هل هي نهاية الديمقراطية على الطريقة التركيّة؟

يأتي هذا المقال ضمن ملف شامل يقدمه معهد السياسة والمجتمع يتحدث عن الانتخابات التركية يتضمن سلسلة من المقالات وندوة موسعة تطرح تساؤلات تقودنا لفهم المشهد الانتخابي التركي ضمن أهم انتخابات تشهدها الساحة التركية كما يصفها الاعلام العالمي.

مع اقتراب موعد توجه الناخبين في تركيا إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانيّة المقرر إجراؤها في 14 مايو/أيار الحالي، تتعالى الأصوات حول مستقبل الديمقراطية في سياق التجربة التركية، وتبشر بعض الأصوات المتشائمة بنهاية الديمقراطية وعودة الأوتوقراطية الاستبدادية، لكن ذلك لا يعدو عن كونه مغالاة متطرفة لا تستند إلى حقائق موضوعية راسخة، وهي مغالاة تقوم على تصور مثالي للديمقراطية غير متحققة في الواقع السياسي العالمي سوى في بلدان محدودة.

إن النظرة المتشائمة حول مستقبل الديمقراطية في تركيا يستند إلى مؤشرات عدة؛ فالتجربة الديمقراطية التركيّة تمر بأزمة عميقة يتم فيها تآكل القيم الديموقراطية وتسيّد الفردية والاستبداد، إذ يعتقد غالبية الأتراك  أن تركيا ليست ديمقراطية:  وذلك وفقًا لنتائج استطلاع مؤشر إدراك الديمقراطية 2021، الذي أجرته مؤسسة لاتانا المتخصصة في الاستطلاعات في الفترة ما بين 24 فبراير/شباط و 14 أبريل/نيسان بالتعاون مع مؤسسة تحالف الديمقراطيات، حيث يعتقد 53% من الأتراك أنه لا توجد ديمقراطية كافية في البلاد، بينما يعتقد 45% فقط أن تركيا هي بلد ديمقراطي، وفقًا لـ 68% من المستطلعين في تركيا، فإن عدم المساواة الاقتصادية يهدد الديمقراطية في البلاد، بينما يعتقد 53% أن الانتخابات غير العادلة والفاسدة تهدد الديمقراطية.

لا تبدو التجربة التركية استثنائية، حيث تتراجع الديمقراطية في جميع أنحاء العالم وتترك محلها الأوتوقراطية/ الاستبدادية، إذ تكشف قاعدة بيانات مؤسسة أصناف الديمقراطية، الأكثر موثوقية في العالم حول تطبيق الديمقراطية والدمقرطة لعام 2019 أن 24 دولة، بما فيها البرازيل والهند وبلغاريا والمجر وبولندا وصربيا وحتى الولايات المتحدة، قد أخذت نصيبها من موجة الأوتوقراطية، وفقًا لهذه البيانات، يعيش ثلث سكان العالم في ظل نظام رجل واحد، وقد شهدت الديمقراطية في العالم حالة “جمود” عام 2022، رغم التحسينات التي حصلت بسبب رفع قيود كورونا تدريجيًّا، حسب ما جاء في تقرير “مؤشر الديمقراطية” التابع لوحدة الاستخبارات الاقتصادية في مجموعة الإيكونوميست البريطانية، ويقيس المؤشر حالة الديمقراطية في 167 دولة على أساس 5 معايير، ويعطي لكل دولة تقييمًا بحد أقصى 10 درجات. وهذه المعايير هي: العملية الانتخابية والتعددية، وأداء الحكومة، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية الديمقراطية، والحريات المدنية، ووجد الإصدار الأخير أن ما يقرب من نصف (45.3%) سكان العالم يعيشون في ديمقراطية من نوع ما، بينما يعيش أكثر من ثلثهم (36.9%) تحت حكم استبدادي، ووجد الإصدار الأخير أن 8% فقط من الدول في حالة “ديمقراطية كاملة”، تراجعًا من 8.9% في عام 2015.

تعيش تركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية في إطار نوع من “الديموقراطية المهيمنة”، في ظل تعاظم دور حزب العدالة والتنمية وسيطرته على مفاصل الدولة، ويُنظر إلى تركيا على أنها دولة ديمقراطية وعلمانية ذات مجتمع يغلب عليه المسلمون، ومندمج في النظام الأوروبي وحيث يوجد تعايش بين القيم الإسلامية وأنماط الحياة الغربي، وكانت هذه السمات الفريدة للنظام السياسي التركي محيرةً لجيران تركيا، ولكن أيضا لأوروبا الغربية، فبالنسبة لشعوب العالمين العربي والإسلامي شكلت تركيا نموذجًا  إرشاديًّا للتحول الديمقراطي، بينما هيمنت النظرة النمطية الثقافوية الاستشراقية الجوهرانية السكونية على المقاربات الغربية، واعتبرت سلوك العدالة والتنمية تكتيك انتهازي.

 منذ أن تأسس حزب العدالة والتنمية تحت قيادة رجب طيب أردوغان في عام 2001. وبسبب البيئة غير الآمنة التي خلقتها الأزمة الاقتصادية في ذلك العام، والأداء الضعيف للسياسيين المتنافسين آنذاك، حصل حزب العدالة والتنمية على 34.28% من الأصوات في انتخابات عام 2002 حائزًا على المرتبة الأولى ليستمر كمتصدر للمشهد الانتخابي منذ عام 2002، وتمكن حزب العدالة والتنمية من البقاء في السلطة بمفرده، وقد تنامت الخشية من مشكلة الانزلاق الاستبدادي تحت حكم حزب العدالة والتنمية منذ الانتقال إلى النظام الرئاسي في عام 2018، والذي ترسخ بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، حيث هيمنت على المجال السياسي التركي سلسلة من قوانين الطوارئ حتى يمكن القول إن تركيا ابتعدت عن الخطابات والممارسات الديمقراطية في السنوات القليلة الماضية. وتم تحفيز هذا الانفصال عن الديمقراطية من قبل الجهات السياسية والبيروقراطية المهيمنة في ظل الدور المسيطر لحزب العدالة والتنمية.

لا جدال أن حزب العدالة والتنمية حقق نجاحات كبيرة في عدة مجالات سياسية واقتصادية، وتعرض لانتكاسات أخرى، لكنه برهن على تمسك راسخ بنوع من الديمقراطية التي غابت لفترة طويلة في ظل هيمنة الجيش، حيث تأسست الجمهورية التركية قبل مائة عام وشهدت البلاد منذ ذلك الحين تحوّلًا من نظام الحزب الواحد إلى نظام متعدد الأحزاب، وتعرضت إلى الانقلاب العسكري في عام 1960 وشهدت أعمال عنف استمرت لقرابة عشر سنوات في سبعينيات القرن، وأعقب ذلك، تدبير انقلاب آخر وتشكيل حكومات ائتلافية ذات أعمار قصيرة خلال تسعينيات القرن الماضي لتشهد البلاد بداية من الألفية الجديدة صعودًا للحركات الإسلامية توج بهيمنة حزب العدالة والتنمية، وفي نهاية أي نظامٍ كان فيه للجيش أهمية سياسية، فإن السؤال الحاسم هو ما إذا كان القادة المدنيون الجدد سيكونون قادرين على كبح جماح القوات المسلحة، فحسب غييرمو أودونيل فإن “المشكلة الرئيسية في تعزيز الديموقراطية هي أن تمنع انقلابًا عسكريًّا ناجحًا”، وهو ما نجحت فيه تركيا 2016، ورغم النكسات العديدة استطاعت الجمهورية التركية التي قامت على أسس وقيم غربية مثل الديمقراطية والمساواة وسيادة القانون والعلمانية، ومنذ تولي رجب طيب أردوغان زمام الأمور في البلاد، تحولت دفة تركيا من الغرب إلى الشرق، إذ ربطت نفسها بشكل أكبر بالقيم الإسلامية وإنشاء تحالفات مع بلدان العالم العربي، لكن هذه التطورات لم تلقَ قبولًا لدى معظم الأتراك وسط مخاوف من أن يمهد ذلك الطريق لحكم استبدادي، وهو ما تركز عليه قوى المعارضة، فما يُعرف بـ “تحالف الطاولة السداسية ” الذي يتألف من ستة أحزاب معارضة، وتشتد المنافسة في الانتخابات الحالية بين “تحالف الجمهور” الذي تشكّله أحزاب العدالة والتنمية والحركة القومية والاتحاد الكبير، و”الرفاه الجديد” و”هدى بار”، ومرشحه للرئاسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من جهة، والمعارضة التركية الرئيسية المتمثلة بـ”تحالف الأمة” المعارض، والمعروف بـ”الطاولة السداسية”، الذي رشح رئيس حزب الشعب الجمهوري “كمال كليجدار أوغلو” لمنصب رئيس الجمهورية، وهو يرغب بعودة النظام البرلماني ووضع حدود لصلاحيات الرئيس التي اتسعت بشكل كبير عقب إقرار التعديلات الدستورية الواسعة عام 2018ـ ويسعى إلى التوجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية والغرب والانضمام للاتحاد الأوروبي ويرغب بعودة  اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

في ظل منافسة انتخابية محتدمة يصعب إحراز نصر واضح وصريح، رغم أن فرص العدالة والتنمية وأردوغان أكبر بنسبة ضئيلة، فالانقسامات الهوياتية والسياسية في الدول الديمقراطية تعاظمت بصورة لافتة، ورغم الانحدار نحو نوع من الاستبدادية، وعلى عكس ما يتوقعه كثيرون سواء خارج تركيا أو داخلها، ما زالت تركيا تمتلك مؤسسات ديمقراطية فعالة يمكنها ضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة إلى حد ما، وهو ما ظهر جليًّا خلال الانتخابات البلدية السابقة عام 2019، حيث حقق مرشحا المعارضة فوزًا على مرشحي حزب العدالة والتنمية في أكبر ولايتين في تركيا: أنقرة واسطنبول. كذلك يثبت ذلك أن نتائج الانتخابات قد ترجح كفة المعارضة ضد السلطة الحاكمة، على عكس أنظمة استبدادية أخرى.

تتحول الديمقراطية التركية بشكل متزايد إلى “ديمقراطية مهيمنة”، وحسب الباحث حسين جيجك ففي معظم الحالات، تبدو الديمقراطية المهيمنة وكأنها ديمقراطية ليبرالية، حيث تُجرى الانتخابات، وتصل الحكومات إلى السلطة من خلال الانتخابات، وتؤخذ في الاعتبار مبادئ حكم القانون وحقوق الأقليات، ومع ذلك، في الديمقراطيات المهيمنة، تستمر الحكومات في الحفاظ على سلطتها بشكل كامل من خلال تقييد المؤسسات الدستورية، والضغط على المعارضة، والقيام باعتقالات، وتكون الحريات الديمقراطية محدودة. ولهذه الغاية تجرى انتخابات مستمرة ودورية لدعم صورة الديمقراطية الليبرالية.

خلاصة القول، إن تركيا لا تشكل حالة استثنائيّة في تراجع الديمقراطية، فقد بات الانزلاق نحو الاستبدادية سمة عالمية، وفقدت الديمقراطية الليبرالية بريقها، في ظل صعود قوى عالمية تقدم تفسيرات مختلفة للديمقراطية، وترتكز إلى محددات الخصوصية والانجاز والاستقلالية والازدهار الاقتصادي والأمني، فالمحدد الاقتصادي يشكل الهمّ الأكبر في كافة مؤشرات الديمقراطية، وقد نجح حزب العدالة والتنمية في أوج صعوده في بناء سردية تزاوج بين الهوية التاريخية الدينية الإسلامية والعلمانية الغربية على النسق الكمالي والنجاح الاقتصادي، وهو ما لم تملكه المعارضة، ورغم المشكلات السياسية والاقتصادية التي واجهت تركيا من محاولة الانقلاب إلى أزمة جائحة كورونا وصولًا إلى كارثة الزلزال المدمر، ما تزال تركيا تحتفظ بنظام ديمقراطي معيب في ظل نظام الديمقراطية المهيمنة، الذي يشكل حزب العدالة والتنمية قوامه الأساس، وفي ظل أنظمة ومؤسسات انتخابية ديمقراطية حرة راسخة في تركيا سوف تمر الانتخابات مهما كانت نتائجها بسلام ودون تحديات جدية تهدد صلب العملية الديمقراطية.

زر الذهاب إلى الأعلى