض هذا المسار ليشكل حلفاً أو معسكراً في مواجهة الممانعة – إيران؛ وضمن هذا التوجه هل سيصار إلى إحياء توجهات كانت سابقاً مطروحة على الطاولة مثل “الناتو العربي- الإسرائيلي”، أو سيتم الاكتفاء بعمليات التطبيع الاقتصادي والأمني الإسرائيلي الخليجي؟!

ديناميكيات التهجير والراديكالية

في ضوء ذلك كلّه علينا ألا ننسى ديناميكيات أخرى مهمة في المنطقة، قد تبدوان منفصلتين، لكنهما متكاملتين في التـأسيس لظروف وشروط حاضنة للغضب والراديكالية والتطرف والشعور بالتهميش والإقصاء والعدمية في العديد من الأحيان، لدى جيل كبير من الشباب إما الذي يعاني من التهجير والنزوح والظروف الاقتصادية السيئة وغياب الشعور بالأمن، أو يشعر بالغضب والإحباط الشديد جراء الحرب على غزة والموقف الأميركي والغربي عموماً..

 الأولى، ديناميكية اللجوء والنزوح والتهجير؛ فلدينا اليوم ملايين المهجرين، ومن الواضح تماماً أنّ المخططات الإسرائيلية، بتأييد مبطن أميركي- أممي، تريد إما دفع الفلسطينيين في غزة إلى صحراء سيناء، أو إلى الجنوب الغربي، أي منطقة رفح، وتفريغ الشمال والوسط من المواطنين، ليكون منطقة عازلة، وفي كل الحالات نتحدث اليوم عما يقارب مليون نازح جديد، ويمكن أن يتحولوا لاحقاً إلى لاجئين، أضف إلى ذلك ملايين النازحين واللاجئين والمهجّرين السوريين، الذين يقطنون دول الجوار في الأردن وسورية وتركيا، ما يخلق جيلاً جديداً خارج التغطية الإنسانية الحقوقية بالكامل، وتشير وزارة الصحة الأردنية -على سبيل المثال- إلى أنّ عدد الولادات للاجئين السوريين في الأردن، منذ العام 2011 وصل إلى ما يقارب 200 ألف حالة، وأظهرت الإحصائيات أنّ معدل الولادة للسوريين أكبر من الأردنيين، بينما يتواجد 7 ملايين نازح سوري داخل سورية نفسها، و3 ملايين وما يزيد على 700 ألف لاجئ، ولبنان 900 ألف لاجئ، والأردن 650 ألف لاجئ، بينما العراق قرابة 347 ألف لاجئ، وأغلب هؤلاء اللاجئين، بخاصة في الأردن ولبنان والعراق والنازحين السوريين في شمال سورية يعيشون في ظروف سيئة وتحت خط الفقر والفقر المدقع، وهنالك آلاف اللاجئين اليمنيين منهم في الأردن وحدها ما يقارب 13 ألف لاجئ، وقبل ذلك اللاجئون العراقيون، منذ احتلال العراق 2003، وأخيراً انضم النازحون في غزة إلى قائمة المهجرين قسرياً من منازلهم وأحيائهم المهدّمة.

نتحدث في ديناميكية اللجوء والنزوح والتهجير عن شروط خطيرة جداً لحياة ملايين البشر في المنطقة، ومستويات من البطالة والفقر وضعف التعليم، وعن أجيال تولد وتترعرع في ظروف غير مناسبة البتة، في دول مضيفة إمكانياتها المالية ضعيفة ومحدودة، مما ينعكس على المجتمعات والثقافة والأوضاع الأمنية.

ثانياً، ديناميكية الراديكالية؛ التي ستجتاح المنطقة والموجة الجديدة القادمة التي سيقودها جيل من الشباب المحبط الغاضب المحتقن بسبب ما شاهده في غزة، ونتيجة للانهيار الرسمي العربي، ولم يكن تقرير السفارة الأميركية في الأردن (الذي تمّ تسريبه) بعيداً عن الواقع عندما قال بأنّ أميركا خسرت جيلاً كاملاً في منطقة الشرق الأوسط بسبب الموقف المؤيد للحرب على غزة.

تظهر الموجات الراديكالية العنيفة التي اجتاحت المنطقة العربية والإسلامية، ولاحقاً انتشرت في العالم، بخاصة الموجة الداعشية منذ العام 2014-2017 إلى أنّها ارتبطت وتأسست بأحداث خطيرة أثّرت على جيل الشباب الجديد، مثلما حدث بعد حرب الخليج 1991 التي خلقت ظروفاً مناسبة لبدء موجة من التطرف، في العديد من الدول، وصولاً إلى عولمة الجهاد في العام 1998 (مع تأسيس الجبهة العالمية لمقاتلة اليهود والصليبيين، على يد أسامة بن لادن وأيمن الظواهري)، ثم الانتفاضة الثانية التي وُلد من رحمها العديد من الأحداث، ونجم عن ذلك أحداث 11 سبتمبر 2001، ثم احتلال العراق الذي ولّد جماعة أبي مصعب الزرقاوي، وستتحول لاحقاً إلى تنظيم الدولة الإسلامية أو داعش، الذي ملأ الكون رعباً وأثّر على الأمن العالمي، وخلق حالة من الهلع في أغلب دول العالم، ولا تقل الحرب على غزة اليوم في تداعياتها وأثارها عن تلك الأحداث، بل قد تتجاوزها لتؤسس لسردية أخرى ترتكز بصورة أكثر صلابة وقوة على موضوع صدام الحضارات  والموقف الغربي المنحاز ضد الفلسطينيين والمسلمين عموماً، ومن الواضح أنّ صور الأطفال والنساء والقتل والتدمير والفتك الذي قامت به آلة الحرب الإسرائيلية لن يُمح من ذاكرة ومخيلة الجيل الجديد من العرب والمسلمين وسيؤجج لمرحلة عالمية أخرى جديدة من الراديكالية!

وكان لافتاً أنّ هنالك تداولاً جديداً بصورة مفاجئة، من قبل شبّان أمريكان يغلب عليهم الطابع اليساري، لخطابات زعيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن، بعد أحداث 11 سبتمبر، التي تحدث فيها عن الإمبريالية الأميركية والقضية الفلسطينية. تفاعلت مع إعادة نشر هذه الرسائل أعداد كبيرة من المدونين الشباب في المنطقة، وكأنّ هنالك استدعاءً أو إعادة اكتشاف لابن لادن لدى الجيل الجديد في العالم الإسلامي، وهو ما يؤذن بنتائج أخرى قادمة على صعيد الفكر الراديكالي والديني الغاضب.

جيل جديد من الحروب والصراعات والأسلحة

مع تزايد دور الفاعلين الهجينين في المنطقة، فإنّ صيغة الحروب وطبيعتها والأسلحة المستخدمة والاستراتيجيات والتكتيكات تغيّرت بصورة جوهرية، وأصبح الحديث اليوم عن الجيل الرابع من الحروب (التي تتم بين جيش نظامي وميليشيات ليست حكومية) والجيل الخامس الذي يستدخل الذكاء الاصطناعي والإعلام الالكتروني والتضليل والهجمات الالكترونية السيبراني، وهو ما انعكس بصورة جلية في الحرب على غزة، سواء عبر الاستخدام الهائل للمسيّرات من قبل جميع الأطراف أو حتى الروبوتات العسكرية، والحملات الإعلامية الالكترونية التي تهدف إلى التضليل والحرب النفسية و البروبوغاندا بين الأطراف المختلفة في النزاع.

 الحرب على غزة أبعد ما تكون عن الحروب التقليدية بين الجيوش، بل هي أقرب إلى أنماط الحروب داخل المدن، واستخدام التكنولوجيا بصورة كبيرة، على مستوياتها كافّة، ولاحظنا كيف ارتفعت أهمية “حروب الروايات” بين الإسرائيليين وحلفائهم الغربيين والأميركيين من جهة والفلسطينيين والنشطاء السياسيين العرب والمسلمين وفي العالم المؤيدين لهم، فكانت هنالك حروب إعلامية موازية للحرب العسكرية ولا تقل أهمية عنها، وشكلت أحد أهم عناصر القوة للأطراف المتحاربة.

هذه نتائج أولية ورئيسية إذا استبعدنا السيناريو الأخطر الآخر المتمثل في الحرب الإقليمية، وهنا نفتح الباب على سيناريوهات وديناميكيات عديدة، منها ما يتعلق بالحرب بالوكالة من خلال الجماعات العراقية في العراق وسورية، وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، وسيناريو ضرب إيران ودخولها مباشرة في الحرب، عند ذلك ستنفتح الاحتمالات والديناميكيات إلى سيناريوهات أخرى عديدة، منها احتمالية انتقال الحرب بالوكالة إلى المواجهة غير المباشرة بين روسيا والصين من جهة والغرب من جهةٍ أخرى، وسيناريو صدام الحضارات، وتأجج المواجهات في المنطقة ومختلف دول العالم..

في المجمل من البديهيات الرئيسية القول بأنّ الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر وطوفان الأقصى لن يكون كما كان سابقاً، سواء أخذنا السيناريو الأقل في التحولات الديناميكية أو الأعلى، فنحن أمام متغيرات هائلة منظورة ومباشرة وغير مباشرة.

زر الذهاب إلى الأعلى