اغتيال الطبطبائي: حدث أمني في قلب لحظة إقليمية متشابكة

لم يأتِ اغتيال هيثم علي الطبطبائي، أحد أبرز القادة العسكريين في حزب الله، في ضاحية بيروت الجنوبية، كحدث أمني معزول يمكن التعامل معه بوصفه عملية إسرائيلية إضافية في سياق حرب الظلّ المستمرة بين الطرفين. فالضربة، التي وقعت في لحظة إقليمية تتداخل فيها المؤشرات العسكرية الإسرائيلية مع حركة سياسية ودبلوماسية متوترة، تبدو اليوم أشبه بفاتحة مرحلة جديدة تتجاوز البعد التكتيكي وتلامس إعادة صياغة قواعد الاشتباك وحدودها.

فقد تزامنت العملية مع ارتفاع نبرة التهديدات الإسرائيلية، ومع تسريبات تفيد بأن خيار التصعيد لم يعد احتمالاً بعيداً داخل المؤسسة الأمنية في تل أبيب، بل جزءاً من تصور أوسع يعيد ترتيب أولويات الاستهداف قبل أي مواجهة محتملة.

الضاحية الجنوبية، التي لطالما اعتُبرت رمزاً لعمق حزب الله الأمني ومركز ثقله التنظيمي، خرجت مرة أخرى من دائرة “الاستثناء الأمني” الذي حكم المنطقة منذ سنوات. فالاغتيال لم ينتهك فقط وقف إطلاق النار المعلن في نوفمبر 2024، بل نسف إلى حدّ بعيد التفاهمات غير المكتوبة التي كانت تنظم إيقاع الضربات وحدودها. هذا الخرق جاء في وقت كانت فيه الاتصالات الإقليمية والدولية—من واشنطن إلى باريس والرياض—تبحث عن مسارات لتجنب انفجار واسع، ما يعكس حجم التناقض بين محاولات الدبلوماسية وبين منطق القوة الذي تفرضه إسرائيل على الأرض.

وفي هذا المشهد المتشابك، تتقدّم القراءة بأن إسرائيل تستثمر اللحظة الإقليمية الراهنة لإعادة هندسة قواعد الاشتباك مع حزب الله، في ظل اعتقاد بأن الحزب يعيش مرحلة ضعف استراتيجي ناتجة عن اغتيال قادته البارزين خلال العامين الماضيين، بدءاً بحسن نصرالله وهاشم صفي الدين وصولاً إلى سلسلة من القادة الميدانيين. وتبدو إسرائيل كمن يريد استغلال الفراغ السياسي الإقليمي لفرض وقائع ميدانية تسبق أي محاولة لإحياء مسار تفاوضي كانت ملامحه الأولى قد ظهرت قبل أشهر، قبل أن يتراجع تدريجياً مع تعثر الوساطات العربية والدولية.

على الجانب الآخر، لا تبدو طهران في وارد فتح مواجهة واسعة. الاتصالات التي جرت بينها وبين المملكة العربية السعودية، والتي رافقتها إشارات محدودة إلى رغبة إيرانية في اختبار إمكانية فتح قناة تفاوض غير مباشرة مع واشنطن عبر وسيط إقليمي، لم تتحول إلى مسار فعلي، لا لسبب سوى أن طهران تدرك أن أي تقديم مبكر للتنازلات سيُقرأ كاعتراف بوجود اختلال استراتيجي غير قابل للإنكار. وبدورها، أوضحت الرياض في زيارة ولي عهدها للبيت الأبيض أنها ليست في وارد الدفع نحو التصعيد، وأن الحفاظ على الاستقرار الإقليمي لا يزال أولوية، حتى وإن كانت الطريق إليه شديدة الوعورة.

لكن هذه المؤشرات السياسية الإيجابية لم تلبث أن تراجعت بسرعة. فالورقة التي حملها رئيس المخابرات المصرية حسن رشاد إلى بيروت، والمتعلقة بإدارة ملف سلاح حزب الله على مراحل، اصطدمت باعتراضات حادة من إسرائيل ومن الإدارة الأميركية، التي بدت غير مستعدة لقبول أي صيغة تقوم على “تجميد السلاح” بدلاً من نزعه. ومع انكفاء التقارب الإيراني–السعودي عن مستوى يمكن البناء عليه، فقدت العملية السياسية زخمها، وبدأت تتصاعد المؤشرات على أن المنطقة تتجه نحو مسار أكثر حدّة مما كان متخيلاً قبل أسابيع فقط.

في هذا السياق، تبدو عملية اغتيال الطبطبائي جزءاً من دفعة عملياتية إسرائيلية تهدف إلى اختبار قدرة الحزب على امتصاص ضربات متتالية دون الذهاب إلى رد عسكري واسع. فالتسريبات الإسرائيلية تتحدث بوضوح عن لائحة أهداف أكثر اتساعاً، تشمل مستويات مختلفة من قيادات الحزب، فيما تظهر تقديرات دبلوماسية أن واشنطن تتعامل ببرود مع كل محاولات التهدئة، وكأنها تترك لإسرائيل هامش مناورة واسعاً لترتيب الميدان بما يخدم المفاوضات المؤجلة أو حتى يلغي الحاجة إليها. هكذا، يتحول الاغتيال إلى أداة في رسم معادلة جديدة، قوامها الضغط العسكري في مقابل مسار سياسي متعثر.

أما في لبنان، فيتلاقى المشهد الميداني مع تصاعد حركة دبلوماسية عربية ودولية، تشمل زيارات مرتقبة لمسؤولين مصريين وقطريين، واتصالات أميركية–فرنسية–سعودية تحاول إبقاء الملف اللبناني ضمن دائرة الاهتمام، وإن من دون خطوات تنفيذية واضحة. وبموازاة ذلك، يعمل الرئيس جوزيف عون على إعادة إحياء فكرة “اللجنة الخماسية“، وسط مؤشرات بأن أي دعم عسكري أو اقتصادي للبنان بات مشروطاً بإصلاحات داخلية واسعة وبحث جدّي في مستقبل السلاح، بعدما تلاشت الفكرة التقليدية القائمة على فصل الاقتصاد عن الأمن.

حزب الله يدرك هذه المعادلة جيداً. فهو من جهة يتعامل مع المرحلة بمنطق يرفض تسليم ملف السلاح لأي طاولة تفاوض خارجية، لكنه في الوقت نفسه لا يغلق الباب أمام ترتيبات سياسية قد تتيح تهدئة مشروطة، سواء عبر تثبيت قواعد اشتباك جديدة أو عبر نقاشات مرتبطة بوقف الاستهدافات أو ترسيم الحدود أو الانسحاب من بعض النقاط الحساسة. وفي هذه المقاربة المزدوجة، يتقاطع موقف الحزب مع موقف طهران التي ترى أن الفترة الحالية ليست مناسبة لاتخاذ خيارات استراتيجية، وأن الانتظار قد يكون أقل كلفة من الانجرار إلى مسارات تفاوض ضعيفة الأسس.

في الداخل اللبناني، تنقسم القراءات حيال النوايا الإسرائيلية. فهناك من يعتبر أن التصعيد جزء من حرب نفسية تهدف إلى دفع لبنان نحو المفاوضات من موقع ضعيف، فيما يرى آخرون أن إسرائيل بالفعل تمهّد لفرض أمر واقع جديد في شمال الليطاني، ولو بشكل تدريجي لا يقود بالضرورة إلى حرب شاملة من اللحظة الأولى. وفي ظل امتناع حزب الله عن الرد على اغتيال الطبطبائي، تتزايد التقديرات الإسرائيلية التي تراهن على استمرار سياسة “ضبط النفس”، بما يسمح بتوسيع مساحة الاستهداف دون خوف من رد استراتيجي.

وبذلك، يتحرك لبنان على مسارين متوازيين لم يلتقيا بعد:

  • مسار ميداني يتجه نحو رفع مستوى العمليات النوعية وتوسيع مجال الاستهداف،
  •  ومسار دبلوماسي عاجز عن تثبيت تهدئة طويلة الأمد. وبين هذين المسارين،

وتبدو الدولة اللبنانية محكومة بانتظار تسوية كبرى تعيد صياغة النظام الأمني والسياسي المقبل، وسط شروط دولية تربط الاستقرار بحلول تتجاوز قدرة المؤسسات الحالية على تنفيذها.

الخلاصة: لسنا إذاً أمام اغتيال عابر، بل أمام عملية تفتح الباب على مرحلة انتقالية غامضة، تتراجع فيها صلاحية التفاهمات القديمة، ويزداد فيها الضغط السياسي والعسكري على حزب الله، وتتقدم فيها إسرائيل بخطوات محسوبة نحو إعادة رسم قواعد اللعبة. في هذا الإطار، يصبح اغتيال الطبطبائي علامة مبكرة على مسار جديد قد لا يفضي فوراً إلى حرب شاملة، لكنه يعلن بوضوح أن التوازن الذي حكم الحدود منذ عام لم يعد قائماً، وأن لبنان يدخل مرحلة من إعادة التموضع الإقليمي لا تزال معالمها الأولى في طور التشكل.

زر الذهاب إلى الأعلى