“إندونيسيا نموذجاً” ندوة حول الإسلام الآسيوي في معهد السياسة والمجتمع

عقد معهد السياسة والمجتمع لقاءً حوارياً، بعنوان ” الإسلام الآسيوي: اندونيسيا نموذجا”، قدّم، خلاله، السفير الأردني لدى جمهورية إندونيسيا، عبدالله أبورمان، قراءةً حول النموذج الإسلامي في دول جنوب شرق آسيا، من خلال استعراض أبرز ملامح وسمات الإسلام، كثقافة وممارسات، في إندونيسيا، والتي تعدُّ أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم.
ولفت السفير أبورمان إلى أن النموذج الإسلامي الإندونيسي، والذي يطلق عليه اسم “إسلام نوسنتارا” (أي إسلام الأرخبيل)، هو ثمرة عملية تكيّف تدريجي بين الدين الإسلامي والثقافات والمعتقدات التي كانت سائدة في الأرخبيل الإندونيسي، وقد اتسمت عملية التكيف هذه، بالتمسك بجوهر العقيدة الإسلامية، مع احترام الثقافات والمعتقدات المحلية، والتوافق معها، بحيث يقدم الإسلام الإندونيسي، اليوم، نموذجاً في الاعتدال والتسامح والحرص على صيانة التنوّع، والتمسك بمدنية الدولة، وحقوق سائر المكونات الثقافية والدينية والإثنية.


وأشار أبورمان إلى أن جمهورية إندونيسيا، تعدُّ رابع أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم، وثالث أكبر ديموقراطية، وأكبر دولة ذات أغلبية مسلمة، على مستوى العالم، يشكّل المسلمون نحو 88% من مجمل عدد سكانها البالغ نحو 280 مليون نسمة، وتتألف إندونيسيا من أرخبيل يضم أكثر من 17 ألف جزيرة، تسكنها 300 مجوعة عرقية، تتحدث أكثر من 500 لغة محلية، وعدد من الديانات والثقافات المتعددة، وتعيش كلها في حالة من الوئام والانسجام، وتشهد إندونيسا نهضة اقتصادية وتنموية، حيث ترأست مجموعة العشرين 2022م، وترأس حالياً، رابطة دول الآسيان، ووهي واحدة من أكبر اقتصادات العالم وأكبر اقتصاد على مستوى جنوب شرق آسيا، وتعتمد في سياساتها الداخلية والخارجية “القوة الناعمة”، وتنتهج مبدأ “عدم الانحياز”، كمبدأ ظهر بداية من مدينة “باندونغ” الإندونيسية، عام 1955م.


ومن هذه المقدمة والمعطيات، لفت أبورمان إلى أن النموذج الإسلامي الإندونيسي، يعدُّ واحداً من أبرز عوامل قوة البلاد، ومحركاً ودافعاً لنهضتها الاقتصادية ومسيرتها التنموية، وأكد إن مبادئ “البانشاسيلا”، الخمسة، والتي تمثل مبادئ الدولة الإندونيسية، هي محل التزام واحترام من كافة الجمعيات والفعاليات الإسلامية الإندونيسية، بما في ذلك جمعية “نهضة العلماء”، كأكبر جمعية دينية في العالم ويتجاوز عدد أنصارها 80 مليوم نسمة، وجمعية “المحمدية”، كثاني أكبر جمعية إسلامية في البلاد ويناهز عدد أنصارها 40 مليون نسمة، حيث يتفق القادة الدينيون في إندونيسيا، على الالتنزام بمبادئ الدولة “البانشاسيلا”، واحترام وصون التنوع والتعددية والحريات الشخصية، وتقديم الإسلام بوصفه “رحمة للعالمين”، بعيداً عن الإكراه والتعصب والانغلاق.


وأضاف أبورمان؛ إن النموذج الإسلامي الإندونيسي يشكل كذلك حافزاً للتنمية، وينسجم مع الأهداف الوطنية وضرورات مواجهة التحديات في إندونيسيا، حيث ركّز الخطاب الإسلامي في السنوات اللأخيرة على بناء الموارد البشرية في الإسلام، وهو العنوان الذي يشكل أولوية للدولة، كما ينشط القادة الدينيون في دعم اقتصاد “المنتجات الحلال”، وتقديم إندونيسية كدولة رائدة في هذا المجال، على صعيد المصارف والمأكولات والملابس والسياحة الحلال، وأضيفت إليه فروع عديدة، تشمل صناعات متعددة، تمثل اليوم مصدراً مهماً من مصادر قوة الاقتصاد الإندونيسي الطموح والصاعد.
ولفت السفير أبورمان إلى اللباس الإندونيسي التقليدي، المتمثل بالقمصان الإندونيسية، والتي تحمل رموزاً محلية وثقافية، وقال: إن هذا القميص الإندونيسي “الباتيك”، والذي دخل ضمن قائمة اليونسكو كتراث عالمي، يمثل قيمة ثقافية واتصالية عالية، يقدم من خلالها الإندونيسيون وجهاً راقياً لحضارتهم وتنوّع ثقافتهم وانسجامها. وأضاف: إن هذا القميص الذي يقدم رسوماً ورموزاً ثقافية لكل جزيرة من جزر الأرخبيل الإندونيسي، أصبح اليوم، يمثل وسيلة للتواصل مع الدول والمجتمعات الصديقة، من خلال إضافة الرموز الثقافية لهذه الدول إليه، ويمثل قطاعاً إنتاجيا اقتصادياً مهما، يوفر فرص عمل لملايين من الإندونيسيين، العاملين في قطاع الأزياء وفنونها، وتصديره، مع ما يحتويه من معانٍ ورموز ثقافية واتصالية.. كما أنه يمثل لباساً معتمداً للقيادات الدينية والسياسية والاجتماعية، ويعدُّ لباساً رسمياً للدولة، يحرص رؤساء البعثات الدبلوماسية وضيوف إندونيسيا الرسميون على ارتدائه كشكل من أشكال الاحترام والتقدير للثقافة الإندونيسية.


وفي السياق التاريخي، وحول بدايات دخول الإسلام إلى إندونيسيا، قال أبو رمان، إنه وبرغم الخلاف لدى الباحثين والمختصين حول البدايات المبكرة، إلا أن الانتشار الحقيقي للإسلام في جزر الأرخبيل الإندونيسي جاء عبر التجار الحضارمة والعمانيين منذ القرن الأول الهجري، وساهم به بشكل خاص روادٌ من آل البيت، السادة الهاشميين، الذين اتصلوا بالأرخبيل الإندونيسي، وحلّوا في جزره المتعددة، مبكراً، واشتهر من بينهم ما يطلق عليه اسم “الأولياء التسعة”، الذين أسّسوا لمنهج الاعتدال والتسامح، واحترام الثقافات والديانات المحلية والتعايش معها بسلام ووئام تام.


وحول سمات وخصائص النموذج الإسلامي الإندونيسي، قال السفير أبو رمان: إن الإسلام في إندونيسيا هو ثمرة عملية تكيفّ بين الدين الإسلامي القادم من الشرق الأوسط، وبين الثقافات والأديان والمعتقدات المحلية الإندونيسية؛ فلم يصطدم الإسلام في إندونيسيا مع الديانات والمعتقدات القديمة، وفي حالات عديدة سعى لاحتوائها، وإقرارها، وإعطائها ثوباً إسلامياً. لقد انتهج العلماء المسلمون الأوائل في إندونيسيا، طريقاً ناعماً يتحاشى الصدام مع المعتقدات والثقافات والعادات السائدة، وأقاموا ما يشبه التوافقات مع العديد من الممارسات القائمة، واعتبروها غير متنافية مع تعاليم الإسلام، بل، واعتبروها في كثير من الحالات، موروثات ثقافية لا غضاضة فيها. وعليه، أصبحت أثار الثقافات والمعتقدات المحلية واضحة في الإسلام الإندونيسي، وحاضرة في ممارساته، واندمجت طقوس قديمة بالقيم أو التعاليم الإسلامية، وتم انتشار الإسلام بطريقة سلمية وبشكلٍ تدريجي دون الصدام مع التقاليد السابقة، ودون أي تعارض مع جوهر العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد؛ حيث تنتسب الأغلبية المطلقة للمسلمين في إندونيسيا إلى المذهب الشافعي، وأغلبيتهم من الأشاعرة، وتزدهر في الأرخبيل الإندونيسي الصوفية وطرقُها ومدارسها وثقافتها القائمة على التسامح والتنوير.


ولفت السفير أبو رمان إلى “بيان إسلام نوسانتارا”، الذي اعتمدته إندونيسيا رسمياً، وتوافقت عليه الجمعيات والهيئات الإسلامية في إندونيسيا، وحظي باحترام وقبول العلماء والهيئات الإسلامية من عدد كبير من الدول، ومن ضمنها الأردن، وقال أبو رمان، إن هذا الإعلان أكد على أن الإسلام يسهم في الحضارة العالمية من خلال احترام وتقدير الثقافات الموجودة وتعزيز الانسجام والسلام، ودعا المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء العالم “لتذكر الجمال والحيوية اللذين انبثقا عن التفاعل التاريخي بين روح وتعاليم الإسلام مع واقع الثقافات المحلية، والذي تمخضت عنه حضارات عظيمة كتلك التي شهدها الأرخبيل الإندونيسي”. ومن منظور هذا المنهج لا يوجد تناقض بين الدين والمواطنة، وإن “حب الأوطان من صميم الإيمان”، وأن “إسلام نوسانتارا”، لا يسعى لحشد أتباعه لغزو العالم، بل يحضهم على السعي باستمرار من أجل تحقيق قيم الكرم والنبل. وبهذه الطريقة، يمكن إظهار الإسلام كنعمةٍ ورحمة للعالمين، ويحض “إسلام نوسانتارا” على الاقتداء بتعاليم وقيم الإسلام الأساسية واحترامها، بما في ذلك الاعتدال والتسامح ونبذ العنف والإكراه. ويسلط الإعلان الضوء على العوامل الكامنة وراء تفشي التطرف الديني والإرهاب والصراعات في الشرق الأوسط والموجة العارمة من الإسلاموفوبيا في الغرب. ويرى أن هذا التطرف هو نتيجة لسوء تفسير الإسلام.


وفي الختام، أكد أبو رمان على ضرورة قراءة النموذج الإسلامي الإندونيسي، والاستفادة من دروسه، وإقامة التواصل المؤسسي مع الهيئات والمراكز الإندونيسية المتخصصة، مؤكداً إن الأردن وقيادته الهاشمية يحظى باحترام وتقدير الإندونيسيين، كما تمتاز العلاقات السياسية بين البلدين بتاريخ من الانسجام والتعاون والاحترام المتبادل، ومن الممكن البناء على هذه المزايا، وإقامة شراكات مهمة ونوعية بين الأردن وإندونيسيا، لافتاً إلى أهمية زخم السياحة الإندونيسية للأماكن الدينية والمواقع الثقافية في الأردن، بالإضافة إلى آفاق تشجيع الطلاب الإندونيسيين للدراسة في المعاهد والجامعات الأردنية، وأثر ذلك على استقطاب الاستثمارات الإندونيسية في الأردن، وفي مجالات عديدة، تشمل السياحة والتعليم والزراعة ومجالات الأمن الغذائي المتنوعة.

زر الذهاب إلى الأعلى