مخاطر الفجوة الجيلية فى عالمنا العربي

الفجوة الجيلية فى عالمنا العربى تتسع بأضطراد ، فى ظل الأنفجار السكانى المفرط لاسيما فى دول العسر حول الحواضر التاريخية الكبرى، فى مصر ولبنان والعراق وسوريا …إلخ. الفجوة الجيلية تتمدد على عديد المستويات، فى هياكل الأعمار، وأنماط التفكير، بين الأجيال التى كانت تعتمد علي الكتابة الورقية، واستهلاك المناهج والمواد التعليمية الورقية، والتركيز على محور الحفظ والأستذكار، وتلاوة المحفوظات المقررة، والطابع النقلى فى العمليات التعليمية والأختبارات. أجيال ليست لديها التكوين النقدى. من هنا تركز دور هذه الأجيال على الدوران حول قضايا تقليدية حول التراث، والاصالة المتخيلة ، و والهوية ذات الاساس الدينى الأحادى، والنظرة الدينية الموروثة حول العالم والذات والخلط بين الموروثات الوضعية الدينية التأويلية التاريخية، وبين المقدس الدينى الاسلامى والمسيحى. هذا المسعى فى المقاربات والتأويل النقلى، ، بعضها صحيح تاريخيًا، وبعضها الآخر موهوم ولا تاريخى وأسطورى. هذا العقل النقلى اللاتاريخى هيمن على العقل العربي ، مع  استثناءات تاريخية معروفة من حيث رموزها، وشخوصها ومدارسها التاريخية بين التقلديين والمحدثين، آيا كانت مرجعياتهم الفكرية والفلسفية، وآخر هذه السجالات الحادة كانت تدور بين دعاة الهوية الدينية، وبين من يرون أفتعال هذه الإشكالية فى الفكر العربى المعاصر وتوظيفها سياسيا. ساهمت أجيال التعليم الورقى النقلى، والثقافة الورقية، فى الحركات الوطنية العربية وفى الهيمنة علي الصحافة الورقية، ثم الأعلام المرئى والمسموع، على نحو أدى إلى إزاحات للأجيال الجديدة، منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى، وذلك عبر الأقصاء  عن مساحات التعبير المتاحة -رغم القيود المفروضة سياسيا وأمنيا وقانونيا على المجال العام فى غالب البلدان العربية-، وذلك بدعوى أن الجيل السبعينى لا يزال غضًا، ويفتقر إلى الخبرة والتكوين، أو إلى أعتبارات تمس الاعداد لمعركة تحرير الأراضى المصرية والعربية المحتلة.

كانت أحداث انتفاضة الطلاب فى يناير 1972 1973 ، بمثابة أنذار سياسى وجيلى، مفاده  ثمة فجوة  بين الاجيال المصرية، بين جيل يحملُ  تصورات ديمقراطية واجتماعية ترتكز على سد الفجوات الطبقية، و مقرطة صنع القرار، ومواجهة الأمبرالية العالمية والإسرائيلية الفرعية، والسعى إلى التقدم عبر القتال وأزالة آثار العدوان. لم تتم عملية استيعاب وتمثل سياسى لأنتفاضة الشباب الجامعى، وتم التعامل معها عبر الأساليب الأمنية، والخطاب السياسى التعبوى الذى لم يكن سوى تعبيرًا عن الفراغ السياسى التسلطى المسيطر، من خلال الحزب الواحد. ثم أهمال كارثة تدهور السياسة التعليمية، ومناهجها واساليبها النقلية، بينما الجيل السبعينى بعد حرب أكتوبر المجيدة عام 1973  كان يتشكل فكريا ونفسيا بعيدًا عن جيل الأباء، والطبقة الحاكمة التى كانت تعيد أنتاج ذاتها، عبر السلطة وآلياتها، من خلال ذات الاجيال الأكبر سنًا، ومن قلب ظاهرة موت السياسة، والجمود البيروقراطى، والتكنقراطى، ومن ذوى الفكر المحلى المفارق لتطورات عالمنا، وأجياله الجديدة،  والأفكار الفلسفية والسياسية والاجتماعية، فى ظل التحول إلى مجتمع الأستعراض –وفق جى ديبور- ثم مجتمع الإستهلاك المفرط، والشرط ما بعد الحديث. كانت الأجيال كبيرة السن، تتعامل مع عوالمها المحلية والعربية برؤي قديمة على نحو أدى إلى هيمنة الجمود على العقل السياسى الرسمى، وأزدياد الفجوات الفكرية والإدراكية، والمناهجية مع الأجيال الجديدة ونظراتها المختلفة لبلادها ولإقليمها لعالمها، وفى تصوراتها المختلفة حول تقدم بلادها، ونماذج التنمية المرغوبة، والقابلة للتطبيق فى الواقع الموضوعى والتاريخى المصرى، كبديل عن نموذج الأنفتاح الاقتصادى السلطوى، وهدر الإمكانات فى ظل موت السياسة، وغياب الرقابة الشعبية على أعمال البيروقراطية، والطبقة الحاكمة.

الفجوات فى المفاهيم والنظرة إلي الذات القومية والفردية والعالم وفى تكوين العقل السياسي، خارج السلطة، اتسعت مع أجيال الثمانينيات والتسعينيات، وجيلي الألفية الجديدة الأولي والثانية  فى البحث الاجتماعى، والكتابة الصحفية والسرديات الأدبية، وفى قصيدة النثر، وفى الفنون الجميلة…إلخ. لا أحد هناك عند القمة وماحولها كان يتابع، ويحاول أن يؤسس لجسور حوارية مع هذه الاجيال الجديدة الشابة. الجمود الجيلى برز فى الفجوة بين الحركة النقدية الشائخة، وأدواتها، ومقارباتها المستعارة من التفكيكية، دون إبداع فى تكييفها وتطبيقها على الحالة السردية الجيلية الجديدة، وغالبهم صمت عن إبداعات هذه الأجيال، والاستثناءات قليلة، من خارج السلطة الثقافية والنقدية الرسمية، على نحو أدى إلى إتساع الفجوة الجيلية فى الأدب والفنون، مع الفكر السياسى والاجتماعى. الحالة المصرية كانت معبرة عن بعض الحالات العربية الآخرى.

العقل السياسي للأجيال الأكبر سنًا، كان مفارقا لتحولات الواقع الموضوعى الوطنى والعربى، وبدي وكأنه ساكنًا والقادة السياسيين ظلوا على ما عهدوه زمن تكوينهم وتعليمهم ومن ثم قاموا يعيدون إنتاج مقارباتهم الموروثة إزاء المشاكل، ومواجهة الأزمات فى مختلف المجالات والتخصصات. كان أبناء السلطوية السياسية العربية، لا يملكون سوى العقل السياسى التابع الذى يفتقر إلى المبادرة والتفكير الخلاق خارج الصناديق السلطوية والشمولية وسياجاتها السائدة. من هنا تراكمت المشكلات وتفاقمت الأزمات المختلفة، وكانت الردود عليها تقليدية تحاول احتواء آثارها المؤقت دون التصدى لمصادر تكوينها، ومنابتها ،  ومن ثم تفاقمت مشكلات عالمنا العربى.

كان التطور التقنى وانعكاساته على العقل السياسى فى عالمنا، ينعكس على تعليم وتكوين وطرائق تفكير ومقاربات الأجيال الجديدة المختلفة  ابناء عالم الشبكات، ثم الثورة الرقمية فائضة التطور التى تفكك أنماط العقل السياسى فى العالم الأكثر تطورًا، وتؤدى إلى تحولات كبرى فى مقاربة السياسة، والسياسى، وفى صناعة السياسات والقرار السياسى، وكذلك فى التعليم والثقافة والحياة الاجتماعية، وفى تشكيل الفرد والفردانية.

أدت الثورة الرقمية إلى تشكل العقل الرقمى، والأنسان الرقمى والحياة الرقمية، دنيا جديدة وعالم من التفاعلات الرقمية الحرة، والخارجة عن السياجات السلطوية والمسيطرة على الحياة الفعلية. الأجيال الرقمية تشكل الأن قطيعة فى العقل والمعرفة والإدراك، والإبداع، والذائقة والاستهلاك الرقمى وفي حالة تصادم وقطيعة مع العقل السياسي السلطوي والتوتاليتاري ربيب الثقافة الورقية والذي وصل الي سدة السلطة دون تكوين ومهارات سياسية ومعرفة عميقة بمشكلات وتحولات بلاده والاقليم والعالم بدي عاريا إلا من أجهزة القمع الرمزي والمادي .

من هنا تبدو الفجوة الجيلية فى تمدد وتسارع فائق التغير. من ثم سنري نتائج ذلك فى التطور السياسى فى أوروبا، وأمريكا، وفى آسيا الناهضة حول الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة..إلخ. بينما ستتفاقم الفجوات الجيلية في عالمنا العربي الكبير .
من ثم نحتاج إلى سياسة تعليمية وثقافية مغايرة جذريا عن السائد عربيا، وإلى تجديد الطبقات السياسية بالأجيال الجديدة، لأنها لن تسكت إزاء الديكتاتورية الجيلية السائدة.

فلنبدأ الآن حيث الثقافة والتعليم والصحة والتقنية والرقمنة هى الحل.

زر الذهاب إلى الأعلى