وباء كورونا.. أين أخطأنا؟ وأين نحن الآن؟ وما العمل؟

لم يكن أشد المتشائمين يتوقع ان ينتقل المرض الذي أعلنت عنه الصين بعد صيف عام 2019 إلى وباء، ثم يتحول إلى جائحة تتسبب بفوضى عالمية كالتي نعيشها الآن
كانت هناك مقدمات وتنبيهات كثيرة على مدار الأعوام الماضية ولكنها لم تتطور للدرجة التي وصل لها فايروس كورونا-19 المستجد. 

كثيرون كانوا يبنون توقعاتهم على أساس الأرقام التي تعلنها الصين، وهذا ما دفع الكثيرين من المتخصصين إلى عدم التخوف والتجهيز لما حصل. العالم كله لم يكن جاهزاً للتصرف عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الوباء تحول من مرض متسارع الانتشار محلياً إلى جائحة متسارعة الإنتشار عالمياً. 

في الجوائح لا أحد يربح، ولكن يكون الهدف تقليل الخسائر. ولأن العالم اصبح خلال العقود الماضية متقدماً صحياً، نتجت قناعات عامة عند الناس ان العدوى يمكن السيطرة عليها ويمكن التعافي منها بسهولة، ولكن هذه ليست الحقيقة واقعياً. 

من الصعب إقناع المجتمعات بشكل سريع بأن هناك فرقاً شاسعاً بين الوقاية الشخصية وبين الاستعداد الطبي للتعامل مع الإصابات. مهما كان الاستعداد الطبي متقدماً فهو لن يمنع الإصابة، ولكنه قد يخفف من تدهور الأعراض وتطورها إلى مراحل متقدمة. وعليه فإن أهم عاملٍ في الخروج من الجائحة بأقل الخسائر هو الوقاية الشخصية.

ماذا حصل في الأردن؟

بعد ان أعلنت منظمة الصحة العالمية ان الوباء تحول إلى جائحة، اجتمعت لجنة الأوبئة المشكلة في وزارة الصحة و بدأت بشكل جدي بدراسة توصيات منظمة الصحة العالمية، وأصدرت العديد من التوصيات لوزير الصحة صاحب السلطة في اتخاذ القرارات الصحية وعرضها أمام مجلس الوزراء. اتخذت الحكومة الأردنية لاحقاً العديد من القرارات ومنها إيقاف الرحلات الجوية وإغلاق المطار وحجر القادمين من الخارج، وتعطيل المدارس والجامعات. ورغم سرعة استجابة الحكومة في ذلك الوقت إلا أن المختصين كانوا يخشون أننا تأخرنا لأيام قليلة، وهذا ما حصل عندما تم اكتشاف وصول أردنيين مصابين قبل قرار الحجر بيومين، وشاركوا بمناسبة عائلية نتجت عنها بؤرة الإصابات الأولى والتي كانت مصدر قلق شديد. 

كانت استجابة المواطنين للحظر بشكل عام ممتازة مقارنة بالعديد من الدول في العالم، ورغم أن التوعية بأن الحظر يشمل عدم التجمع في البيوت وعدم مخالطة الأقارب لأنه قد يكون أحدهم مصاباً، إلا أن الالتزام بهذه النقطة كان ضعيفاً بشكل عام. 

تضرر القطاع الخاص بشكل كبير في الحظر، وتعطلت الخدمات الصحية بشكل عام في المملكة، وحدث بعض التململ وحصلت بعض الأخطاء في تجربة الحظر الأولى، والتي سأذكرها بعد أن أؤكد انه وبالعودة الى ذلك التاريخ، فإن قرار الحظر كان هو القرار الأصوب في الحالة الأردنية بسبب عدم معرفتنا بالفايروس وعدم جاهزيتنا الصحية وبسبب عاداتنا الاجتماعية. 

أين اخطأنا؟

هناك أخطاء متراكمة واخطاء مباشرة.

الأخطاء المتراكمة:

1-    تدهور الحالة الاقتصادية للدولة الأردنية ولكل مكونات القطاع الخاص وعمّال المياومة.

2-    الضغط الكبير على المرافق الصحية الحكومية وضعف الاستعداد.

3-    ضعف الثقافة التوعوية وضعف وسائل تعليم الوقاية من الأمراض. 

الأخطاء المباشرة:

1-    لا يمكن للحظر الشامل ان ينجح دون تعاون جميع مكونات الدولة بما فيها المتطوعون من النقابات ومؤسسات المجتمع المدني المتخصصة. وأبرز خطأ وقعت فيه إدارة الأزمات في بداية الجائحة أنها حيدت كل الجهود التطوعية لمساعدة أذرع الدولة في تقديم الخدمة. الدولة اتخذت قراراً بأن تتبع النظام الأبوي في الحظر، ولكن لم تكن عندها الأذرع الكافية لتطبيق ذلك، فانعكس الأمر في أول انعكاساته في حادثة توزيع الخبز.

2-    التطمين بدل التحذير: تختلف اعداد الحالات التي يتم تشخيصها عن الحالات الموجودة على ارض الواقع ولا يمكن تشخيصها. وقد بالغت الحكومة بالاحتفال بصفرية الأعداد المشخصة مخبريا بدل أن تبالغ في توعية الناس أن العدد صفر هو حالة يومية وليست حالة دائمة، بمعنى أننا قد نفقد السيطرة في أي لحظة تتسرب فيها حالة إصابة لا نستطيع تشخيصها ولا تلتزم التباعد، فالعدوى ستنتقل منها إلى 2 على الأقل، وكل واحد سينقل العدوى لاثنين آخرين، وهكذا تبدأ سلسلة الأرقام بالتصاعد لتصل إلى ما نحن فيه الآن.

3-    وزير الصحة: رغم أنه من المتميزين في تخصصه، إلا أنه لم يكن الرجل المناسب لإدارة الأزمة من ناحية صحية. حيّد كل الخبرات الصحية للكوادر الوطنية ولم يستجب لأغلب المقترحات. وكان خلافه مع نقيب الأطباء سبباً في اتخاذه لقرار بإغلاق مجمع النقابات وإيقاف عمل فرق التطوع فيه. ولاحقاً امتد الخلاف إلى تهميشه لتوصيات لجنة الأوبئة التي كانت أول من نبهه إلى خطورة الجائحة، وانتهى الأمر إلى تحييد أغلب الكفاءات الصحية عن المشهد، ما جعل تقييم المشهد صحياً منوطاً بالوزير فقط، وهذا خلل كان يجب عدم الوقوع به. كما أن الاستمرار بالتفكير بالحالة الصفرية أعاق التخطيط اللازم للموجة التي كان من المتوقع انها ستجتاح العالم من جديد في حال لم يتم اكتشاف مطعوم، وها هي قد اجتاحت من جديد، ولم يكن تم تدريب كوادر صحية وشراء خدماتها استعداداً لحالة الطوارئ التي نعيشها حالياً.

4-    تمديد فترة الحظر دون تطوير الأساليب : أغلب المتخصصين الصحيين ( رغم تراجع بعضهم الآن ) كانوا من أشد المتحمسين للحظر في بداية الجائحة، ولكن كان الخلاف على مدة الحظر. الحكومة مددت الحظر لفترة أطول من المطلوب من باب الاحتياط، ولكنها لم تستثمر في نفس الوقت في تحذير الناس من أن أي تراخي شخصي او حكومي سيؤدي لموجة أقوى بكثير من سابقتها.

5-    فتح المعابر دون توثيق خطوات الرقابة: لا شك أن الثغرة التي جاءتنا منها هذه الموجة كانت من المعابر، وهذا متوقع طبعاً لأن الانفتاح لا يمكن إلا أن يرافقه تسرب في الحالات حتى لو كان هناك تشدد. لأن جزءاً من الحالات لا تظهر عليها الأعراض وتكون مصابة ويكون فحصها سلبياً (بحسب بعض الدراسات تصل نسبة السلبية الخاطئة في أفضل الفحوصات إلى 30% من العينات ). ترافق فتح المعابر مع دخول اعداد كبيرة من الحالات التي لم يتم تشخيصها في بعض الأحيان ولم يتم فحصها أصلاً في أحيان أخرى، وابتدأ سيناريو الموجة الحالية في التطور، ولم يتبع ذلك تشديد حقيقي من الحكومة على الالتزام بالكمامات والتباعد، وانتهى الأمر الآن إلى هذه الأعداد التي نكتشفها كل يوم، وقطعاً أضعافها من التي لا نكتشفها.  

أين نحن الآن؟

نحن في منتصف الموجة الكبرى الأولى محلياً، الثانية إقليمياً وعالمياً. العالم كله يشهد ازدياداً في أعداد الحالات وهذا متوقع. وربما سنشهد موجة جديدة بعد 3 أشهر من انتهاء هذه الموجة إذا لم يتم اكتشاف علاج جديد فعّال أو لم تكن آثار المطاعيم قد ظهرت حتى ذلك الوقت، أو لم نتعلم على مستوى الأفراد ان نلتزم التباعد واستخدام الكمامات بشكلها الصحيح لأن هذا هو الأساس. 

كلما ازدادت اعداد الإصابات، إزدادت الحالات الخطرة منها، وحصل ضغط على المرافق الصحية قد يصل إلى أعلى من سعتها او قدرة الكوادر الصحية على إدارة المشهد. وكلما ازدادت الحالات كلما ازدادت احتمالية إصابة الكوادر الصحية وابتعادها عن تقديم الخدمة، وهذا سيشكل ضغطاً كبيرا جدا. 

تصاعدت أرقام الإصابات بالتدريج وبشكل لوغاريتمي خلال الأسابيع الماضية، ورغم عدم الرضى العام عن إجراءات الحظر، إلا أنها فرصة لتخفيف الاختلاط البشري وتقليل نسبة نقل العدوى. لكن ما نغفل عنه جميعا هو أن السلوك المجتمعي قبل الحظر يؤدي لاختلاط ربما يتجاوز ضرره أثر الحظر. 

الأرقام التي تعلن عنها وزارة الصحة هي للحالات التي يتم اكتشافها، ولكن كل الدراسات العالمية تشير إلى ان عدد الحالات غير المكتشفة يبلغ 4 أضعاف المكتشفة بأفضل السناريوهات. لذلك يجب قياس شدة أثر الجائحة على الأردن حسب أعداد الوفيات واعداد المرضى الذين يحتاجون للدخول إلى المستشفيات والعناية الحثيثة.

وفيما يتعلق بالوفيات بسبب الجائحة، يجب على الحكومة أن تدقق أسباب الوفاة أكثر لنعرف الأثر الحقيقي للجائحة، ويجب أن تميز في إعلان ارقامها للوفيات بين الحالات التي تتوفى بسبب مضاعفات الإصابة بفايروس كورونا المستجد وبين الوفيات التي تحصل لمرضى لأسباب أخرى، لكن يرافقها إصابة بفايروس كورونا المستجد، حيث تشكل الوفيات بسبب فايروس كورونا المقياس الحقيقي لأعداد الإصابات وشدة الجائحة على المجتمع.
لا نعرف متى ستكون ذروة الموجة الحالية، ولم نصلها حتى الآن مع تاريخ كتابة هذا المقال، ولكن ستبقى الأرقام في ازدياد مع توقع وصولها الى 8 آلاف حالة يومياً قبل نهاية الشهر ما لم يلتزم الناس التباعد والكمامة أو تُلزمهم أجهزة الدولة بذلك.

 لدى القطاع الصحي الآن ما يقارب من 5 آلاف سرير مخصصة لحالات الإصابة الخفيفة والمتوسطة بفايروس كورونا، قابلة للزيادة إلى 7 آلاف بعد التعاقدات التي تمت مع المستشفيات الخاصة و بعد إنهاء تركيب وتشغيل المستشفيات الميدانية نهاية شهر نوفمبر. وهناك ما لا يقل عن 700 سرير عناية حثيثة و 800 جهاز تنفس صناعي ( سترتفع أسرّة العناية الحثيثة إلى 1200 سرير حسب مخطط وزارة الصحة الحالي وقبل منتصف الشهر القادم في كل القطاعات المشاركة في تقديم الخدمة لإصابات كورونا ) مخصصة لحالات الإصابة الشديدة بفايروس الكورونا. ولضمان تحسين الخدمة وتوزيع الضغط شكلت وزارة الصحة غرفة عمليات لإدارة توزيع الحالات وباشرت عملها اعتبارا من 16-11 بحيث يتم توزيع الحالات على كافة المستشفيات لضمان عدم امتلاء أي مستشفى بشكل كامل.

إلا أن أهم خطوة تم إقرارها هو تعيين كوادر صحية من اطباء وممرضين بشكل استثنائي في وزارة الصحة وشراء خدمات عدد من الاختصاصيين لمحاولة إنقاذ الموقف. هذه التعيينات التي كانت طلباً قديما لم يتم تحقيقه لسنوات طويلة وصل عددها إلى ما يقارب 2500 تعيين، من المتوقع ان تكون سبباً رئيسياً في تحسين الخدمة الصحية لاحقاً بعد تجاوز المملكة لهذه الموجة من جائحة فايروس كورونا المستجد.

سيناريوهات أعداد الوفيات بسبب الإصابة بفايروس كورونا بشكل مباشر متعددة، ولكنها تعتمد كثيرا على المرحلة التي سيفرض المجتمع فيها على نفسه الالتزام بالتباعد والكمامات لأسابيع، لأن هذا الالتزام هو ما سيكسر الذروة وستبدأ اعداد الإصابات بالتناقص، وربما مع زيادة الحيطة والحذر ستنخفض ارقام الحالات الحرجة ومعها تنخفض اعداد الوفيات بسبب الإصابة.

السيناريوهات التي تفترض وفاة 3 آلاف شخص و 6 آلاف شخص صحيحة لأن كل واحد منها تم احتسابه على أساس مختلف من معدل الالتزام بالتباعد والكمامات، بالإضافة إلى القدرة الاستيعابية للمستشفيات لمحاولة السيطرة على الحالات المبكرة والمتوسطة ومنعها من التطور إلى حالات حرجة.

ما العمل؟

لدى الحكومة الآن مشروع جاهز تم العمل عليه خلال العام الماضي كاملاً، يتعلق بالتأمين الصحي الشامل لكافة المواطنين على الأرض الأردنية، وتشاركية ملزمة لكافة المؤسسات الصحية في المملكة لتكاملية في الخدمة الطبية للمواطنين. بحيث يتم الاستفادة من كافة الموارد البشرية في مختلف المؤسسات الصحية لتقديم الخدمة في كل المؤسسات الصحية. أثبتت هذه الدراسة أن الموازنة المخصصة للقطاع الصحي يمكن إعادة توزيعها وتحقيق خدمة أفضل بتكلفة إجمالية أقل، وستنتهس إلى استعداد صحي أفضل لما قد يأتي من ضغوطات صحية مستقبلية.

إلا أن ما هو أهم من الاستعداد الصحي ويجب أن يلتفت له المسؤولون على كافة الصعد هو الثقافة الوقائية، لقد أثبتت هذه الدراسة أن المجتمع لم يكتسب هذه الثقافة بسبب عدم الاهتمام الحكومي بها سابقاً وعدم تفعيل دور وزارات الصحة والتربية والتعليم والتعليم العالي في هذا الملف. الوقاية في الجوائح أفضل بكثير و أضمن من المعالجة، لأنك بالوقاية تمنع الإصابات وتمنع الانهيار الصحي، بينما في الاستعداد الصحي تكتفي في محاولة التقليل من المضاعفات ومنع تطور الحالات لما هو أسوأ.

ستمر هذه الموجة، سنخسر فيها للأسف ارواحاً قبل الوقت الذي كنا نتوقعه. و رغم ان الدول والمجتمعات ستبقى، إلا أن الخسارة الفردية لن يتم تعويضها. في الجائحة لا ينفع المرء إلا حذره إن نفعه أصلاً، وفي الدول ذات الاقتصادات المنهكة، سيكون الأثر الاقتصادي والاجتماعي والأمني لاحقاً مقلقاً أكثر بكثير من الأثر الصحي.

محمد عبد الحميد القضاة

زر الذهاب إلى الأعلى