إسرائيل تخسر هذه الحرب

على الرغم من العنف الذي أطلقته على الفلسطينيين، تفشل إسرائيل في تحقيق أهدافها السياسية

كتبه: توني كارون، دانييل ليفي.

ترجمة: لينا أسعد، باحث مساعد في معهد السياسة والمجتمع.

مر أكثر من شهرين منذ أن بدأت الحرب على قطاع غزة، استخدمت فيها إسرائيل استراتيجية حربية عنوانها “الأرض المحروقة” لا تفرق فيها بين مدني ومسلح. أدت هذه الاستراتيجية إلى وقوع عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، وتسبب في تهجير عشرات الآلاف أيضًا من شمال القطاع إلى جنوبه. إلا أن هذه الاستراتيجية حتى الآن لم تُفلح في تحقيق أهداف إسرائيل أمام مقاومة شرسة من الفصائل الفلسطينية.  

ينطلق المقال الذي نُشر في مجلة The Nationمن فرضية أن الاختراق العسكري الذي قامت به حماس أعاد ضبط اللعبة السياسية، في المقابل لم يتجاوز الرد الإسرائيلي القوة العسكرية، وبالتالي لا يمكن القول أن إسرائيل تفوز في ظل عجزها عن تحقيق انتصار سياسي على الأقل. وبعيدًا عن الإخفاق الاستخباري في السابع من أكتوبر، إلا أنه يمثل فشلًا سياسيًّا لنظام لم يعرف عواقب سياساته “القمعية” و”العنصرية” بحق الفلسطينيين.

كما يشير المقال إلى أنه من الواضح أن إسرائيل لم تستطع هزيمة حماس عسكريًّا، فتقديرات الجيش الإسرائيلي تشير إلى أنها قضت على أقل من 15% من مسلحي حماس، وبالتالي فإن النوايا الإسرائيلية تتلخص من خلال “المذبحة والدمار الشاملين” التي ارتكبتها إلى جعل المنطقة التي يقطنها اكثر من مليوني إنسان غير صالحة للسكن.   

ويتحدث المقال عن تداعيات هذه الأحداث على الفلسطينيين في الضفة وغزة، خاصة وأن هذه الأحداث أفشلت مشروع عزلهما عن بعضهما -من وجهة نظر الكاتبين-، إلى جانب التداعيات على الجانب الإسرائيلي والسياسة الدولية وتأثير ذلك على صورة الولايات المتحدة التي أبدت “تناقضًا” بين الاستجابة للأزمة الروسية – الأوكرانية وبين الاستجابة للحرب على غزة.

وتاليًا نص المقال:

قد يبدو من السخافة الإشارة إلى أن مجموعة من المسلحين غير النظاميين، الذين لا يتجاوز عددهم عشرات الآلاف، والمحاصرين والذين لا يملكون سوى القليل من القدرة على الوصول إلى الأسلحة المتقدمة، قد يكونوا على نفس المستوى من أحد أقوى الجيوش في العالم التي تدعمها وتسلحها الولايات المتحدة الامريكية. ومع ذلك فإن عدداً متزايداً من المحللين الاستراتيجيين في المؤسسات يحذرون من أن إسرائيل قد تخسر هذه الحرب على الفلسطينيين على الرغم من أعمال العنف الكارثية التي أطلقتها منذ الهجوم الذي قادته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر. ولكن من خلال استفزاز الهجوم الإسرائيلي، قد تحقق حماس العديد من أهدافها السياسية الخاصة.

يبدو أن كلاً من إسرائيل وحماس تعيدان هيكلة تنافسهما السياسي، ليس على الوضع الذي كان قائمًا قبل أحداث السابع من أكتوبر، بل على الوضع الذي كان قائماً قبيل عام 1948. ليس من الواضح ما سيأتي بعد ذلك، لكن لن تكون هناك عودة إلى الأوضاع السابقة.

أدى الهجوم المفاجئ إلى تحييد المنشآت العسكرية الإسرائيلية، وكسر بوابات أكبر سجن مفتوح في العالم، وتسببت في هبة مروعة قتل فيها نحو 1200 إسرائيلي، 845 منهم على الأقل من المدنيين. إن السهولة الصادمة التي اخترقت بها حماس الخطوط الإسرائيلية حول قطاع غزة ذكّرت الكثيرين بهجوم تيت عام 1968. ليس بالشكل الحرفي، فهناك اختلافات شاسعة بين حرب التدخل الأمريكية في أرض بعيدة والحرب الإسرائيلية للدفاع عن احتلالها في الداخل -والتي يشنها جيش من المواطنين الإسرائيليين مدفوعين بإحساس بالخطر الوجودي-، لكن فائدة هذا القياس تكمن في المنطق السياسي الذي شكل  هجوم المتمردين.

في عام 1968، خسر الثوار الفيتناميون المعركة، وضحّوا بالكثير من البنية التحتية السياسية والعسكرية السرية التي بنوها بصبر على مدار سنوات. ومع ذلك، كان هجوم تيت لحظة أساسية في انتصارهم على الولايات المتحدة، وإن كان ذلك بتكلفة باهظة في أرواح الفيتناميين. ومن خلال شن هجمات دراماتيكية رفيعة المستوى في وقت واحد على أكثر من 100 هدف في جميع أنحاء البلاد في يوم واحد، حطمت العصابات الفيتنامية المسلحة بأسلحة خفيفة وهم النجاح الذي روجت له إدارة جونسون للشعب الأمريكي. لقد أوضحت للأميركيين أن الحرب التي طُلب منهم التضحية بعشرات الآلاف من أبنائهم من أجلها لا يمكن الفوز بها.

قامت القيادة الفيتنامية بقياس تأثير أعمالها العسكرية من خلال آثارها السياسية وليس من خلال التدابير العسكرية التقليدية مثل خسارة الرجال والعتاد أو اكتساب الأراضي. ومن هنا جاء رثاء هنري كيسنجر عام 1969: “لقد خضنا حرباً عسكرية؛ خصومنا خاضوا معركة سياسية. سعينا للاستنزاف الجسدي. كان خصومنا يهدفون إلى إنهاكنا النفسي. وفي هذه العملية فقدنا رؤية أحد المبادئ الأساسية لحرب العصابات. إن حرب العصابات تفوز إذا لم تخسر. والجيش التقليدي يخسر إذا لم ينتصر”.

هذا المنطق جعل جون ألترمان، من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية -المعروف بعدم سلميته- في العاصمة الامريكية واشنطن، يرى أن إسرائيل معرضة لخطر كبير بالخسارة أمام حماس قائلًا:

“مفهوم حماس للنصر العسكري … يدور حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأجل. ترى حماس النصر ليس في غضون عام واحد أو خمسة، ولكن من الانخراط في عقود من النضال الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل. في هذا السيناريو، تجمع حماس السكان المحاصرين في غزة من حولها في غضب وتساعد على انهيار حكومة السلطة الفلسطينية من خلال ضمان أن يرى الفلسطينيون أنها أكثر مساعد عاجز للسلطة العسكرية الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه، تبتعد الدول العربية بقوة عن التطبيع، ويتحالف الجنوب العالمي بقوة مع القضية الفلسطينية، وتتراجع أوروبا عن تجاوزات الجيش الإسرائيلي، ويندلع نقاش أمريكي حول إسرائيل، مما يدمر الدعم الحزبي الذي تمتعت به إسرائيل هنا منذ أوائل السبعينيات”.

وكتب ألترمان أن حماس تسعى إلى “استخدام نفوذ وقوة إسرائيل لهزيمة إسرائيل نفسها، حيث أن قوة إسرائيل تسمح لها بقتل المدنيين الفلسطينيين، وتدمير البنية التحتية الفلسطينية، وتحدي الدعوات العالمية لضبط النفس وإيقاف إطلاق النار. كل هذه الأمور تعزز أهداف حماس الحربية”.

لقد تم تجاهل مثل هذه التحذيرات من قبل إدارة بايدن والقادة الغربيين، الذين تعود جذور احتضانهم غير المشروط لحرب إسرائيل إلى الوهم القائل بأن إسرائيل كانت مجرد دولة غربية أخرى تمارس أعمالها بسلام قبل أن تتعرض لهجوم غير مبرر في 7 أكتوبر، ويعد ذلك خيالًا مريحًا لأولئك الذين يفضلون تجنب الاعتراف بالواقع الذي شاركوا في خلقه.

بغض النظر عن “الإخفاقات الاستخباراتية” كان فشل إسرائيل في توقع السابع من أكتوبر بمثابة فشل سياسي في فهم عواقب نظامها القمعي العنيف الذي وصفته منظمات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية الرائدة بالفصل العنصري.

قبل عشرين عاماً، حذر رئيس الكنيست السابق أفروم بورغ من حتمية ردود الفعل العنيفة. “اتضح أن النضال الذي دام ألفي عام من أجل بقاء اليهود يعود إلى حالة المستوطنات، التي تديرها زمرة غير أخلاقية من منتهكي القانون الفاسدين الذين لا يسمعون صوت مواطنيهم وأعدائهم على حد سواء. وكتب في صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون: “لا يمكن لدولة تفتقر إلى العدالة أن تستمر”. مضيفاً “وحتى لو أخفض العرب رؤوسهم وابتلعوا عارهم وغضبهم إلى الأبد، فلن ينجح الأمر. إن البنية المبنية على القسوة البشرية سوف تنهار حتماً على نفسها… ولا ينبغي لإسرائيل التي توقفت عن الاهتمام بأطفال الفلسطينيين، أن تتفاجأ عندما يأتي هؤلاء مغسولين بالكراهية ويفجرون أنفسهم في مراكز الهروب الإسرائيلية”.

وحذر بورغ من أن إسرائيل قد تقتل ألفاً من رجال حماس يومياً دون أن تغير شيئاً، لأن أعمال العنف التي تقوم بها إسرائيل سوف تكون مصدراً لتجديد صفوف حماس. وقد تم تجاهل تحذيرات بروغ، حتى بعد أن تم تأكيدها عدة مرات. وهذا المنطق نفسه يطبق الآن على الدمار الذي يلحق بغزة؛ فالعنف الهيكلي الطاحن الذي توقعت إسرائيل أن يعاني منه الفلسطينيون في صمت يعني أن الأمن الإسرائيلي كان دائماً وهمياً.

لقد أكدت الأسابيع التي تلت 7 أكتوبر أنه لا يمكن العودة إلى الأوضاع التي كانت قائمة من قبل، وكان هذا على الأرجح هدف حماس من شن هجماتها المميتة. وحتى قبل ذلك، كان كثيرون في القيادة الإسرائيلية يدعون علناً إلى استكمال النكبة والتطهير العرقي لفلسطين، والآن تم تضخيم هذه الأصوات.

وشهدت الهدنة الإنسانية المتفق عليها بين الطرفين في أواخر نوفمبر/تشرين ثاني إطلاق حماس سراح بعض الرهائن مقابل إطلاق سراح الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية وزيادة الإمدادات الإنسانية التي تدخل غزة. وعندما استأنفت إسرائيل هجومها العسكري وعادت حماس إلى إطلاق الصواريخ، كان من الواضح أن حماس لم تُهزم عسكرياً. بل إن المذبحة والدمار الشاملين اللذين أحدثتهما إسرائيل في غزة يشيران إلى نية اسرائيل لجعل المنطقة غير صالحة للسكن لـ 2.2 مليون فلسطيني الذين يعيشون هناك، والضغط من أجل طرد وتهجير الفلسطينيين عبر خلق كارثة إنسانية مدبرة عسكرياً. والحقيقة أن تقديرات الجيش الإسرائيلي تشير إلى أنها قضت حتى الآن على أقل من 15% من القوات القتالية التابعة لحماس. وذلك في حملة أسفرت عن مقتل أكثر من 21 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين، منهم 8600 طفل.

7 أكتوبر والسياسة الفلسطينية

يكاد يكون من المؤكد أن الجيش الإسرائيلي سوف يطرد حماس من حكم غزة. لكن محللين مثل طارق بقعوني، الذي درس الحركة وتفكيرها على مدى العقدين الماضيين، يقولون إنها سعت منذ بعض الوقت إلى التحرر من أغلال حكم منطقة معزولة عن بقية فلسطين، بشروط. التي وضعتها قوة الاحتلال.

لطالما أظهرت حماس رغبة في الخروج عن دورها في حكم غزة، من احتجاجات مسيرة العودة الجماعية غير المسلحة في عام 2018 التي قمعتها نيران القناصة الإسرائيلية بعنف، إلى الجهود التي أحبطتها الولايات المتحدة وإسرائيل لنقل حكم غزة إلى سلطة فلسطينية تم إصلاحها أو تكنوقراط متفق عليهم. كان لحماس محاولات عدة إلى إعادة تركيز السياسة الفلسطينية في كل من غزة والضفة الغربية على مقاومة الاحتلال بدلًا من الوصاية عليه. فإذا كانت نتيجة هجوم حماس فقدانها مسؤوليتها لحكم غزة، فقد ترى حماس ذلك مفيداً.

وقد حاولت حماس دفع فتح إلى مسار مماثل، وحثت الحزب الحاكم في الضفة الغربية على إنهاء التعاون الأمني ​​بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ومواجهة الاحتلال بشكل مباشر. وبالتالي فإن فقدان السيطرة المحلية على غزة لا يشكل هزيمة حاسمة لجهود حماس الحربية، بالنسبة لحركة مكرسة لتحرير الأراضي الفلسطينية، فبدا حكم غزة يبدو وكأنه طريق مسدود، مثل حكم فتح الذاتي المحدود في الضفة الغربية.

ويقول بقعوني إن حماس شعرت على الأرجح بأنها مضطرة إلى خوض مقامرة عالية المخاطر لتحطيم الوضع الراهن الذي اعتبرته موتًا بطيئًا لفلسطين. وكتب في مجلة فورين بوليسي: “كل هذا لا يعني أن التحول الاستراتيجي لحماس سيعتبر ناجحاً على المدى الطويل”، مضيفًا: “كان التعطيل العنيف للأوضاع الراهنة من قبل حماس قد أتاح لإسرائيل الفرصة لتنفيذ نكبة أخرى. وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع حريق إقليمي أو توجيه ضربة للفلسطينيين قد يستغرق التعافي منها جيلاً كاملاً. لكن الأمر المؤكد هو أنه لا عودة إلى ما كان عليه من قبل”.

ربما كانت مناورة حماس إذن تتمثل في التضحية بالحكم المحلي في غزة المحاصرة لتعزيز مكانتها كمنظمة مقاومة وطنية. حماس لا تحاول دفن فتح، فاتفاقيات الوحدة المختلفة بين حماس وفتح وخاصة تلك التي يقودها أسرى من كلا الحركتين، تظهر أن حماس تسعى إلى تشكيل جبهة موحدة. والسلطة الفلسطينية غير قادرة على حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية من العنف المتزايد الذي تمارسه المستوطنات الإسرائيلية وسيطرتها الراسخة، ناهيك عن الرد بشكل هادف على سفك الدماء في غزة. وتحت غطاء الدعم الغربي لغزة، قتلت إسرائيل مئات الفلسطينيين، واعتقلت الآلاف، وهجرت قرى بأكملها في الضفة الغربية، في حين قامت في الوقت نفسه بتصعيد هجمات المستوطنين التي ترعاها الدولة. ومن خلال قيامها بذلك، زادت إسرائيل من إضعاف حركة فتح بين السكان ودفعتها في اتجاه حماس.

لسنوات، هاجم المستوطنون المحميون من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي القرى الفلسطينية بهدف إجبار سكانها على المغادرة وتشديد قبضة إسرائيل غير القانونية على الأراضي المحتلة، لكن توسيع هذا العنف منذ 7 أكتوبر  تسبب في موجة من الغضب أثرت على شركاء إسرائيل في الولايات المتحدة. إن تهديد بايدن بحظر التأشيرات ضد المستوطنين المتورطين في العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية هو مجرد تهرب، فهؤلاء المستوطنون بعيدون كل البعد عن السلمية او الممارسات الفردية؛ فهم مسلحون من قبل الدولة ويتمتعون بحماية شديدة من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي والنظام القانوني الإسرائيلي، لأنهم ينفذون سياسة الدولة. لكن حتى تهديد بايدن الخاطئ يوضح أن إسرائيل على خلاف مع إدارته.

تتمتع حماس بمنظور فلسطيني شامل، وليس منظوراً خاصاً بغزة، ولذلك فقد قصدت أن يكون لـ 7 أكتوبر تأثيرات تحويلية في جميع أنحاء فلسطين. خلال “انتفاضة الوحدة” عام 2021 التي سعت إلى ربط نضالات الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وغزة مع نضالات داخل إسرائيل، اتخذت حماس إجراءات لدعم هذا الهدف. والآن، تعمل الدولة الإسرائيلية على تسريع هذا الارتباط من خلال حملة قمع مذعورة ضد أي تعبير عن المعارضة بين مواطنيها الفلسطينيين. وتم اعتقال مئات الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك النشطاء والشباب الذين ينشرون على الفيسبوك. وتدرك إسرائيل تمام الإدراك احتمال التصعيد في الضفة الغربية. فالرد الإسرائيلي لم يؤدِ إلا إلى التقريب بين سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومن الواضح أن إسرائيل لم تكن تنوي أبدًا قبول قيام دولة فلسطينية ذات سيادة في أي مكان غرب نهر الأردن. وبدلاً من ذلك، تعمل إسرائيل على تكثيف خططها طويلة الأمد لتأمين سيطرتها على المنطقة. إن ذلك، بالإضافة إلى التعدي الإسرائيلي المتزايد على المسجد الأقصى، هو بمثابة تذكير بأن إسرائيل تعمل بنشاط على تأجيج أي انتفاضة قادمة في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحتى داخل خطوط 1967.

ومن المفارقات الساخرة أن إصرار الولايات المتحدة على وضع السلطة الفلسطينية تحت السيطرة في غزة بعد حرب الدمار التي شنتها إسرائيل، تعزز فكرة كون الضفة الغربية وغزة كياناً واحداً. إن السياسة التي تنتهجها إسرائيل منذ 17 عاماً لفصل الضفة الغربية الخاضعة التي تديرها السلطة الفلسطينية المنتقاة عن “غزة التي يديرها الإرهابيون” قد باءت بالفشل.

إسرائيل بعد 7 أكتوبر

لقد حطمت الغارة التي قادتها حماس الاسطورة التي تقول إن إسرائيل لا تقهر، وحطمت توقعات مواطنيها بالسلام، حتى في الوقت الذي تخنق فيه إسرائيل حياة الفلسطينيين. قبل أسابيع فقط، كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتباهى بأن إسرائيل نجحت في “إدارة” الصراع إلى درجة أن فلسطين لم تعد تظهر على خريطته “للشرق الأوسط الجديد”. ومع اتفاقيات إبراهيم والتحالفات الأخرى، كان بعض القادة العرب يحتضنون إسرائيل. وكانت الولايات المتحدة تروج لما يحدث، حيث ركز الرئيسان دونالد ترامب وجو بايدن على “التطبيع” مع الأنظمة العربية التي كانت على استعداد لترك الفلسطينيين عرضة للفصل العنصري الإسرائيلي المتشدد. وكان يوم السابع من أكتوبر بمثابة تذكير وحشي بأن هذا الأمر لا يمكن الدفاع عنه، وأن المقاومة الفلسطينية تشكل كيان سلطوي ينقض الجهود التي يبذلها الآخرون لتحديد مصيره.

من السابق لأوانه قياس تأثير 7 اكتوبر على السياسة الداخلية الإسرائيلية. لقد جعلت الاحداث الإسرائيليين أكثر تشدداً، ولكن في الوقت نفسه ازداد انعدام ثقتهم في قيادتهم الوطنية بعد الفشل الهائل في الاستخبارات والرد، تطلب الأمر تعبئة جماهيرية كبيرة ضد الحكومة من قبل عائلات الإسرائيليين المحتجزين في غزة لتأمين صفقة إطلاق سراح الرهائن. يمكن أن تؤدي المعارضة الداخلية الدرامية والبارزة لازدياد الضغط بالمطالبة باسترداد الرهائن وما هو مطلوب من إسرائيل لتأمين عودتهم إلى زيادة المطالبات بصفقات إفراج اكثر، وحتى المطالبة بوقف إطلاق النار الكامل، على الرغم من الاصرار على مواصلة الحرب من الكثير من القيادة السياسية والعسكرية. لا يزال الرأي العام الإسرائيلي مرتبكا وغاضباً وصعب التنبؤ به.

وقد اثرت الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعتمد نموذج نموه على جذب مستويات عالية من الاستثمار الأجنبي لقطاع التكنولوجيا وغيره من الصناعات التصديرية، وقد تم بالفعل الاستشهاد بالاحتجاجات الجماعية العام الماضي وعدم الثقة بشأن الخلافات الدستورية كسبب لانخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 68% على أساس سنوي خلال الصيف. وتضيف الحرب التي تخوضها إسرائيل، والتي تم حشد 360 ألف جندي احتياطي لها، مستوى جديداً من الصدمة الاقتصادية. كتب الاقتصادي آدم توز على منصة سب-ستاك:

“يقدر اللوبي التكنولوجي في إسرائيل أن عُشر قوته العاملة توقفت عن العمل، لقد أصيب قطاع البناء بالشلل بسبب حجر القوى العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية. وانهار استهلاك الخدمات العامة مع ابتعاد الناس عن المطاعم وقلة التجمعات العامة. وتشير سجلات بطاقات الائتمان إلى أن الاستهلاك الخاص في إسرائيل انخفض بنحو الثلث في الأيام التي تلت اندلاع الحرب. وانخفض الإنفاق على الترفيه والتسلية بنسبة 70%. وتوقفت السياحة بشكل مفاجئ، وهي الداعمة الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي، بالإضافة إلغاء الرحلات الجوية وتحويل شحن البضائع. أما في الخارج، أمرت الحكومة الإسرائيلية شركة شيفرون بوقف الإنتاج في حقل تمار للغاز الطبيعي، مما كلف إسرائيل 200 مليون دولار شهريًا من الإيرادات المفقودة”.

إن إسرائيل دولة غنية تتمتع بالموارد اللازمة للتغلب على بعض هذه العاصفة، ولكن مع ثروتها تأتي الهشاشة، ولديها الكثير لتخسره.

غزة بعد 7 أكتوبر

لقد اندفعت القوات الإسرائيلية على غزة ومعها خطة قتالية، ولكن لا توجد خطة حرب واضحة لغزة بعد غزوها. ويهدف بعض القادة العسكريين الإسرائيليين إلى الحفاظ على “السيطرة الأمنية” من النوع الذي يتمتعون به في منطقة الضفة الغربية التابعة للسلطة الفلسطينية.  ولكن هذا من شأنه أن يضع غزة في واجهة تمرد أقوى تدريباً ويدعمه معظم السكان. ويدعو كثيرون في الدوائر الحكومية الإسرائيلية إلى تهجير قسم كبير من السكان المدنيين في غزة قسراً إلى مصر، من خلال خلق أزمة إنسانية تجعل غزة غير صالحة للعيش. وقالت الولايات المتحدة إنها استبعدت ذلك، لكن لا يمكن لأي مفكر ذكي أن يستبعد إمكانية سعي الإسرائيليين للحصول على العفو بدلاً من السماح لهم بمزيد من التطهير العرقي على نطاق واسع بما يتماشى مع أهداف إسرائيل الديموغرافية طويلة المدى المتمثلة في تقليل عدد السكان الفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، من النهر الى البحر.

وقد لجأ المسؤولون الأميركيون إلى كتب الصلاة القديمة، وتحدثوا عن أملهم في إعادة محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، البالغ من العمر 88 عاماً، إلى مسؤولية غزة، مع الوعد بتجديد السعي لتحقيق “حل الدولتين” الوهمي. ” لكن السلطة الفلسطينية لا تتمتع بمصداقية حتى في الضفة الغربية بسبب إذعانها للاحتلال الإسرائيلي المتزايد الاتساع”. ثم هناك حقيقة مفادها أن منع السيادة الفلسطينية الحقيقية في أي جزء من فلسطين التاريخية كان منذ فترة طويلة نقطة إجماع في القيادة الإسرائيلية متعددة ومختلف الاطياف. ولا يحتاج قادة إسرائيل إلى الالتزام بتوقعات الإدارة الأميركية التي قد يتم التصويت عليها في العام المقبل. ولديهم قدرة مثبتة على التلاعب حتى لو أعيد انتخاب بايدن. لقد اختارت الولايات المتحدة دعم آلة الحرب الإسرائيلية، التي قد لا تكون وجهتها أو أهدافها واضحة، لكنها بالتأكيد ليست متجهة نحو أي شكل للدولة الفلسطينية.

التأثير العالمي لـ 7 أكتوبر

ربما تكون إسرائيل والولايات المتحدة قد أقنعتا نفسيهما بأن العالم قد “تجاوز” المحنة الفلسطينية، ولكن الطاقات التي أطلقتها الأحداث منذ السابع من أكتوبر تشير إلى أن العكس هو الصحيح. ترددت أصداء دعوات التضامن مع فلسطين في شوارع العالم العربي، وعملت في بعض البلدان كلغة مشفرة للمعارضة ضد الاستبداد. وفي جميع أنحاء الجنوب العالمي وفي مدن الغرب، تحتل فلسطين الآن مكانًا رمزيًا باعتبارها تجسيدًا للتمرد ضد النفاق الغربي ونظام ما بعد الاستعمار الظالم. منذ الغزو غير القانوني الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، لم يخرج هذا العدد الكبير من الملايين حول العالم إلى الشوارع للاحتجاج. لقد استعرضت العمالة المنظمة عضلاتها الأممية لتوقيف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل، وذكّرت نفسها بقدرتها على تغيير التاريخ، يتم الأن استخدام الآليات القانونية مثل المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وحتى المحاكم الأمريكية والأوروبية للطعن في السياسات الحكومية التي تمكن إسرائيل من ارتكاب جرائم الحرب.

بعد أن أصيب العالم بالذعر من أفعالها في غزة، عادت إسرائيل ودعاتها إلى اتهامات بمعاداة السامية ضد أولئك الذين يتحدون وحشية إسرائيل، ولكن كل شيء من المسيرات الجماهيرية إلى المعارضة اليهودية الصوتية لاستطلاعات الرأي حول تعامل بايدن مع الأزمة يشير إلى أن مساواة التضامن مع معاداة السامية ليس خاطئا في الواقع فحسب بل إنه غير مقنع؛ فقد قطعت العديد من الدول في أميركا اللاتينية وأفريقيا علاقاتها بشكل رمزي، كما أدى القصف المتعمد للسكان المدنيين ومنع الوصول إلى المأوى والغذاء والماء والرعاية الطبية إلى إصابة العديد من حلفاء إسرائيل بالذعر.

إن مدى العنف الذي يرغب الغرب في تأييده ضد الشعب الأسير في غزة يقدم للجنوب العالمي تذكيرًا صارخًا بالحسابات غير المستقرة مع الغرب الإمبراطوري. وعندما يناشد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إسرائيل علناً أن تتوقف عن “قصف الأطفال”، فإن إسرائيل معرضة لخطر خسارة حتى أجزاء من الغرب. لقد أصبح من الصعب على الدول العربية والإسلامية على المدى القصير الحفاظ على علاقاتها العامة مع اسرائيل، مستبعدة فرصة توسيعها.

إن التضييق على رد فعل إسرائيل على أحداث 7 أكتوبر قد أدى أيضًا إلى تفجير فقاعة الأوهام الأمريكية المتمثلة في استعادة الهيمنة في الجنوب العالمي تحت عنوان “نحن الأخيار”. إن التناقض بين استجابتها للأزمات الروسية الأوكرانية والإسرائيلية الفلسطينية على التوالي قد أنتج إجماعًا على أن هناك نفاقًا في قلب السياسة الخارجية الأمريكية، مما أنتج مشاهد غير عادية مثل انتقاد بايدن وجهًا لوجه في قمة أبيك. من قبل رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم لفشله في الوقوف ضد الفظائع  الاسرائيلية

وحذر إبراهيم على وجه التحديد من أن رد بايدن على غزة قد أثار عجزًا خطيرًا في الثقة مع أولئك الذين تأمل الولايات المتحدة في كسبهم كحلفاء في منافستها مع روسيا والصين. وبعد أن أثبتوا للحلفاء العرب أن راعيتهم في واشنطن ستقف إلى جانب إسرائيل، حتى عندما تقصف المدنيين العرب، فمن المرجح أن يعزز اتجاه دول الجنوب العالمي إلى تنويع محافظها الجيوسياسية.

السؤال السياسي

من خلال تحطيم ما كانت عليه الاوضاع في غزة، أعادت حماس السياسة إلى الأجندة. تتمتع إسرائيل بقوة عسكرية كبيرة، لكنها ضعيفة سياسيًّا. يفترض قسم كبير من المؤسسة الأميركية التي تدعم الحرب الإسرائيلية أن العنف النابع من مجتمع مضطهد يمكن القضاء عليه من خلال استخدام القوة العسكرية الساحقة ضد هذا المجتمع. لكن حتى وزير الدفاع لويد أوستن أبدى شكوكه حول هذه الفرضية، محذرا من أن الهجمات الإسرائيلية التي تقتل الآلاف من المدنيين تخاطر بدفعهم “إلى أحضان العدو [واستبدال] النصر التكتيكي بهزيمة استراتيجية”.

يحب الساسة ووسائل الإعلام الغربية أن يتخيلوا أن حماس هي عبارة عن كادر عدمي على غرار داعش يحتجز المجتمع الفلسطيني كرهينة؛ إن حماس، في الواقع، حركة سياسية متعددة الأوجه متجذرة في نسيج المجتمع الفلسطيني وتطلعاته الوطنية. فهو يجسد اعتقاداً أكدته عقود من الخبرة الفلسطينية بأن المقاومة المسلحة تشكل عنصراً مركزياً في مشروع التحرير الفلسطيني بسبب فشل عملية أوسلو والعداء المستعصي من جانب خصمها. وقد نما نفوذها وشعبيتها مع استمرار إسرائيل وحلفائها في إحباط عملية السلام وغيرها من الاستراتيجيات اللاعنفية لتحقيق التحرير الفلسطيني؛ فالحملة الإسرائيلية ستؤدي إلى تقليص القدرة العسكرية لحماس، ولكن حتى لو كان الأمر يتعلق بقتل كبار قادة المنظمة (كما فعلت من قبل)، فإن رد إسرائيل على أحداث السابع من أكتوبر يؤكد رسالة حماس ومكانتها بين الفلسطينيين في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها. على سبيل المثال، تعتبر الاحتجاجات الكبيرة في الأردن مع الهتافات المؤيدة لحماس غير مسبوقة. لا يتطلب الأمر موافقة أو دعمًا لتصرفات حماس في 7 أكتوبر للاعتراف بالجاذبية الدائمة للحركة التي تبدو قادرة على جعل إسرائيل تدفع نوعًا من ثمن العنف الذي تمارسه على الفلسطينيين كل يوم، وكل عام، جيلًا بعد جيل.

يشير التاريخ أيضا إلى نمط يظهر فيه ممثلو الحركات التي تم رفضها على أنها “إرهابية” من قبل خصومهم -في جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، أو أيرلندا – على طاولة المفاوضات عندما يحين الوقت للبحث عن حلول سياسية. سيكون من غير التاريخي المراهنة ضد حماس، أو على الأقل نسخة ما من التيار السياسي الأيديولوجي الذي تمثله، والقيام بنفس الشيء عندما يتم إعادة نظر جدية في حل سياسي بين إسرائيل والفلسطينيين.

ما يأتي بعد العنف المروع أبعد ما يكون عن الوضوح، ولكن هجوم حماس في 7 أكتوبر أجبر على إعادة ضبط مسابقة سياسية تبدو إسرائيل غير راغبة في الرد عليها بما يتجاوز القوة العسكرية المدمرة ضد المدنيين الفلسطينيين. وبعد الوقوف على ثمانية أسابيع من الانتقام، فلا يمكن القول إن إسرائيل تفوز.

زر الذهاب إلى الأعلى