فوضى ما بعد الانتخابات، في أي اتجاه يسير العراق؟

يشهد العراق تصاعداً في وتيرة الفوضى السياسية والقلق الأمني بعد مضي شهر على انتخابات العاشر من تشرين أول، آخرها استهداف منزل رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي فجر الأحد الذي أحدث هزة في الساحة العراقية بيّنت حجم أزمة الانسداد السياسي وتفاقم حالة عدم الاستقرار.
على الرغم من إشادة المراقبين الدوليين ومباركة مجلس الأمن الانتخابات الأخيرة وإجراءات عمل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، طعنت قوى سياسية بشرعيتها ونتائجها وعدّتها احتيالًا على إرادة الناخب بل ذهب بعضها إلى الإقرار بوجود مؤامرة إقليميّة – دوليّة بدوافع معينة لإبعاد بعض القوى وتمكين طرف على آخر.
 سجلت الانتخابات العراقية الأخيرة ظواهر عديدة تكشف عن حالة التحول السياسي والاجتماعي التي يمر بها العراق منذ احتجاجات تشرين أول/2019؛ فمع دعوات المرجعية العليا التحفيزية وبياناتها للمشاركة في الاقتراع والتي وصفها لاحقاً مكتب السيد علي السيستاني بـ”الجهاد الانتخابي، و فتوى جهاد الإصلاح والتغيير”، بالإضافة إلى تكبيرات المساجد التي صدحت في المناطق ذات الوجود السني تدعو فيها الناس للمشاركة، شهدت الانتخابات أقل نسبة تصويت منذ عام 2005 بواقع 41%، في الوقت الذي توقع فيه الكثيرون زيادة النسبة بعد أن شهد الاقتراع الخاص -قبل يومين من الاقتراع العام- إقبالاً بنسبة 69% وصفته مفوضية الانتخابات بالمشجع وسط أجواء تميزت بالمرونة وسلاسة الإجراءات، بالإضافة إلى قرار اللجنة الأمنية العليا بعدم فرض حظر التجول والسماح للمركبات بالمسير وسط تشديد أمني وانتشار لقوات الأمن لتذليل كافة الصعوبات أمام الناخبين وحمايتهم. لكن الإقبال الضعيف في الاقتراع العام حتى منتصف نهار الأحد دفع بكبيرة مراقبي بعثة الاتحاد الأوروبي “فيولا فون كرامون” خلال تصريح صحفي إلى القول بأن فريقها لاحظ نسبة مشاركة ضئيلة مضيفةً أن “هذه إشارة سياسية واضحة، وليس لنا إلا أن نأمل بأن تلتفت النخبة السياسية إلى ذلك على الرغم من الآمال التي كانت مرجوة بأن تشكل هذه الانتخابات منعطفاً في المسيرة الديمقراطية، وأيضا بيان بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) الذي أشار إلى أن الإقبال كان “مخيبًّا للآمال بالنسبة للكثيرين”.


صدمة النتائج: 
بعد إسدال ستار اليوم الانتخابي، وصلت نسبة المشاركة في الاقتراعين الخاص والعام ما نسبته 43% -بحسب المفوضية-، وأشارت النتائج الأولية إلى أن الكتلة الصدرية التي يتزعمها رجل الدين الشيعي “مقتدى الصدر” حازت على 73 مقعداً، سنيًّا حصد تحالف تقدم الذي يترأسه رئيس البرلمان العراقي السابق “محمد الحلبوسي” 38 مقعداً، أما كرديًّا فقد حاز الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يترأسه مسرور بارزاني على 33 مقعداً.
قبل التطرق إلى ما حدث بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات من قبل المفوضية، تجدر بنا الإشارة إلى الوقوف عند بعضها وقراءة بعض المؤشرات. فقد كان متوقعاً أن تحوز الكتلة الصدرية على أعلى نسبة من المقاعد نظرًا لجمهورها المنظم الذي قابله عزوف كبير عن الانتخابات من قبل قوى شعبية و للإرث الديني الرمزي لعائلة آل الصدر التي تحظى بقاعدة واسعة من الجمهور الشيعي خاصة في تلك المناطق المعدمة والفقيرة التي يشرف عليها التيار، لذلك يرى بعض الجمهور مقتدى الصدر بديلًا عراقيًّا عربيًّا عن القوى اليمينيّة الشيعية الأخرى، خاصة وأن الفترة الأخيرة التي سبقت الانتخابات كانت سرايا السلام الجناح العسكري للتيار الصدري تعمل بمعزل عن بقية الفصائل المسلحة الأخرى المتهمة بولائها إلى خارج الحدود كما أنها لم تشارك في الاستعراض العسكري الذي نظمه الحشد الشعبي في حزيران الماضي في إشارة إلى حجم الخلاف بين سرايا السلام وفصائل الحشد الشعبي الأخرى. قابل هذا الاكتساح صعود لافت لألد خصوم الكتلة الصدرية ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بعد أن حاز 35 مقعدًا، وهو الذي لم يدخر جهدًا خلال حملته الانتخابية بالتذكير بحملة صولة الفرسان الأمنية التي قادها  ضد أتباع الصدر عام 2008، وما قد يفسر هذا الصعود اللافت هو أن المالكي يُظهر نفسه دائماً كرجل الدولة الشيعي والقادر على ضبط البلاد داخليًّا وقدرته على إدارة علاقات العراق خارجيًّا، فبالإضافة إلى كونه حليفًا لإيران فإنه يروج لنفسه على أنه الطريق لمد جسور التواصل بين طهران وواشنطن خاصةً بعد تسلم إدارة بايدن، كما أن إدارته للدولة لثماني سنوات 2006 – 2014 جعلته متغلغلاً في مفاصلها، وفي ظل صعود مؤشر البطالة في العراق فإن البعض حتماً سيتذكر المالكي والتي شهدت فترته انتعاشاً لقطاع الموظفين الحكوميين.  
لكن الصدمة الحقيقية للبيت الشيعي هو الانهيار غير المتوقع الذي لحق بتحالف الفتح الجناح السياسي للعديد من الفصائل المسلحة المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي أو تحت محور المقاومة الذي تقوده ايران في المنطقة فقد خسر التحالف ما يزيد على 30 مقعدًا بعد أن حاز على 16 مقعداً، وما زاد من هول الصدمة حركة حقوق المنبثقة من كتائب حزب الله العراق أقوى الفصائل المسلحة داخل العراق التي حازت على مقعد واحد فقط، ولعل القول بأنها صدمة تعود لعدة أسباب منها، أن هذه القوى السياسية لديها عنصر القوة المسلحة والمال والسلطة في الدولة العراقية، إلا أن هذا السقوط المدوي قد تعود أسبابه بشكل مباشر إلى اتهام العديد من قيادات الفصائل المسلحة بالوقوف وراء إعطاء الأوامر باغتيال أكثر من 600 متظاهر وجرح الآلاف خلال المظاهرات التي شهدها العراق مع بداية تشرين/2019، ومن خلال مراقبة الحملات الانتخابية فإنها أكثر الأطراف تبنيًّا للخطاب الهوياتي والذي يبدو أن هذا النوع من الخطاب لم يعد مجديًّا كفاية لإقناع الشارع الشيعي كما في السابق، كما أنها تعترف صراحة بعلاقاتها مع جارة العراق الشرقية إيران حتى أن بعضها عقائديًّا يقلد الولي الفقيه وليس المرجع الأعلى في النجف. على ما يبدو أن هذه الصدمة جعلتنا نتناسى قليلاً مفاجأة تحالف قوى الدولة الوطنية برئاسة (حيدر العبادي زعيم كتلة النصر، وعمار الحكيم زعيم تيار الحكمة) والذي حاز على 5 مقاعد فقط، في حين أن التوقعات كانت تشير إلى صعود كبير لتيار الحمائم الشيعي على حساب الصقور والتيار الصدري وهو ما لم يحدث في الانتخابات.
يبدو أن لعنة احتجاجات تشرين أصابت العديد من القوى السياسية الشيعية المتجذرة في النظام السياسي العراقي، ويبدو أن الشارع العراقي بشكل عام اختار معاقبة هذه القوى إما في ما يسمى بالتصويت العقابي وإما من خلال عدم الذهاب إلى الانتخابات.   
سنيًّا، لم يكن مستبعدًا أن يحوز تحالف تقدم الذي يقوده محمد الحلبوسي على أصوات الشارع السني على حساب تحالف عزم الذي يقوده رجل الأعمال خميس الخنجر خاصة وأن الحلبوسي أبرز نفسه كمهندس للإعمار في المحافظات المنكوبة بعد أن تحررت من قبضة تنظيم الدولة “داعش” ، لكن ماكان ملفتًا أن قوىً سنيّة تقليديّة كانت مسيطرة على الساحة السنية لم تحز على أية مقاعد كما جرى مع متحدون بزعامة أسامة النجيفي والحزب الإسلامي العراقي الذي انضوى تحت تحالف العقد الوطني الذي يترأسه فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي.
كرديًّا، استطاع الحزب الديمقراطي الكردستاني أن يحقق قفزة كبيرة بالنتائج بعد أن حاز على 33 مقعدًا فيما يبدو أن الخلافات الداخلية التي يشهدها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني من نزاع بين قطبيه لاهور وبافل طالباني أثر بشكل واضح على نتائجه بعد أن حاز على 17 مقعد، كما أن هذا الخلاف تسبب بسقوط حليفه حركة التغيير (غوران) بعدم الحصول على أي مقعد.

  
صعود قوى جديدة:
على الرغم من أن تقسيم الدوائر الانتخابية استغرق قرابة 11 شهراً لقيام القوى التقليدية في البرلمان بعملية هندسة الأصوات بحسب مناطق نفوذها قبل أن يصادق رئيس الجمهورية على قانون الانتخابات الجديد، ودعوة معظم قوى الاحتجاج إلى مقاطعة الانتخابات بالإضافة إلى استشراء المال السياسي الذي لا رقابة قانونية عليه، إلا أن صعود قوى جديدة منبثقة عن الاحتجاج يطرح سيناريو احتمالية تغيير المعادلة السياسية بعد تشكيل الحكومة المقبلة خاصة و أن هذه القوى رفعت مقدماً لواء المعارضة في البرلمان رافضة أن تكون جزءًا من المحاصصة الحزبية والطائفية -على حد قولها-.  
حازت القوى المنبثقة عن حراك تشرين و القريبة من شعاراتها على الرغم من الإمكانات الخجولة في الدعاية الانتخابية على 15 مقعدًا (9 حركة امتداد، 6 اشراقة كانون)، وهذا لا يشمل النواب المستقلين الذي أعلن بعضهم مؤخراً عن تشكيل ما يسمى نواة الكتلة الشعبية المستقلة وهي تضم نوابًا مستقلين بعضهم محسوب على الحراك الاحتجاجي، وبحسب تصريحات النواة الأولية فإن ملف قتل المتظاهرين يعد أولوية بالنسبة لها. كما أن حراك الجيل الجديد الناقم على القوى الكردية التقليدية استطاع الحصول على 9 مقاعد في محافظات إقليم كردستان ولعل هذا أحد المؤشرات المهمة خاصة وأنه فتح باب التفاهمات مع القوى والنواب المستقلين المحسوبين على تشرين الأمر الذي قد يسفر عن تشكيل معارضة وطنية داخل مجلس النواب العراقي.


مؤشرات حول نسبة الاقتراع والنتائج الأولية:
دفع حراك تشرين/2019 موجة تحول كبيرة ظهرت إلى حد ما في هذه الانتخابات، فالشارع انقسم بين من يرى أنه لا جدوى من المشاركة و لا من النظام السياسي، وبين من يرى أن إصلاح واقع البلاد لا يأتي إلا من خلال صناديق الانتخابات.  
وعلى الرغم من هندسة الأصوات من قبل القوى التقليدية في البرلمان خلال تقسيمها للدوائر الانتخابية ودور المال السياسي الذي دائماً ما يكون مؤثرًا لكن شهدت العديد من القوى انتكاسة كبيرة، حتى أن صعود التيار الصدري كان على إثر المقاطعة الكبيرة مستغلاً تنظيمه الجماهيري؛ فزعيم التيار الذي يعد نفسه رجل الإصلاح كان قد انقلب في وقت سابق على احتجاجات تشرين وتسبب بصدامات بين أنصاره والمتظاهرين.
 بدا واضحًا أن المسألة الطائفية بدأت تتقلص وأن الخطاب الهوياتي لم يعد مؤثرًا كما السابق، لذلك فقد اعتمدت العديد من القوى السياسية على المرشحين ذوي الانتماء العشائري بل بعضها لم يحز على مقاعد لولا أن رشح وجوهًا عشائرية، وما يعزز من صحة هذه الرؤية هو الحضور اللافت للنواحي والقرى إلى مراكز الاقتراع والذي فاق بكثير حضور أهالي المدن للتصويت.
ومن المؤشرات اللافتة هو أن تأثير المؤسسات الدينية في العراق بالمقارنة مع جميع الانتخابات السابقة شهد تراجعًا، فمع فتوى الجهاد الانتخابي من مرجعية النجف وبيانات المجمع الفقهي في جامع أبي حنيفة ببغداد إلا أن العراق سجل أقل نسبة مشاركة في الاقتراع الانتخابي هذا إذا ما غض الطرف عن صحة نسب التصويت التي شكك بها كثيرون والطريقة التي حسبت بها مفوضية الانتخابات نسبة التصويت.  
كما أن الصعود المفاجئ لقوى جديدة سواء من الكتل أو المرشحين المستقلين بعد أن كان متوقعاً أن لا تحوز سوى مقاعد محدودة هو مؤشر مهم أيضًا على توجه الشارع إلى المسير بعكس اتجاه الحرس القديم، كما قد تعكس النتائج عدم رغبة الشارع بوجود قوى سياسية تنتمي إلى خارج الحدود.


لم تمر 48 ساعة على إغلاق صناديق الاقتراع حتى خرجت بيانات الإطار التنسيقي الشيعي للقوى السياسية متهمة بوجود تلاعب في الأصوات وفبركة، كذلك الأمر مع ما يعرف بالإطار التنسيقي للمقاومة العراقية المنضوية تحت محور المقاومة والتي أبدت جاهزيتها للدفاع عن الإبقاء على هيئة الحشد، وهنا مربط الخيل فبعد إعلان النتائج الأولية في عدة محافظات وتفوق الكتلة الصدرية خرج زعيمها مقتدى الصدر بكلمة متلفزة استهل كلمته بالقول: “يجب حصر السلاح بيد الدولة”، وهذه إحدى الخطوط الحمراء بالنسبة للفصائل المسلحة وأجنحتها السياسية التي باتت تفكر باستنساخ تجربة الحرس الثوري في إيران كمؤسسة عسكرية مستقلة بحد ذاتها وحزب الله في لبنان بتجربته السياسية إلى جانب عمله المسلح، في حين يقف مقتدى الصدر إلى جانب حل الحشد و دمجه في القوات المسلحة.  
بعد إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وكلمة مقتدى الصدر المتلفزة بدأت الأمور تزداد تعقيدًا وشهد الإطار التنسيقي الشيعي الذي يضم ائتلاف دولة القانون وتحالف الفتح حركة حقوق وقوى سياسية شيعية أخرى انضمام ما يعرف عنه بتيار “الحمائم” قوى الدولة الوطنية ليصبح في بوتقة واحدة ويقف إلى صف المعترضين مع تيار “الصقور” في البيت الشيعي على نتائج الانتخابات.
أصدر الاطار بيانات شديدة اللهجة أثارت حفيظة الكثيرين بعد أن تطرق بيانه للأحداث الجارية مشيراً إلى أن عدم تدارك الموقف من قبل المفوضية يعرض “السلم الأهلي” للخطر ما عدها البعض تهديدًا إلا أن الإطار استدرك نفسه و استبدل السلم الأهلي في بيانه التالي بـ “الوفاق المجتمعي”.
شهدت صدمة النتائج زيارة سرية لـ إسماعيل قآاني قائد فيلق القدس الإيراني و محمد كوثراني القيادي في كتائب حزب الله اللبناني، في محاولة للوقوف على حيثيات الموقف ولملمة البيت الشيعي الذي يعاني حالة من التشظي بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس بمحيط مطار بغداد مطلع العام 2020، إلا أن الأحداث الجارية حتى الآن توحي بالعجز عن تنفيذ المهمة، فإن كانت بعض الأحزاب الشيعية اليمينية بفصائلها المسلحة تتفق في الهدف الاستراتيجي إلا أنها باتت تختلف في التكتيك، وهذه إحدى نتائج ما بعد حادثة مطار بغداد.

  
أغلبيّة أم توافقيّة؟
يسعى مقتدى الصدر من خلال تسخير كافة إمكانيات الكتلة الصدرية إلى تشكيل حكومة أغلبية وليس توافقية كما جرت العادة، وأبدى الصدر منذ البداية رغبته بأن يكون رئيس الوزراء القادم إما من أبناء التيار الصدري أو شخصية يختارها التيار، تقف في مقابل هذه الرغبة القوى الشيعية الأخرى التي منيت بخسارة فادحة لم تكن تتوقعها، وتسعى إلى تكرار سيناريو التسوية السياسية المعتاد عبر تشكيل حكومة توافقية، وهذا هو محور الصراع في البيت الشيعي الآن، إذ تدفع قوى الاطار التنسيقي الشيعي بهذا الاتجاه واستخدمت عدة مناورات سياسية وتحركات شعبية آخرها المظاهرات التي شهدت تطورات خطيرة بين المتظاهرين وقوات الأمن و سنشير إليها لاحقًا، كما أنها قامت بالزج بنوري المالكي إلى المقدمة عبر بعض تصريحات قيادييها على أن المالكي هو المرشح المقترح لتشكيل الحكومة. ما تخشاه القوى الشيعية الأخرى هو أن تقوم الكتلة الصدرية بالتحالف مع الكتل الفائزة في المكون السني والقومية الكردية وبالتالي تشكل الكتلة تحالفًا برلمانيًّا قادرًا على تحديد رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة بمعزل عن القوى الأخرى التي ستتحول إلى قوى معارضة، وهذا السيناريو هو بمثابة انتحار سياسي لأن القوى الأخرى ترفضه رفضًا قاطعًا، كما أبدت في أكثر من مناسبة رفضها أيضاً أي تسوية تقضي استكمال مهمة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى ولاية اخرى. لعل ذلك لا يعود إلى النتائج التي أعلنتها المفوضية فحسب، بل إلى الخصومة السياسية بين التيار الصدري والقوى الشيعية الأخرى التي تسبق الانتخابات آخرها إرغامه على عدم تأجيل الانتخابات، حتى أن بعض القوى الشيعية اليمينية كانت عازمة على تحديد هوية رئيس الوزراء بمعزل عن التيار الصدري، لكن النتائج غير المتوقعة قلبت المعادلة.

مستجدات أمنية مقلقة…
بشكل عام لم تشهد عملية الاقتراع خروقات أمنية سوى مقتل ضابط عراقي برصاص قناص في كركوك، لكن ذلك لم يمنع السلطات العراقية من الإعلان عن نجاح خطتها الأمنية. رافق ذلك النجاح إعلان الكاظمي قيام جهاز المخابرات بعملية أمنية خارج الحدود أسفرت عن القبض على مشرف المال لتنظيم داعش ونائب أبو بكر البغدادي.
لكن سرعان ما تبدد ذلك النجاح، بعد خرق أمني هدد السلم الأهلي وقع في قرى مدينة المقدادية التابعة لمحافظة ديالى أسفر عن مقتل 11 شخصًا من قرية الرشاد ذات الأغلبية الشيعية على يد تنظيم الدولة “داعش”، اتهمت فصائل مسلحة بمسؤولية قرية نهر الإمام -المجاورة لقرية الرشاد- ذات الاغلبية السنية بالتواطؤ مع التنظيم لتنفيذ العملية. ما دفع باتجاه القيام بهجوم انتقامي على أهالي قرية نهر الامام وارتكاب إعدامات ميدانية وتهجير الأهالي قسراً وجرف العديد من المنازل على غرار ما قامت به هذه الفصائل في ناحية جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل بعد تحريرها من قبضة تنظيم “داعش”، في أحداث بمجملها وصفت بالطائفية أعادت الأذهان إلى الصراع الأهلي والأزمة الهوياتية التي تفجرت في عهد الحكومات العراقية السابقة.
وما فاقم الأزمة تلك المواجهات التي شهدتها بوابة المنطقة الخضراء بين جماهير قوى اليمين الشيعية -تحديداً- التي ترفض نتائج الانتخابات ونتائج المفوضية وعناصر قوات الأمن العراقية، أسفرت عن إحراق خيم المعتصمين  وإصابات من الجانبين كما شهد إطلاق نار أدى إلى سقوط قتلى وجرحى من كلا الجانبين. الأمر الذي جعل بعض القوى الرافضة للنتائج تستشيط غضبًا وتتهم الكاظمي بمسؤوليته وراء سقوط قتلى وجرحى، كما وجه بعضها تهديدًا مباشرًا بالثأر من رئيس الوزراء، والتأكيد على استمرار الاعتصام أمام المنطقة الخضراء المحصنة.
فجر الأحد استهدفت طائرات مسيرة منزل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، تقول رويترز نقلاً عن مسؤولين أمنيين عراقيين أنها إيرانية الصنع. وسط إدانات داخلية وبيانات شجب واستنكار إقليمية دولية اعتبرت بعض القوى الخاسرة في الانتخابات المنبثقة عن فصائل مسلحة أن الحادثة لم تكن سوى مسرحية قام بها رئيس الوزراء من خلال فك الأزمة بأزمة و التغطية على ما جرى مع المعتصمين أمام بوابة المنطقة الخضراء.
لكن يبدو أن الاستهداف أخذ أبعادًا أكبر من ذلك بكثير بعد الشجب والاستنكار الدولي، والذي دفع اسماعيل قاآني إلى زيارة العراق ولقائه بالكاظمي وبرئيس الجمهورية برهم صالح للتعبير عن استنكاره لحادثة الاستهداف ونقل رسالة مفادها أن ايران ترفض هذا الاستهداف وجرى دون علمها.

  
اتفاق على خفض التصعيد:
استطاعت حادثة استهداف منزل الكاظمي فتح باب لبداية حوار سياسي بين الفرقاء نتج في بدايته الاتفاق على التهدئة وخفض التصعيد وترك الأمور لحكم القضاء بقضيتي الاعتداء على المتظاهرين والهجوم على منزل رئيس الوزراء. وعلى الرغم من أن القوى الشيعية ذات الذراع المسلح نفت مسؤوليتها عن الحادثة إلا أن حجم التضامن الدولي شكل ضغطًا هائلًا دفع الإطار التنسيقي الشيعي إلى الاجتماع مع الكاظمي وصالح ورئيس السلطة القضائية  لشجب الحادثة والدعوة إلى التهدئة، واستخدام بعض الفصائل المسلحة سردية جديدة  تقول أن هنالك احتمالية وجود طرف ثالث “اسرائيلي – امريكي” هو من قام بعملية الهجوم على منزل رئيس الوزراء في استغناء تدريجي عن كون ما جرى عبارة عن مسرحية أشرف على كتابتها الكاظمي.
لكن ما كان ملفتًا هو إصرار التيار الصدري على عدم الحضور في اجتماع الإطار التنسيقي الشيعي، وإصراره حتى الآن على تشكيل حكومة أغلبية. على الرغم من أن التسريبات التي خرجت من اجتماع مقتدى الصدر مع محمد الحلبوسي زعيم تحالف تقدم الذي حل ثانيًا بعدد المقاعد تفيد بأن الأخير يرى بأن تحديد هوية رئيس الوزراء لاتتم إلا عبر وجود الإطار التنسيقي الشيعي، كذلك تحدثت التسريبات عن أن الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي حل رابعًا يتبنى ذات وجهة النظر، وهو ما أغضب الصدر وقطع زيارته في بغداد عائدًا إلى الحنانة مقر إقامته في النجف.

خلاصات:  
ما يشهده البيت الشيعي من أزمة صراع سياسي هو بسبب العرف الذي يقضي بأن يكون رئيس الوزراء من المكون الشيعي تحت ما يسمى بـ”الاستحقاق الديموغرافي” ويبدو أن المكونات الأخرى باتت مقتنعة بهذه التقسيمة، على الرغم من أن مطالبات الشارع -التي جرت الانتخابات المبكرة تنفيذًا لمطالبه- كان من أولوياتها إنهاء حالة التطييف السياسي وعدم الاستمرار بجر العراق إلى نموذج النظام السياسي في لبنان.
حتى الآن يبدو أن الطريق وعر للغاية أمام زعيم التيار الصدري ليفي ما وعد به جماهيره بتشكيل حكومة أغلبية، فيبدو أن الطرح الذي يتبناه الصدر لا يتوافق مع القوى السياسية الشيعية الأخرى سواء على مستوى شكل الحكومة المقبلة، أو  في قضية دمج الحشد الشعبي بالمؤسسات الأمنية الرسمية وما استفز هذه القوى إعلان الصدر مؤخراً تجميد عناصر سرايا السلام في عدد من المحافظات كبادرة لتنفيذ مشروعه ما وضع هذه القوى في زاوية ضيقة وبموقف محرج. وحتى قضية رفض الصدر للتدخل الإقليمي، تعد مشكلة بحد ذاتها فالعامل الإقليمي له ظلال ثقيلة للغاية على المشهد العراقي بل يتحكم كثيرًا بمجرياته. كما أن الدفع المستمر بالمالكي إلى الواجهة قد لا يكون سوى محاولة لإرغام الصدر على سحب مرشحه واختيار مرشح توافقي.
على الرغم من الاتفاق على التهدئة وخفض التصعيد مع الكاظمي، إلا أن القوى الشيعية بشكل عام لا ترغب بالتمديد للكاظمي لولاية ثانية، بل حتى عودته إلى منصبه القديم كرئيس لجهاز المخابرات؛ وهذا يعود إلى الأزمات السياسية المتراكمة التي شهدتها حقبة حكم الكاظمي، وإلى الخصومة الشخصية بين بعض الفصائل المسلحة ورئيس الوزراء، فهو المتهم بالمشاركة بعملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس والتي تسببت لاحقاً بحالة التشظي التي يشهدها البيت السياسي الشيعي، كما أن العلاقة مع الكاظمي مرت بأزمات واستفزازات من كلا الطرفين منها اعتقال عناصر من حزب الله العراق في ما عرف بخلية البو عيثة واعتقال قاسم مصلح القيادي الكبير في الحشد الشعبي والذي أدى اعتقاله إلى تطويق المنطقة الخضراء بعد اتهامه باغتيال الناشط إيهاب الوزني.
 لكن أمام هذه الخلاصات يبقى السؤال الأهم، إلى أين ستفضي الصفقة الأمريكية – الإيرانية؟ وما هي تداعياتها على الحكومة العراقية المقبلة؟ 
 
سيناريوهات
على الرغم من الاجتماع الذي خرق حالة الجمود بين الكاظمي وقوى الإطار التنسيقي الشيعي إلا أن الاتفاق على خفض التصعيد اقتصر على الصعيدين الاحتجاجي والاعلامي لكن تبقى أزمة تشكيل الحكومة المقبلة مستمرة، وهذا يطرح عدة سيناريوهات في ظل طعن قوى الإطار التنسيقي الشيعي بنتائج الانتخابات:  
1-إعادة الانتخابات وإقامتها في موعدها الدستوري الأصلي في أبريل/نيسان 2022، وهذا ما طالبت به قوى شيعية من الإطار التنسيقي.
2-إعادة العد والفرز اليدوي لكافة النتائج في 56 ألف محطة، لكن ما يعيق من هذا السيناريو هو أن القانون لا يجيز إعادة العد والفرز اليدوي لجميع المحطات الانتخابية. 
كما أن السيناريو الأول والثاني قد يفضي إلى أزمة جديدة، لعدم قبول القوى التي حققت نتائج كبيرة في الانتخابات بالاستغناء عن نتائجها.   
3-نجاح مقتدى الصدر في تشكيل حكومة أغلبية، وحتى اللحظة يبدو أن هذا السيناريو مستبعدًا في ظل عدم اعتراف القوى الخاسرة بالنتائج.
4-نجاح قوى الإطار التنسيقي في الضغط على الكتلة الصدرية (مقتدى الصدر) لتشكيل حكومة توافقية، وقد يكون السيناريو الأقرب لإنهاء أزمة الانسداد السياسي ولملمة البيت الشيعي.

زر الذهاب إلى الأعلى