الانتخابات العراقية وجدلية التأجيل في فوضى الاضطراب الداخلي

وسط أجواء محمومة تعيشها الساحة العراقية ومحيطها الإقليمي المرتبط بأزمات دولية، يضرب العراق موعداً في العاشر أكتوبر/العام الجاري مع انتخاباته التشريعية المبكرة أمام شكوك ومخاوف من تأجيلها مرة أخرى في ظل مناخ اقليمي متأزم وجبهة داخلية مضطربة. إذ يشهد لهيب الصيف الحارق في العراق موجة من الاحداث المتسارعة التي يُخشى أن تكون سببًا في تعقيد الموقف، خاصةً وأن قرار إجراء الانتخابات المبكرة جاء بعد حراك شعبي عارم انطلق في الأول من أكتوبر عام 2019، غطى معظم المحافظات العراقية بما فيها العاصمة بغداد، طالب خلالها المتظاهرون بانتخابات مبكرة وإزاحة الحكومة التي كان يقودها عادل عبد المهدي.
انسحاب قوى شعبية ومشاركةُ أُخرى، قانون انتخاب جديد ما يزال محط جدل، وضع أمني غير مستقر، تصاعد حدة المواجهات بين القوات الأمريكية والفصائل المسلحة، حرائق تلتهم العديد من المؤسسات الصحية، التلويح بتجدد وعودة المظاهرات إلى الشارع، مقاطعة تيار سياسي مؤثر الانتخابات والحكومة الحالية واللاحقة، مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة والفقر المدقع .. هكذا يتلخص المشهد قبيل الانتخابات المزمع عقدها في العاشر من اكتوبر/تشرين الأول العام الجاري، ما قد يرجح الكفة نحو تأجيل هذه الانتخابات إلى موعدها الدستوري الأصلي في أبريل/نيسان عام 2022، رغم انطلاق الحملات الدعائية للمرشحين مع بداية يوليو.
أناقش في هذا المقال، التطورات الداخلية الأخيرة التي يعيشها الشارع العراقي ومدى تأثيرها على المشهد الانتخابي، في ظل توقعات ترجّح تأجيل الانتخابات مرة أخرى بعد أحداث دامية خلفت خسائر جسيمة.

حراك تشرين … اللحظة الفارقة
في الأول من تشرين أول عام 2019 انطلقت احتجاجات شعبية -ولا نبالغ ما إن قلنا خرج الآلاف-اجتاحت أغلب المحافظات العراقية على رأسها العاصمة بغداد للمطالبة بتحسين الواقع السياسي والاقتصادي والخدمي.
كان حراك تشرين لحظة فارقة في تاريخ الشارع العراقي بعد 2003؛ فقد أبرز الحراك حالة التحول الكبيرة على مستوى خطاب الجماهير وتوجهاتها وعكست مشاركة الجيل الجديد الذي يبدو أنه جيل عنيد يمتلك نظرة مغايرة للواقع السياسي حالة الاحباط التي يعيشها الشارع وأظهرت الفجوة الكبيرة بين النظام السياسي ورغبات الشعب العراقي الناقم على السلطة.
لكن قبل ذلك، تجدر بنا الإشارة إلى أن حراك تشرين وإن كان لحظة فارقة مهمة إلا أن حراك 25/شباط عام 2011 كان شرارة انطلاق مظاهرات عابرة للهويات بالتزامن مع اندلاع ثورات الربيع العربي في ذلك الوقت، بل يمكن القول أن حراك تشرين هو حصيلة مسار متراكم من الاحتجاج والتظاهر شهده العراق منذ عام 2011 تبلورت لتصبح أكثر تنظيمًا وأوضح رؤية، واستطاعت أن تصل إلى معظم المحافظات العراقية وإقامة اعتصامات تركزت في محافظات الجنوب.
مثلت تشرين حالة اليأس التي عاشها الشعب العراقي بعد عام 2003 وتصاعد حدة الاحتقان في الشارع الذي انفجر أخيراً بوجه حكومة عادل عبدالمهدي، والذي جابه هذه المظاهرات بقمع مفرط وعنيف أودى بحياة أكثر من 500 متظاهر وجرح الآلاف. ومع احتدام المواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين وتحويل المظاهرات في بغداد والمدن الجنوبية إلى اعتصامات في الشارع، دفع تصاعد الغضب الشعبي عادل عبد المهدي إلى تقديم استقالته بعد قرابة الشهرين من تاريخ بداية الحراك والدفع باتجاه حكومة انتقالية تتعهد بتلبية مطالب المتظاهرين على رأسها تغيير قانون الانتخاب وإجراء انتخابات مبكرة قبل موعدها الأصلي المقرر في عام 2022.

تشكيل حكومة جديدة
أدخلت استقالة حكومة “عادل عبدالمهدي” رئيس الجمهورية “برهم صالح” في دوامة وحيرة صعبة للغاية تتعلق باختيار هوية رئيس الوزراء الجديد، فمنصب رئاسة الوزراء في العراق بحسب اتفاق الكتل السياسية يقضي بأن يكون من حصة المكون الشيعي حصراً، وهنا تكمن المشكلة، فقد كان على رئيس الجمهورية اختيار شخصية تقود الحكومة مهمتها احتواء مطالب الشارع الغاضب من جهة، وترضي الأطراف السياسية الشيعية حصراً والتي في معظمها تمتلك فصائل مسلحة على الأرض من جهة أخرى. ولم يفلح برهم صالح في عدة محاولات إقناع هذه الاطراف ببعض الشخصيات التي رشحها لتولي الحقيبة وظهر ذلك خلال عدم اكتمال نصاب البرلمان للتصويت على الشخصية المرشحة وعدم قناعة بعض الأطراف السياسية أو اضطرار بعض المرشحين إلى الاعتذار عن التكليف. إلا أن ظروفًا سياسيّة خارجية وداخلية جعلت القوى السياسية الشيعية تقبل بمصطفى الكاظمي رئيس جهاز المخابرات العراقية لتولي زمام السلطة التنفيذية للمرحلة الانتقالية وإن كان قبول بعض القوى الشيعية جاء على مضض. تعهد الكاظمي بتلك الالتزامات المتعلقة بقانون الانتخابات وموعد اجرائها بالإضافة إلى حماية المتظاهرين ومحاسبة قتلتهم وإيقاف سلسلة اختطاف واغتيال الناشطين.
استطاع الكاظمي الظفر بتصويت البرلمان بالموافقة على حكومته، ولا يمكن إنكار نجاحه في تهدئة الشارع وإن لم تبتعد حكومته كثيراً عن مبدأ المحاصصة الطائفية التي طالب الحراك بإلغائها، إلا أن الكاظمي استطاع تسويق نفسه كخيار للمتظاهرين على خلاف تصريحات زعماء الكتل الشيعية حول أهمية دورها في اختياره ومنحه الثقة. كما تزامن ذلك مع ظروف جائحة كورونا التي حالت دون استمرار المظاهرات بزخمها السابق، بالإضافة إلى أن خلفية الكاظمي السياسية والفكرية الليبرالية البعيدة عن إيديولوجيا أحزاب الإسلام السياسي الشيعي شكلت عنصر جذب للبعض للقبول به، فهذا ما افتقده العراقيون منذ تولي ابراهيم الجعفري حقيبة رئاسة الوزراء عام 2005.

انتخابات مبكرة والتصويت على قانون انتخابي جديد ..
أقر مجلس النواب في 24/ديسمبر عام 2019 قانونًا جديدًا لتنظيم الانتخابات البرلمانية للبلاد واستمرت مرحلة المصادقة عليه من قبل رئيس الجمهورية ما يقارب 11 شهراً لانشغال المجلس بخلافات تتعلق بملحق القانون المختص بتحديد الدوائر الانتخابية.
وكان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد حدد في يوليو/2020 بالتنسيق مع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وبعثة الأمم المتحدة موعد إجراء الانتخابات المبكرة منتصف يونيو/حزيران عام 2021  أي قبل موعدها الرسمي بعام، موجهاً كافة الدوائر الرسمية والوزارات إلى تذليل كافة المعوقات أمام عمل مفوضية الانتخابات.
حقق القانون الجديد قفزة كبيرة بالمقارنة مع القانون الانتخابي السابق، فقد ألغى القانون نظام “سانت ليغو” المعقد المعتمد على حسابات تتعلق بالقاسم النسبي في توزيع الأصوات والذي لا يفسح المجال سوى للكتل والتحالفات الكبيرة التقليدية ويضعف حظوظ الوجوه الجديدة المستقلة أو الصغيرة من كسب مقاعد في البرلمان، بينما استطاع القانون الجديد فرض معادلة جديدة تقضي بفوز المرشح الحائز على أعلى نسبة من الأصوات، وبحسب القانون فإن الأصوات تذهب إلى المرشحين حصراً وليست إلى قوائمهم، كما يسمح بالترشيح الفردي دون شرط الانتساب إلى قوائم انتخابية وهذا ما يعزز من حضور وفرص المرشحين المستقلين.
كما جرى تقسيم البلاد إلى 83 دائرة انتخابية بدلاً من اعتبار البلاد بأكملها دائرة واحدة كما حدث بانتخابات عام 2005 أو 18 دائرة –على عدد المحافظات- كما في الانتخابات الثلاث التي لحقتها، لكن القانون الجديد قسم المحافظة الواحدة إلى دوائر انتخابية متعددة على أن يكون لكل 100 ألف شخص نائب واحد، وبالتالي فإن المناطق الكبيرة قد تحظى بأكثر من نائب، والمناطق التي يقطنها أقل من 100 ألف تدمج بمناطق أخرى.
لكن، كما أن لكل قانون ميزات وقد ذكرنا بعضاً منها إلا أن هنالك ثغرات وسلبيات أيضاً في القانون الجديد لا يمكن إغفالها، ولم يكن من المنطقي أن يصوت البرلمان المنتمي غالبيته إلى القوى السياسية التقليديّة على قانون جديد من شأنه التقليل من حظوظها أو يضعف حضورها أو يجعلها خارج أسوار المنطقة الخضراء؛ فترسيم الدوائر على المناطق تم دون وجود معيارية عادلة علمية واضحة، بل بناء على تواجد القواعد الشعبية للقوى السياسية الكبيرة، ما يرسخ حدوداً إداريّةً لبعض المناطق طائفيًّا وقوميًّا وانصهار بعض الأقليات في دوائر ذات أغلبية لمكونات أخرى وهذا ما قد يضيع حق هذه الأقليات في تحديد من يمثلها إلى قبة البرلمان ويفرض عليها معادلات لا ترغب بها، وهذه الثغرة هي مشكلة أساسيّة من شأنها أن تحمل أبعاداً تعيد العراق إلى زمن الهويات والاقتتال الطائفي وأزمة الأقليات، والزج بالعشائر من خلال تحالف شيوخها مع رؤوس الكتل الانتخابية من منطلقات مختلفة.
وهنالك جدليات أخرى قائمة في القانون متعلقة بطريقة فرز الأصوات وإمكانية مشاركة الأحزاب التي تمتلك فصائل مسلحة، ورفع سن الترشح إلى 28 على خلاف اقتراح رئيس الجمهورية في مسودته التي أرسلها إلى البرلمان، وتفصيلات أخرى. إلا أن الفيصل يكمن في طريقة تنفيذ القانون الانتخابي الجديد …
في يناير/العام الحالي، أصدرت الحكومة العراقية قرارًا يقضي بتأجيل الانتخابات المبكرة إلى العاشر من اكتوبر/2021، معللةً القرار بأنه جاء بناء على اقتراح تقدمت به المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لأسباب ذات أبعاد فنية، وقرار موافقة الحكومة على طلب المفوضية جاء من باب حرص الحكومة على ضمان النزاهة والشفافية وإجراء انتخابات عادلة.
وبحسب المفوضية فإن اقتراحها جاء حرصاً على اجراء انتخابات متكاملة، ولإفساح مجال أوسع للمشاركة بعد تسجيل عدد قليل من التحالفات السياسية، ولأمور متعلقة بتسجيل المواطنين في البطاقة البايومترية.
إلا أن قرار التأجيل هذا أثار سؤالًا وهو، ماذا بقي من مفهوم ” الانتخابات مبكرة” ونحن سنكون على بعد 6 شهور من الموعد الأصلي؟ فيما عده آخرون تنصلاً حكوميًّا عن الوعود والتفاف على مطالب المتظاهرين.

أزمات حادة تعصف بالبلاد قبيل الانتخابات
لا يمكن تفصيل وحصر التحديات التي يمر بها العراق إلا بدراسات وأبحاث مطولة وليس بمقالة قصيرة كهذه، فالملف العراقي لا نبالغ بالقول أنه من أكثر الملفات تعقيداً في المنطقة ويشهد تطورات متسارعة ومتغيرة باستمرار، لذا سأتحدث دون اسهاب عن أهم العقبات التي يشهده هذا الملف على الصعيد الداخلي ونحن على مشارف استحقاق انتخابي مهم.
مايزال تنظيم داعش يمثل معضلة أمنية كبيرة في العراق، فعلى الرغم من قلة أعداد عناصره إلا أنه لايزال يحاول إعادة تنظيم صفوفه، ولايزال قادرًا على شن الهجمات ضد القوات الأمنية خصوصًا من جهة المناطق الواقعة بالقرب من جبال حمرين شرقي كركوك و بالقرب من سلسلة جبال مكحول الواقعة شمال محافظة صلاح الدين بالإضافة إلى بعض المناطق غرب محافظة ديالى.
وبحسب تقرير نشرته ” الغارديان” البريطانية قبل أيام، فإن أوضاع داعش اليوم أشبه بأوضاع القاعدة بعد طردها من المناطق السنية عام 2009، فهو اليوم يحاول إعادة تنظيم نفسه عبر استقرار عناصره بمناطق مليئة بالجبال والوديان التي يصعب الوصول إليها في كثير من الأحيان. إلا أن التنظيم ما يزال يصد هجوماً ويشن هجمات هنا وهناك، عبر استراتيجية قتالية أشبه بحرب العصابات بعد فشل استراتيجية مسك الأرض التي كان يستولي عليها حتى عام 2017.
من جانب أمني آخر، لايزال العراق يشهد نزاعاً لم تتضح معالمه بعد بين قوى الدولة وبين فصائل شيعية مسلحة تنضوي تحت مؤسسة الحشد الشعبي، هذه المؤسسة التي تنتمي رسميًّا إلى الأجهزة الأمنية إلا أنها تقيم شبكة علاقات خاصة بها وتنفذ عمليات ضد القوات الأمريكية تارة وتحاصر المنطقة الخضراء تارة أخرى. كما يقسم الباحثون قوات الحشد الشعبي إلى قسمين، حشد المرجعية المنتمي عقيدة إلى المرجعية الدينية في النجف، والحشد الولائي الذي يعترف صراحة بأنه يدين بالولاء للولي الفقيه في إيران. شكل هذا التضارب بين خط الدولة وخط الفصائل المسلحة تهديداً كبيراً نتج على إثره تعقيدات تتعلق بعلاقات العراق مع واشنطن وقيام الحشد بتطويق المنطقة الخضراء في بغداد وتهديد رئيس الحكومة بعد اعتقال أي قيادي في الحشد واتهام هذه الفصائل باغتيال الناشطين. كما تُتهم بعض الفصائل المسلحة بإدارتها شبكات تهريب على الحدود السورية وسيطرتها على حدود غير رسمية مع إيران وبناء شبكات اقتصادية وقوة عسكرية على غرار حزب الله في لبنان.
أما على الصعيد الاحتجاجي، تتجدد المظاهرات في عدد من المحافظات العراقية للمطالبة ما أسموه “إنهاء الإفلات من العقاب” والمطالبة بمكافحة الفساد والكشف عن قتلة المتظاهرين وتسليمهم إلى القضاء وإطلاق سراح معتقلي الاحتجاجات، والكشف عن السجون السرية والزج بمسؤوليها ليمثلوا أمام القضاء. تصاعدت هذه النبرة بعد سلسلة اغتيالات بحق الناشطين العراقيين بعد هدوء عاصفة الاحتجاج كان أبرزهم الباحث الأمني والخبير بالجماعات المسلحة هشام الهاشمي المعروف بتوجهاته الداعمة للمظاهرات التي شهدها العراق وكشفه لملفات تتعلق بنشاطات أمنية واقتصادية للفصائل المسلحة وآخرهم إيهاب الوزني الذي اغتيل في مايو/العام الجاري، ما جعل قوى وأحزاب منبثقة من حراك تشرين تعلن مقاطعتها وانسحابها من المشاركة في الانتخابات الحالية لعدم وجود جدوى وجدية من النظام السياسي للحد من عمليات الاغتيال والاختطاف التي يتعرض إليها الناشطون العراقيون و عدم قدرة الحكومة على حصر السلاح  بيد الدولة وتعرّض بعض ناشطيها لضغوط وتهديدات من الجماعات المسلحة للانسحاب من الانتخابات.
على الصعيد الخدمي، فأزمة الكهرباء تتجدد كل عام مع حلول لهيب الصيف الحارق في العراق، فبالرغم من وعود الحكومة المتكررة لاتزال خدمة الكهرباء ضعيفة للغاية في العديد من المحافظات و لا يحظى الكثير من السكان سوى بساعات قليلة، وهذا أشعل موجة احتجاجات في عدد من المحافظات الجنوبية خاصة. تزامنت هذه الاحتجاجات مع تفجيرات متكررة استهدفت أبراج النقل الكهربائي عبر عبوات ناسفة اتهمت الحكومة داعش بتنفيذها.
لكن ما زاد المشهد تأزيما وتعقيداً، هي الحادثة الأخيرة التي أودت بحياة أكثر من 60 شخصًا وإصابة أكثر من 100 على إثر حريق نشب في قسم العزل لمرضى كورونا بمستشفى الحسين في مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار والتي أعادت بالذاكرة العراقية إلى حريق  مستشفى الخطيب قبل شهور الذي أودى بحياة أكثر من 80 شخصاً وجرح العشرات. وعلى إثر حادثة حريق مستشفى الحسين أعلن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر انسحابه من الانتخابات، مشيرًا إلى أن ما يتعرض إليه الشعب العراقي يقع ضمن مخطط شيطاني هدفه “إذلال الشعب العراقي”.

هل ستقام الانتخابات بموعدها المبكر؟
أحدث إعلان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مقاطعته وانسحابه من الانتخابات القادمة ورفع يده عن دعم الحكومة الحالية واللاحقة ضجة كبيرة في جميع الأوساط السياسية والشعبية والإعلامية فالتيار الصدري هو أكبر تيار جماهيري ثابت والأكثر تنظيمًا و كان قد حصد على 54 مقعدًا في البرلمان من أصل 329 في انتخابات 2018 عبر كتلة سائرون. ودائماً ما كان  التيار الصدري يتطلع قبل إعلان زعيمه الانسحاب إلى تحديد هوية رئيس الوزراء القادم عبر الحصول على مكاسب أكبر من الانتخابات بالتعويل على قدرته في التحشيد وتنظيم جماهيره، إلا أن هذا الانسحاب أثار شبهات وشكوك وتساؤلات ملفتة وكثيرة!
مع حلول يوليو/العام الجاري، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات انطلاق الدعاية الانتخابية للمرشحين، وكانت المفوضية قد أعلنت عن مشاركة 110 حزباً و 22 تحالفاً انتخابيًّا يتنافسون فيما بينهم على مقاعد البرلمان، وأشارت المفوضية إلى أن قرابة 25 مليون عراقي يحق لهم المشاركة في التصويت من أصل 40 مليون نسمة، كما قامت بتوجيه الدعوة لمجلس الأمن و 76 سفارة أجنبية لمراقبة العملية الانتخابية.
تجري هذه الانتخابات بالتزامن مع تشكيل تحالفات على أسس لم تبتعد عن الأسس الطائفية والعرقية، وسط مخاوف من استمرار تدني المشاركة في الانتخابات، فقد بلغت نسبة المشاركة في انتخابات 2018 الأخيرة  44% بالمقارنة مع انتخابات 2014 التي شهدت نسبة مشاركة بلغت 60% وفقاً للأرقام الحكومية.
لم تتحسن البيئة الانتخابية الحالية بالمقارنة مع الانتخابات السابقة، بل يمكن القول أنها تزداد اضطراباً وتعقيداً  في ظل استبعاد مرشحين والضغط على اخرين للانسحاب وإلغاء تصويت الخارج وسيطرة المال والسلاح على المشهد وشكوك الناشطين في وجود أمن انتخابي يحمي المرشح والناخب، ومخاوف من عمليات التزوير واللعب بنتائج الصناديق في ظل الاكتفاء بالرقابة الدولية دون إدارة واشراف، وزيادة سخط الشارع نتيجة الأحداث المتعاقبة وتأزم المشهد السياسي العراقي وإعلان التيار الصدري انسحابه، وهذه الظروف مجتمعة كفيلة بالدفع باتجاه تأجيل الانتخابات إلى عام 2022.

سيناريو التأجيل المحتمل
على الرغم من قرار الصدر الابتعاد عن الساحة السياسية عبر مقاطعة الانتخابات وانسحاب ترشيح جميع القوى السياسية التابعة للتيار إلا ان عدة مؤشرات ترجح أن اتخاذ الصدر هذا القرار لا يعدو أن يكون مناورة سياسية لإعادة كسب ثقة قاعدته الشعبية؛ فلم يكن من المنطقي أن يستغني الصدر عن حصته الكبيرة المحتملة في الاستحقاق السياسي القادم، لذلك فإن القرار جاء لعدة فرضيات يطرحها المقال، منها  أن أزمتي الكهرباء ومستشفى الحسين فتحتا جروح العراقيين على النظام السياسي في العراق ولا يخفى على أحد بأن وزارتي الكهرباء والصحة هما من حصة التيار الصدري، وكشف هذا العام حجم  الفساد والاهمال المستشري في هاتين الوزارتين ما يعني احتمالية اهتزاز قاعدة الصدر الشعبية وعدم حصوله على 100 مقعد التي وعد بها أنصاره، و قد يكون هذا الانسحاب محاولة للتنصل والتبرؤ مما حدث من التطورات الأخيرة، خصوصًا وأن وزير الكهرباء المستقيل “ماجد حنتوش” كان قد حمل التيار الصدري مسؤولية فشل عمل الوزارة من خلال سيطرة شخصيات مقربة من الصدر نفسه على عقود الكهرباء وأمور إدارية أخرى تتعلق بالوزارة.
كما أن تأجيل الانتخابات سيحقق للصدر إعادة توازن قواعده في الشارع خاصةً أن المفوضية كانت قد عقبت على إعلان الصدر بإن باب الانسحاب قد اغلق. ومن يقرأ المشهد العراقي سيعرف أن زعيم التيار الصدري  كان قد تراجع مراراً وتكراراً عن قرار انسحابه من الخوض بغمار العملية  السياسية.
من جانب آخر فإن تأجيل الانتخابات قد يصب بمصلحة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في خلق فرص جديدة من شأنها تعديل وإجراء تغييرات في العملية السياسية، رغم تأكيداته المستمرة والمفوضية على إجراء الانتخابات بموعده المبكر، لكن التأجيل يعطيه مدة اطول لإثبات قدراته أمام الشارع وإنعاش حظوظه في ولاية أخرى من خلال إظهار نفسه كشخصية مستقلة بعد انسحاب تيارات سياسية مقربة منه من المشاركة في الانتخابات كـ “المرحلة” و “الازدهار”. ودائماً ما يسعى السيد الكاظمي إلى طرح نفسه كرجل دولة يحارب من أجل حصر السلاح بيد الدولة، وهذا الملف بالإمكان القول أنه الأكثر حساسية في المشهد العراقي.
يُضاف إلى أن العلاقة مع التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر تشهد مغازلات مستمرة، فيصفه الكاظمي في أكثر من مناسبة على أنه زعيم المقاومة العراقية وسيدها؛ لكسب الود أمام مرأى ومسمع القوى الشيعية الأخرى التي تعد نفسها ضمن محور المقاومة الذي تقوده إيران.
لذلك فقد تجتمع رغبتا (الصدر والكاظمي) نحو تأجيل الانتخابات معللين ذلك غياب البيئة الانتخابية المناسبة وعدم ضمان أمن المرشحين والناخبين وتحديات أمنية عديدة، من أجل إعادة التموضع والتوازن على المستويين السياسي والشعبي، وبالتالي تحقيق مكاسب انتخابية كبيرة، ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام القوى الأخرى، فقد يأخذ قرار التراجع عن المقاطعة بعد إعلان المرشحين الانسحاب أمام قواعدهم الشعبية وإحراق بعض أنصار الصدر لبطاقاتهم الانتخابية، وتعويض الفترة الضائعة من الدعاية الانتخابية زمناً لإعادة ضخ الجمهور بضرورة المشاركة في الاستحقاق الانتخابي القادم.

زر الذهاب إلى الأعلى