الأردن ومصادر المياه المشتركة في جنوب سوريا: أبعاد وتطورات الوجود العسكري الإسرائيلي

الملخص
– بدأت إسرائيل بشن غارات جوية تستهدف فيها عدة مواقع في سوريا، بلغت حوالي 480 ضربة خلال أول 48 ساعة من سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول للعام 2024، وقد استهدفت مخازن الأسلحة الاستراتيجية. بالإضافة إلى توغلها بريًا داخل الأراضي السورية معلنة وقف العمل باتفاقية فض الاشتباك لعام 1974، بذريعة حماية المستوطنات في الجولان، ومنع تسلل المسلحين.
– لم تستجب إسرائيل للتصريحات التي أعلنتها الإدارة السورية الجديدة عبر قائدها ووزير خارجيتها، مستغلة الانشغال في الظرف السياسي الطارئ في سوريا، ومتوسعة على شريط طويل من القرى السورية، ومنها ما هو على مقربة من الحدود الأردنية، دون أن تحدد المدة التي ستبقى فيها على هذه الأراضي.
– تثير التحركات الإسرائيلية تساؤلات حول ما إن كانت أهدافها تتجاوز الدوافع الأمنية المؤقتة، تحديدًا في تواجدها على مواقع استراتيجية، ومآلات تلك التحركات على سوريا داخليًا وخارجيًا، وتحديدًا في الملفات المشتركة مع دول الجوار كملف المياه الذي يؤثر على الأردن.
– وصلت القوات الإسرائيلية إلى مناطق قريبة من الحدود الأردنية، بما في ذلك قرية كويا السورية، وسد الوحدة في حوض اليرموك، ويشكل الحوض مصدرًا مائيًا حيويًا للأردن وسوريا، بما فيه اتفاقية المياه المشتركة والتي لم تفعل بشكل حقيقي نتيجة لتداعيات الثورة السورية، وتعنت النظام السابق في إعطاء الأردن حقوقه المائية.
– يستمر التواجد الإسرائيلي بفتح سيناريوهات متوقعة مع قراءة التحركات والمعطيات الأولية، بالإضافة إلى المعرفة التاريخية بسلوك الاحتلال، وترتبط السيناريوهات بأهداف الاحتلال غير المعلنة، والأدوار والضغوط الإقليمية والدولية التي ستمارس على إسرائيل، لإيجاد صيغة حل لتواجدها في الجنوب السوري.
المقدمة
طُويت صفحة العام 2024 بمشهد دراماتيكي في سوريا، وشهدت تحولًا تاريخيًا بسقوط الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول العام الماضي، إثر العملية العسكرية التي كانت قد شنتها فصائل المعارضة المسلحة على رأسها هيئة تحرير الشام تحت شعار “ردع العنوان”. ومع الساعات الأولى من انهيار النظام، سارعت إسرائيل في استغلال اللحظة، وشنت غارات جوية مكثفة على مواقع استراتيجية في قلب سوريا، معلنة بذلك بداية لحظة جديدة في المشهد السوري.
اجتازت إسرائيل خط اتفاقية فض الاشتباك للعام 1974، وبدأت توغلًا تدريجيًا داخل المنطقة منزوعة السلاح وفرضت سيطرتها على نقاط استراتيجية من بينها مرتفعات جبل الشيخ[1]، والذي يعتبر من أكثر المواقع الاستراتيجية أهمية في المنطقة، بسبب موقعه الجغرافي على الحدود السورية اللبنانية الإسرائيلية، وارتفاعه الذي يجعله نقطة مراقبة رئيسية في العديد من الظروف الأمنية والعسكرية، فضلًا عن موارده الطبيعية المائية. وقد قامت إسرائيل بذلك، تحت ذريعة استشعار الخطر على الحدود الشرقية، في ظل وجود إدارة جديدة بقيادة الهيئة ذات التوجهات الإسلامية في سوريا، حيث تُصور إسرائيل هذا التحول في سوريا على أنه تحدٍ استراتيجي في المرحلة المقبلة، بعد أن عملت لما يزيد عن عقد على مواجهة الوجود الإيراني ووكلائه في المنطقة. لكن التحركات الإسرائيلية لم تقف عند ذلك الحد، إذ واصلت تمددها جنوبًا وصولًا إلى قرى حوض اليرموك، مقتربة من مصادر المياه المشتركة بين الأردن وسوريا، والتي تشكل أحد أهم أساسيات الأمن القومي لكلا من البلدين، في ظل مجموعة من التحديات والأزمات التي تعاني منها سوريا نتيجة لسنوات الحرب الطويلة، وما تعاني منه الأردن نتيجة للتغيرات الإقليمية والمناخية، تحديدًا مع موقعها الجغرافي الذي يجعل من معظم مصادر المياه الحيوية فيه، متقاطعة مع دول الجوار، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات جدية حول النوايا الحقيقية للاحتلال وأهدافه بعيدة المدى في تلك المناطق الحيوية.
قد لا يبدو أن السلوك الإسرائيلي فريدًا، إذ تشن ضرباتها الجوية على الأراضي السورية منذ اندلاع الأزمة فيها عام 2011، مستهدفة بشكل رئيسي الوجود الإيراني الكثيف والميليشيات التابعة لها، إلى جانب التصاعد في دور حزب الله اللبناني في المشهد السوري باعتباره أحد أبرز داعمي نظام الأسد. ركز الاستهداف الإسرائيلي خلال تلك الفترة على ما يُعرف بـ “الممر الإيراني الآمن”، الذي يربط طهران بدمشق وبيروت[2]، حيث استهدفت إسرائيل، عبر القصف، البنية العسكرية الإيرانية في سوريا وبعض المواقع التابعة للنظام بشكل متكرر.
إلا أنه ومع تصاعد الحرب على غزة في العام 2024، كثفت إسرائيل عملياتها العسكرية في سوريا، وبلغت ذروتها عندما قصفت مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق وقبل سقوط النظام، ما أسفر عن مقتل سبعة مستشارين عسكريين بينهم القائد الكبير في فيلق القدس محمد رضا زاهدي[3]. يسعى هذا التقرير قراءةَ التوسعات العسكرية الإسرائيلية في الجنوب السوري، متناولًا حدود الوصول الإسرائيل إلى مصادر المياه المشتركة بين الأردن وسوريا، واعتباره عاملًا مهمًا في هذا التوغل، مع استعراض الأبعاد الأمنية والتداعيات المحتملة لهذه التحركات.
إسرائيل في الجنوب، وقائع ودوافع
بدأت إسرائيل بشن ضرباتها العسكرية على مواقع متعددة داخل سوريا على رأسها مخازن الأسلحة الاستراتيجية التابعة لنظام الأسد، إذ شنت نحو 480 ضربة خلال 48 ساعة بعد أيام من إطاحة الأسد، مبررةً ذلك بالخشية من سقوط هذه الأسلحة بيد عناصر “إرهابية”[4]، ترافق مع ذلك بدؤها في التوسع جغرافيًا في سوريا وتعزيز وجودها فيها بهدف حماية المستوطنات في الجولان ومنع تسلل المجموعات المسلحة إلى أراضيها.
حرصت الإدارة الجديدة في سوريا على إرسال رسائل طمأنة للعديد من دول الجوار منذ الأيام الأولى لعملية “ردع العدوان”، وقد أرسلت لاحقًا بوسائل عدة بما فيها اللقاءات الإعلامية مع قائد الإدارة أحمد الشرع تصريحات من شأنها أن تطمئن إسرائيل وتحمل في طياتها عدم وجود نية لمهاجمتها، إلا أن الأخيرة لم تستجب، واستغلت الحالة العسكرية الناجمة عن سقوط الأسد، والانشغال المحلي والإقليمي بالظرف السياسي الطارئ في سوريا، وتمركزت قواتها داخل المنطقة العازلة وعلى شريط طويل من القرى السورية انطلاقًا من امتداد الجولان من جبل الشيخ شمالًا وإلى قرية المعرية في درعا باتجاه الحدود السورية الأردنية جنوبًا، دون أن تحدد المدة التي ستبقى فيها على الأراضي السورية[5]، ولحين التوصل إلى ترتيبات أخرى، إذ بين وزير الدفاع الإسرائيلي “يسرائيل كاتس” بقاء القوات الإسرائيلية في تلك المناطق سيستمر طالما أن ذلك ضروريًا، يؤيد ذلك التصريحات الأخيرة الصادرة عن إذاعة الجيش الإسرائيلي أن الوجود العسكري في سوريا لم يعد مؤقتًا وسيستمر خلال العام 2025[6]؛ يذكر أن القوات الروسية كانت تضمن خطوط الهدنة وفض الاشتباك لعام 1974 منذ سنة 2018 بعد اتفاقيات التسوية مع فصائل المعارضة في الجنوب السوري.
وفي رد فعل على التواجد الإسرائيلي في الجنوب السوري، بدأ العديد من أهالي القرى السورية بتنظيم وقفات احتجاجية ضد القوات الإسرائيلية مطالبين قوات الاحتلال بالرحيل، حيث بدأ الوضع يشهد تصعيدًا محدودًا، إذ جرى إطلاق نار من الجانب الإسرائيلي على الحشود في إحدى الحوادث الذي أدعى أن الجنود الإسرائيليين قد “لمسوا تهديدًا” خلال المظاهرة[7]. في ذات الإطار فقد تناولت مصادر مقتل جنود من الإدارة السورية الجديدة بغارة إسرائيلية استهدفت قافلة أسلحة في جنوب سوريا كأول ضربة إسرائيلية تستهدف بها عناصر من الإدارة الجديدة[8]،أشار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على أن سوريا ستدافع عن نفسها في حال تعرضت لأي تهديد، وأن على إسرائيل أن تحترم أمن وحدود وسيادة سوريا، وأشار إلى ضرورة الضغط على إسرائيل حتى تنسحب من الأراضي السورية التي توغلت داخلها[9]، ردًا على تلك التحركات.
واصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي وجودها العسكري في الجنوب السوري بمسعى تحويل جزء من المنطقة إلى قاعدة عسكرية دائمة من خلال البدء بالعمل على بنية تحتية وهندسة، كإنشاء مطار مروحيات صغير الحجم في ريف القنيطرة الشمالي[10]. قامت إسرائيل بإنشاء مبانٍ مؤقتة ذات طبقة عازلة من البرد، وزودت بوسائل تدفئة ومولدات كهرباء، بالإضافة إلى مبنى طبي لمعالجة إصابات البرد، وعززت بالقرب من الحدود الأردنية السورية في قرية معرية في ريف درعا ثكنة الجزيرة التي يتضح موقعها وقربها الجغرافي من الأردن في الشكل (1)، كما نصبت سواتر اسمنتية عالية وعبدت جميع الطرق المؤدية إلى الثكنة، ففي حين يعتبر التدخل الإسرائيلي في سوريا انتهاكًا للقانون الدولي، دون أن تأبه إسرائيل بأي من تلك المواثيق، إلا أن خطورة الأمر تكمن في احتمالية أن يشعل أي حادث أمني مواجهة أوسع بين الأطراف، أو أن تلك الحالة قد تتيح بيئة مواتية لخلق ذريعة لنمو بعض أنشطة الجماعات المسلحة أو عودة جماعات إرهابية كداعش على اعتبار “مواجهة إسرائيل”.

تجدر الإشارة هنا، إلى أنه وعلى الطرف الآخر من الحدود، وفي إجراء وقائي، عزز الجيش الأردني من تواجده على طول الحدود مع جنوب سوريا[11]، لتأمين الحدود أمام محاولات تسلل مقاتلين قد تكون محتملة وفقًا للظرف الأمني الذي تشهده سوريا إلى داخل الأردن بعد سقوط نظام الأسد، وتحوطًا من تفاقم أو تمدد خطر التنظيمات الإرهابية أو أي تنظيمات تتبع لكيانات أخرى قرب الحدود الأردنية، ذلك الأمر الذي يعزز من إشكالية الواقع في الجنوب السوري والشمال الأردني، وتبقى التخوفات مثارة باستمرار ذلك الوضع.
يتعين التأكيد على أن أسباب التواجد الإسرائيلي في الجنوب السوري ما تزال محط تساؤل، ويليه علامات استفهام عديدة فيما إذ يتعلق بشكل خاص بأهداف استراتيجية، أم بسبب المخاوف الأمنية المؤقتة نتيجة لانهيار نظام الأسد ولصد أي تهديد قادم من منطقة الشمال الشرقي ومنع المعارضة من امتلاك الأسلحة، إذ تناول مصدر، تصريحات لاستشاري بارز في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤسسة “تشاتام هاوس” البحثية في لندن “يوسي ميكلبيرج”، أن التواجد المؤقت هو مفتاح أساسي في هذه الحالة، فالمؤقت الذي يتحول إلى دائم يصبح احتلالًا، والاحتلال عادة ما يقابله مقاومة، مع تأكيده على ضرورة أن تؤخذ المخاوف الإسرائيلية بعين الاعتبار من حيث تأمينها لحدودها، ولكن ليس من الاحتلال الدائم أو العدوان[12].
مصادر المياه، الفرصة والتحديات المحتملة
توغلت القوات العسكرية للاحتلال الإسرائيلي باتجاه القرى القريبة من الحدود الأردنية وعلى رأسها قرية كويا[13]التي أشير لها سابقًا، والتي لا يفصلها عن لواء بني كنانة في الأردن سوى كيلومتر واحد[14]. كما امتد التقدم الإسرائيلي إلى قرى محاذية لحوض اليرموك، حيث أظهرت خريطة تفاعلية وصول الاحتلال إلى أطراف من سد الوحدة[15] داخل الحوض ذاته، وهو سد يمثل مصدرًا مائيًا استراتيجيًا لكل من الأردن وسوريا، وتخضع موارده لاتفاقية مشتركة بين البلدين.


يوضح الشكل رقم (2) تجاوز إسرائيل لخطوط اتفاقية فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل للعام 1974 وتوسعها في الجنوب السوري وبشكل طولي محاذٍ لخطوط الاتفاقية وباتجاه نحو العمق السوري، في حين يوضح الشكل رقم (3) التوغل الإسرائيلي في منطقة حوض اليرموك ووصولها لمصادر المياه في الجنوب السوري، بما فيه سد الوحدة وانسحابها اللاحق منه وفقًا لمصادر محلية مع بقائها على مشارف قد تمكنهم من السيطرة أمنيًا وعسكريًا على كامل المنطقة، يذكر أن السد نشأ بموجب اتفاقية بين الأردن وسوريا لتنظيم مصادر المياه المشتركة.
في خلفية مقتضبة عن الاتفاقية، فقد وُقعت بغية استثمار مياه نهر اليرموك بين الأردن وسوريا عام 1987 وهدفت لتنظيم استغلال مياه النهر وتقاسم موارده، واشتملت بنوده على إنشاء سد من الجانب الأردني على نهر اليرموك بسعة تقدر نحو 220 مليون متر مكعب، بينما تقوم سوريا بإنشاء حوالي 25 سدًا لري أراضيها، بناء على ذلك، بدأ العمل على إنشاء سد الوحدة عام 2003. وبموجب الاتفاقية، فيحق للأردن الحصول على نحو 200 مليون متر مكعب من مياه اليرموك سنويًا، بينما تستفيد سوريا من المياه لتلبية احتياجاتها الزراعية. وقد تضمنت الاتفاقية إنشاء مركز لتوليد الطاقة الكهربائية، بحيث تحصل سوريا على 75% من الكهرباء المنتجة، بينما يحصل الأردن على 25% منها. إلا أنها لم تفعّل بشكلها الكامل نتيجة لعدة من التحديات، إذ اكتمل بناؤه عام 2010، أي قبيل اندلاع ثورات الربيع العربي، ومن بينها الثورة السورية، التي كان لها ما لها من تداعيات عديدة على الموارد المحلية، وتسببت في الضغط على موارد الدول المستضيفة للاجئين السوريين وتحديدًا في الأردن، وقد أفضى فشل السد في تحقيق أهدافه إلى تراشق الاتهامات بين المسؤولين الأردنيين والسوريين في فترة من الفترات[16].
ففي سوريا؛ يشكل حوض اليرموك مصدرًا مائيًا ونقطة اعتماد في الجنوب السوري، وخصوصًا في درعا والسويداء اللتين ترتكزان على مياه الحوض باعتبار وجود أكبر نهر في الجنوب السوري وهو نهر اليرموك، وتستخدم المياه للعديد من الاحتياجات منها ري الأراضي الزراعية وتغطية مساحات واسعة منها في منطقة “حوران” والتي تعد سلة غذاء مهمة للجنوب، فضلًا عن تلبية احتياجات السكان من المياه.
أما أردنيًا؛ يعاني الأردن من أزمة في المياه، فيعتبر ثاني أكثر البلدان فقرًا في مصادر المياه[17]، وتشترك معظم تلك المصادر مع الدول المجاورة للأردن، مع كل من إسرائيل والمملكة العربية السعودية وسوريا، ففي المياه المشتركة مع إسرائيل، يستمر الاحتلال في انتهاك الحقوق المائية للأردن بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ يعتمد على مياه نهر الأردن كمصدر رئيس للمياه ويقوم بتحويل كميات كبيرة منه إلى الداخل الإسرائيلي، فضلًا عن المماطلات في الالتزام الإسرائيلي تجاه الأردن في تنفيذ مشاريع حيوية مثل مشروع ناقل البحرين، إذ ما لم نأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية الداخلية والخارجية والتي يتأثر بها ملف المياه.
وبما يتعلق بالمملكة العربية السعودية، تشترك مصادر المياه مع الأردن عبر المياه الجوفية في حوض الديسي-الساق، وتقع معظم طبقة المياه الجوفية في السعودية بحوالي 65,000 كيلومتر مربع، و4,000 كيلومتر مربع فقط في الأردن[18]. أما في سوريا، فتشترك مصادر المياه خلال حوض اليرموك، ويحظى الحوض بأهمية مائية خاصة، وهو أحد أهم المصادر المائية المسطحة للأردن، فكان من المفترض أن يسهم في تزويد المملكة بجزء كبير من احتياجاتها في ظل ندرة الموارد المائية فيها وموقعها الجغرافي الذي يحيطها ببؤرة من الصراعات والنزاعات المختلفة وامتداد تداعياتهم عليها، لكن تعنت النظام السابق حال دون ذلك، يضاف إليه الواقع المعاش بما يشكله اليوم التواجد الإسرائيلي على الروافد المائية المشتركة بين الأردن وسوريا من تحدي إضافي كبير، في ظل البيئة الإقليمية المتغيرة.
تتواجد إسرائيل على الأرض في سوريا، وتتقدم على كامل المنطقة العازلة التي عمقها الأساسي يتراوح ما بين (3-5) كيلومتر يختلف حسب التضاريس، وذلك من شمال القنيطرة وصولًا إلى الحدود السورية الأردنية أي منطقة حوض اليرموك، ويبلغ التوغل الثابت بحدود 2 كيلومتر وقد تم تثبيت عدة نقاط تتوزع على عمق يتراوح ما بين 1.5-1.7 كيلومتر في المنطقة الشمالية و2 كيلومتر في المنطقة الجنوبية.
مع ذلك فينظر للواقع الجديد من زاوية أخرى، لا سيما بعد سقوط نظام الأسد، إذ فُتحت أمام الأردن فرصة جديدة لإعادة بحث وتفعيل الاتفاقية بما يحقق ويحفظ مصالح الطرفين، وقد بين وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، أن النظام السابق قد انتهك حقوق الأردن المائية، في حين يدرك الأردن حجم التحديات والقضايا التي تواجه الإدارة السورية الحالية، وبالتالي فلن يضغط على الإدارة الجديدة لحل الملف المائي فورًا[19].
إلا أن الأردن اليوم، يصطدم بواقع التواجد العسكري الإسرائيلي في الجنوب السوري بما فيه من مصادر مياه تشترك بها سوريا والأردن، تحديدًا مع ضبابية المشهد وعدم وضوح في الأهداف الإسرائيلية من ذلك التواجد، الأمر الذي يشكل مصدر للقلق ولو بالحد الأدنى وعلى المستوى المتوسط والبعيد، وبالتالي فإنه من الضروري تسليط العدسة على تلك المعادلة، التي تتعدد بها الفواعل وتتعقد ديناميتها، ففي حين يشوب المشهد الأمني والسياسي الحالي العديد من القضايا الرئيسية المحلية السورية والأردنية على المستوى القريب، لا يمكن الإغفال عن أهمية ملف المياه وضرورة إبرازه في هذه الأثناء التي تستمر إسرائيل في تواجدها داخل الأراضي السورية، وتحاول تبرير توسعها تحت مفهوم الخطر المحتمل من الشمال وفقًا لرؤيتها الاستراتيجية ومحدداتها للأمن القومي الخاص بها.
وعلى الرغم من أن العديد من الدول العربية قد نددت تلك التحركات، وعدَّها المجتمع الدولي بأنها قد تكون احتلالًا مفتوحًا للأراضي السورية وتطبيقًا لأجندة إسرائيل في المنطقة العازلة السورية مثيرة بذلك القلق الدبلوماسي الدولي[20]، إلا أن إسرائيل لم تأبه بذلك وتستمر بتحركاتها وتفرض نفسها كقوى مستمرة في الإقليم وإن تغيرت معادلاته، فتعبر عن نفسها كفاعل يسعى للهيمنة الإقليمية بما يتماهى مع أهدافها الإستراتيجية، في ظل المرحلة القادمة ومع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحكم، والقرارات المؤخرة التي بدأ في اتخاذها كان على رأسها وقف المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء إسرائيل ومصر، الأمر الذي يفاقم من تعقيد المسألة في ظل التواجد الإسرائيلي مقربة من الحدود الشمالية الغربية للأردن في الجنوب السوري، ولا سيما عندما ترتبط المسألة بقضايا حيوية والاحتمالات المرتبطة بالمساس بالأمن المائي لكلا من الدولتين، في ظل مواجهة الأردن أولويات طارئة وتحديدًا، بما يتعلق بالقضية الفلسطينية ما بعد الحرب على غزة.
خاتمة
يعكس التوسع العسكري الإسرائيلي في الجنوب السوري، وما صاحبه من توغل باتجاه المناطق الاستراتيجية ومصادر المياه، بقراءة أولية؛ أبعادًا تتجاوز الدوافع الأمنية المؤقتة المعلنة من الجانب الإسرائيلي، ليبين احتمالية وجود أهداف واعتبارات إسرائيلية قد يكون لها تأثير طويل الأمد على المشهد الإقليمي، إذ يثير تمركز القوات الإسرائيلية في مناطق حساسة كمحيط حوض اليرموك ويطرح تساؤلات حول نواياها الحقيقية، على الرغم من تبريرها لتحركاتها العسكرية بحماية حدودها، إلا أن تتبع تاريخ السلوك الإسرائيلي في استغلال الموارد المائية المشتركة مع الأردن لصالحها في الأراضي المحتلة يشير إلى نوايا قد تتجاوز تأمين الحدود.
يسهم ذلك في ترك السيناريوهات مفتوحة في ظل المشهد الضبابي والبطيء، فيمكن بشكل أولي ومقتصر، أن تستمر السيطرة العسكرية الإسرائيلية في الجنوب السوري مع السيطرة على الجزئية على مصادر المياه، أو الانسحاب بشكل جزئي أو كلي من الجنوب السوري بما فيه ملف المياه، ويبرز دور مركزي يقع على عاتق المجتمع الدولي والنظام الإقليمي بما يمكن تحقيقه عبر الضغوط الإقليمية والدولية على إسرائيل، تحديدًا لمنع أي توغل وتوسع في الجنوب السوري قد يكون لصالح الاحتلال، بحيث يكون حساب المصالح الأردنية السورية بالعديد من الملفات المائية والأمنية والسياسية.
بكل الأحوال يرتبط كل من السيناريو الأول والثاني بشكل وثيق مع الأهداف الإسرائيلية غير المعلنة، والتي قد يكون من بينها ضمان إشراكها في أي عملية تفاوضية ترتبط بالوضع الأمني والعسكري في الجنوب وبمصادر المياه.
أما في سوريا، تتكثف التغيرات السياسية مع محاولة الإدارة الجديدة فرض الاستقرار الداخلي، ويظل الوجود الإسرائيلي عامل توتر قد يؤدي إلى تفجر الأوضاع في أي لحظة، خصوصًا مع تزايد الاحتجاجات الشعبية ورفض السكان لهذا التواجد، بالإضافة إلى وضع الإدارة السورية بحرج أكبر أمام القاعدة الشعبية نتيجة التوسع الإسرائيلي. وأردنيًا، فحاجة الأردن لمياه نهر اليرموك ضرورة وأولية لمعالجة الأزمة المائية التي يواجهها، حيث يقف الأردن اليوم على منعطف حرج بين حاجته لتأمين مصادره المائية، وتجنب أي تصعيد عسكري محتمل بالقرب من حدوده.
في ظل هذا المشهد الضبابي والمعطيات المتغيرة، تبقى الأسئلة مفتوحة فيما هل سيتحول الوجود الإسرائيلي من وجود مؤقت إلى دائم؟ وهل ستتخذ الأطراف الإقليمية والدولية مواقف جادة وخطوات عملية لمواجهة هذا التوسع، أم أن الواقع الجديد سيفرض نفسه؟ فيما تبقى المراحل القادمة موضع اختبار لكل ما سبق.
[1] “ما اتفاقية فض الاشتباك التي ألغتها إسرائيل بعد هروب بشار الأسد؟”، 10 ديسمبر/كانون الأول 2024، الجزيرة، أنظر: https://nz.sa/ZMchw
[2] “الصمت الحرج: رهانات دمشق أمام مشهد إقليمي متأزم”، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حسن جابر، فرح أبو عياده، معهد السياسة والمجتمع، أنظر: https://nz.sa/JHuta
[3] “أبرز الضربات الإسرائيلية على الأراضي السورية في العقدين الأخيرين”، 15 إبريل/نيسان 2024، الجزيرة، أنظر: https://nz.sa/nARKw
[4] “الجيش الإسرائيلي يكشف سبب الضربات في سوريا”، 11 ديسمبر/كانون الأول 2024، الحرة، أنظر: https://nz.sa/WCMNy
[5] “خريطة تكشف تفاصيل التوغل الإسرائيلي في سوريا”، 18 ديسمبر/كانون الأول 2024، الجزيرة، أنظر: https://nz.sa/larJz
[6] “إسرائيل تقيم منطقة أمنية داخل سوريا”، 11 فبراير/شباط 2025، الجزيرة، أنظر: https://nz.sa/xQhyv
[7] “إسرائيل تختل قريتين جنوب سوريا”، 21 ديسمبر/كانون الأول 2024، الأناضول، أنظر: https://nz.sa/wdnwJ
[8] “Syria’s de facto leader: Israel no longer has excuse to stay in buffer zone”، 18 يناير/كانون الثاني 2025، The Times of Israel ، أنظر: https://nz.sa/pFSlo
[9] “وزير خارجية سوريا: على إسرائيل احترام أمننا وحدودنا”، 16 يناير/كانون الثاني 2025، العربية، أنظر: https://nz.sa/wZMeq
[10] “”إسرائيل” تعزز سيطرتها في الجنوب السوري بإنشاء مطار وأبراج مراقبة”، 25 يناير/كانون الثاني 2025، Sonar Media Center، أنظر: https://nz.sa/qaaIQ
[11] “تعزيز القوات الأردنية على طوال الحدود مع سوريا بعد اشتعال الوضع في الشمال السوري”، 02 ديسمبر/كانون الأول 2024، مونت كارلو الدولية، أنظر: https://nz.sa/URHlB
[12] “Israel has a bargaining chip with Golan Heights”، 21 ديسمبر/كانون الأول 2024، DW، أنظر: https://nz.sa/TqGiS
[13] “القوات الإسرائيلية تتوغل في درعا وتقترب من الحدود الأردنية”، 18 ديسمبر/كانون الاول 2024، إرم نيوز، أنظر: https://nz.sa/gJuDY
[14] “تطالهم القذائف.. سكان شمالي الأردن يعيشون يوميات الحرب بسوريا”، 22 مايو/أيار 2015، الخليج أونلاين، أنظر: https://nz.sa/UbyTU
[15] https://syria.liveuamap.com/
[16] “سد الوحدة: السد الذي ليس له من اسمه نصيب”، 22 سبتمبر/أيلول 2022، حبر، أنظر: https://nz.sa/ghUjL
[17] “المياه والصرف الصحي والنظافة”، يونيسف-الأردن، أنظر: https://nz.sa/yZrru
[18] “موارد المياه المشتركة في الأردن”، 2 يونيو/حزيران 2022، Fanack Water، أنظر: https://nz.sa/qGxQp
[19] “وزير الخارجية: النظام السوري السابق انتهك حقوق الأردن المائية”، 23 يناير/كانون الثاني 2025، قناة المملكة، أنظر: https://nz.sa/XOvXd
[20] “Israel strikes Syria as Netanyahu approves plan to expand Golan Heights settlement”, 15 Dec 2024, The Gurdian, look: https://rb.gy/6uqbsk
الأردن ومصادر المياه المشتركة في جنوب سوريا: أبعاد وتطورات الوجود العسكري الإسرائيليok: https://rb.gy/6uqbsk