أين علم السياسة العربي؟

ثمّة فرق كبير بين أن نبقى خاضعين للانطباعات والتحليلات الرغائبية والمواقف الشخصية المعلّبة المسبقة في فهم ما جرى، وما يزال، في العالم العربي، وبين الانتقال إلى عالم البحث والتحليل العلمي الموضوعي الذي يؤطّر ما يجري ضمن مقارباتٍ مفاهيمية، تجعل من السهل علينا أن نفهم أين أخطأنا في مرحلة ما بعد الربيع، لنجد أنفسنا نغوص في أزماتٍ كبيرة، بدلاً من الخروج من الأزمات السابقة، ولنفقد فرصة تاريخية غير مسبوقة في هذه البقعة من العالم عندما كسرت الشعوب حواجز الخوف والقلق والرعب من الاستبداد والأمن، وخرجت إلى الشوارع تطالب بالحرية والديمقراطية والكرامة!

كيف نفهم ما جرى ويجري من دون أن تكون هنالك جهود متكاملة ومعمّقة، وتشكّل فرق من العلماء والباحثين في العلوم الاجتماعية، لدراسة ذلك، وتقديم الوصفة التحليلية للأسباب والديناميكيات المعطّلة للتقدّم، والطريق نحو المستقبل؟ .. تلك بعض أسئلة فرضت نفسها عليّ مجدداً، وأنا أشارك في مؤتمر عقدته في عمّان الشبكة العربية في العلوم السياسية (APSN) بالتنسيق مع الجمعية الأميركية للعلوم السياسية، إذ تناول المشاركون قضايا مهمة عديدة في العلوم السياسية في العالم العربي، مثل المناهج المستخدمة والأولويات البحثية وغيرها من موضوعات على درجة من الأهمية، بالتوازي مع مراجعة أوراقٍ كتبها طلاب وباحثون عرب في الجامعات الغربية تتعلق بالمنطقة العربية.
على هامش المؤتمر، عقد معهد السياسة والمجتمع جلسة نقاشية لكل من مارك لينش وشون يوم وجوليان شويدلر لمراجعة الكتاب الجديد الذي حرّروه “العلوم السياسية في الشرق الأوسط: النظرية والبحث منذ الربيع العربي”، (صادر بالانكليزية، وستصدر ترجمته إلى العربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، ويضم الكتاب 12 فصلاً لباحثين ومتخصصين عديدين في العلوم السياسية، تتناول موضوعات عديدة، مثل: السلطوية والديمقراطية، الاقتصاد السياسي للتنمية، المؤسسات العسكرية، الطائفية والهوية، النظام الإقليمي، الصراع والعنف، والحركات الإسلامية .. إلخ.

قصور كبير عربياً (في مجال العلوم الاجتماعية عموماً) في مجال البحث العلمي لفهم المشكلات والظواهر والتحدّيات والتحولات والاتجاهات المستقبلية

بالضرورة، يمثّل الكتاب نموذجاً مهماً مقدماً من باحثين وخبراء في فهم تحولات منطقة الشرق الأوسط، بعد الربيع العربي، لكنه محزن فعلاً أن نجد قصوراً حقيقياً وكبيراً في دور الجامعات والمعاهد الأكاديمية ومراكز الدراسات والأبحاث والتفكير في تقديم مساهمات حقيقية معمّقة في هذا المجال، بالرغم من جهود بعض المؤسسات البحثية (يمكن القول بصورة خاصة إن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومركز دراسات الوحدة العربية يمثلان نماذج متقدّمة في هذا المجال لكنها محدودة)؛ فهنالك قصور كبير عربياً (في مجال العلوم الاجتماعية عموماً) في مجال البحث العلمي لفهم المشكلات والظواهر والتحدّيات والتحولات والاتجاهات المستقبلية.

ولعلّ أطرف ما قاله شون يوم (في جلسة معهد السياسة والمجتمع) إنّ هنالك أزمة حقيقية في بناء نظريات متماسكة لفهم التحولات الجارية في العالم العربي، وضرب مثلاً على ذلك في الحالة التونسية، إذ انصبت أغلب النظريات والتفسيرات لنجاح النموذج التونسي على عوامل عديدة، منها العامل الثقافي، إذ جرى ربطه بتمايز الثقافة التونسية عن الدول العربية الأخرى، خصوصا في مجال الثقافة الدينية والنزعة المدنية تاريخياً، لكن أغلب تلك النظريات تضعضعت مع ما يحدث حالياً هناك.

أمّا مارك لينش فقد ركّز على ديناميكية المتغيرات الخارجية والداخلية، في العالم العربي، إذ أشار إلى أنّ الخيط الفاصل بين ما يحدث في العالم والمنطقة وداخل الدول نفسها رفيع جداً، ما يؤدي إلى تداخل العوامل والمتغيرات معاً، وهي ملاحظة على درجة من الأهمية، لأنّها تستدعي النظر إلى السياسات الدولية والإقليمية وانعكاساتها على الأوضاع السياسية الداخلية في الدول العربية، وهو أمرٌ يزداد أهمية إذا أخذنا “العامل الإسرائيلي” بصورة رئيسية كأحد المتغيرات المهمة في فهم السياسات الشرق أوسطية، مما يجعل الجيوبوليتيك على درجةٍ أعلى من الأهمية في فهم المنطقة وسياساتها.

من الصعب بمكان لباحثين في مجال واحد تحليل مشكلات وأزمات مركّبة تتقاطع فيها العلوم الاجتماعية المختلفة

في ورقتي التي قدّمتها عن مراكز التفكير ودورها في تطوير مجال العلوم السياسية في العالم العربي، أشرت إلى الضعف الشديد في هذا المجال لأسباب رئيسية، منها حجم التحدّيات والمحدّدات في عمل هذه المراكز، وقسمتها إلى ستة تحديات رئيسية: الاستقلالية، التمويل، العلاقة مع الحكومات، ضعف قدرات الباحثين، غياب الجهود الجماعية، مشكلة الوصول إلى البيانات. لذلك نجد أنّ غالبية هذه المراكز التي تنتمي إلى فصيلة المجتمع المدني والمؤسسات غير الربحية، ونتيجة للضغوط السياسية والأمنية ومصادر التمويل الغربية، فإنّها تتجه نحو مشروعات تدريبية وتنفيذية مصممة من الممولين، ولا تساهم في فهم المنطقة والدول العربية بصورة كبيرة وعميقة، فغالبيتها اليوم مؤسّسات تدريبية وليست بحثية، لأنّ حجم التمويل والمنح المصروفة على الأبحاث والدراسات العلمية محدود جداً مقارنة بالمشروعات التدريبية الأخرى.

ولعل التوصية التي خرج بها عشرات الباحثين العرب (في مؤتمر عقده معهد السياسة والمجتمع قبل عام عن “الإسلام السياسي بعد عشرة أعوام”) جديرة بالاهتمام في هذا المجال، وتتمثل في أن يكون هنالك توجيه أكبر للأبحاث والدراسات نحو النظريات والمناهج البحثية والتأطير المفاهيمي، وأن ننتقل من الجهود الفردية إلى تشكيل فرق من الباحثين والمتخصصين من حقول علمية ومعرفية مختلفة، لأنّ من الصعب بمكان لباحثين في مجال واحد تحليل مشكلات وأزمات مركّبة تتقاطع فيها العلوم الاجتماعية المختلفة.

إذا لم تتحرّك المياه الراكدة في البحث العلمي، ويتم وضع إطار توافق لأجندة البحث العلمي وأولوياته والنظريات المفسّرة وتشكيل فرق علمية وبحثية لتقديم مقاربات في هذا المجال، فسنبقى ندور في تبعية أخطر وأعمق من التبعية الاقتصادية، فنضطر لنعتمد على الغربيين أيضاً في فهم مجتمعاتنا ومشكلاتنا وتحليل أزماتنا.

بواسطة
العربي الجديد
زر الذهاب إلى الأعلى