نحو هندسة جديدة للمسجد الأقصى: التشريع الأميركي كأداة لإعادة تشكيل السيطرة الإسرائيلية

يشكل مشروع القانون الذي طرح في الكونغرس الأميركي لحظة فارقة في مسار السيطرة الإسرائيلية على القدس، إذ ينتقل هذا المسار للمرة الأولى من نطاق السياسة الميدانية والإدارية إلى مستوى التشريع الأميركي الملزم، بما يمنح إسرائيل غطاءً قانونيًا خارج أراضيها لترسيخ سيادتها الدينية على المسجد الأقصى. يعكس هذا التحول دورًا متصاعدًا للوبيات الصهيونية داخل واشنطن، وسعيًا لإعادة تعريف الوضع القانوني للحرم القدسي عبر خطاب “الحرية الدينية” الذي يستخدم كمدخل لإعادة صياغة حدود المكان ومعناه.

واستمرارًا لمسار التوسع الاستيطاني في القدس والضفة الغربية، ترافق اليوم خطوات تشريعية خارجية، ولا سيما في الولايات المتحدة، تمنح هذا المسار بعدًا قانونيًا ورسميًا، تستهدف ترسيخ السيطرة الإسرائيلية ليس على الأرض فحسب، بل على المقدسات أيضًا. وفي هذا السياق، طرح مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يتضمن اعترافًا ضمنيًا بالسيادة الإسرائيلية على المسجد الاقصى، الأمر الذي يشكل خرقًا خطيرًا للوضع القائم في القدس، ويمس بصورة مباشرة الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك. يعكس هذا التوجه انتقال بعض الدوائر في واشنطن من دعم سياسي تقليدي لإسرائيل إلى محاولة إضفاء شرعية قانونية على إجراءات السيادة الإسرائيلية في أقدس مواقع المدينة.

حيث نشر موقع الكونغرس الأميركي مقترح قانون تم تقديمه من قبل أعضاء الكونغرس الاثنين (Claudia Tenney and Congressman Clay Higgins ) ويدعم مقترح القانون هذا المنظمة الصهيونية الامريكية ومؤسسة حقيقة الشرق الأوسط[1] يقر على ما يلي:

  • حق الشعب اليهودي في الوصول الكامل الى المسجد الأقصى وحقه في الصلاة والعبادة فيه بما يتفق مع مبادئ الحرية الدينية.
  • الاعتراف بالدور المتكامل “لجبل الهيكل” في تراث الشعب اليهودي وتاريخه.
  • دعم الحكومة الإسرائيلية في جهودها لحماية حقوق المصلين المسلمين وسلامة الهياكل الإسلامية هناك وفقًا لسياسات “إسرائيل” الحالية.
  • التأكيد من جديد على الاعتراف بالقدس عاصمة غير مقسمة لإسرائيل، كما اعيد التأكيد مرارًا وتكرارًا في سياسة الولايات المتحدة وقانونها، بما في ذلك السيادة الإسرائيلية على الحرم المقدسي.

بهذه البنود، يتجاوز المقترح حدود التصريحات السياسية، ليقترب من صياغة تشريعية تسعى إلى إعادة تعريف الوضع القانوني والديني في الحرم القدسي، بما يتعارض مع قواعد “الوضع القائم” ومع الدور التاريخي للوصاية الهاشمية، إذ يُستخدم مفهوم “حرية العبادة” هنا كمدخل لتغيير الطابع القانوني للحرم القدسي، وتحويله من موقع ذي سيادة دينية-إسلامية واضحة إلى موقع “متنازع عليه” يُعاد تعريفه وفق المنظور الإسرائيلي.

يفتح هذا التطور الباب أمام سؤال جوهري: ماذا يعني ذلك لدور الأردن؟ حيث يمس مشروع القانون الأميركي الوصاية الهاشمية، ويتجاوز التفويض التاريخي للأردن بإدارة شؤون الحرم باعتباره وقفًا إسلاميًا خالصًا، ويقدم بديلًا قانونيًا ينقل شرعية الإشراف نحو إسرائيل. إذ ان ما تملكه الأردن اليوم هو وصاية ذات طابع ديني قانوني معترف بها في اتفاقية السلام، وليست مجرد وصاية رمزية. التشريع المقترح، عبر حديثه عن “الحق اليهودي في العبادة” و”السيادة الإسرائيلية على جبل الهيكل”، يفكك هذا الأساس القانوني ويحول الوصاية إلى مستوى ثانوي أو تشريفي، بما يفتح الباب أمام تغيير البنية الإدارية للمسجد وتقييد صلاحيات وزارة الأوقاف الأردنية. بذلك يتحول القانون من وثيقة دعم سياسي إلى أداة لإعادة توزيع السلطة الدينية داخل المكان.

جاء هذا المقترح في سياق جملة من الاعتبارات التي قدّمها الكونغرس، إذ ينطلق أولًا من التصور اليهودي لـ”جبل الهيكل” بوصفه أقدس موقع في اليهودية، استنادًا إلى الرواية القائلة إن الهيكل الأول – المنسوب إلى سليمان – بني قبل نحو ثلاثة آلاف عام، في القرن العاشر قبل الميلاد، ثم أعيد بناء الهيكل الثاني عام 516 قبل الميلاد المعروب باسم هيكل هيرودس، قبل أن يُدمَّرا لاحقًا. ويرى الكونغرس أن هذا الإرث يستند إلى “أدلة أثرية ونصوص توراتية” تؤكد وجودهما. كما يستدعي المقترح الحروب التي شكلت الوعي السياسي الأميركي تجاه القدس، ولا سيما حرب الأيام الستة عام 1967، التي آلت إلى خضوع القدس بشطريها للسيطرة الإسرائيلية، والتي تُقدّم إسرائيليًا باعتبارها لحظة “إعادة توحيد القدس”. ويُضيف الكونغرس إلى ذلك ما يصفه بـ “تخلي الأردن عام 1988 عن جميع مطالباته بممتلكاته في القدس”، إشارة إلى قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية. غير أن هذا الطرح يتجاهل أن فك الارتباط لم يشمل الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، التي بقيت قائمة ولم تُمس.

يرتكز المقترح كذلك على سردية إسرائيلية مفادها أن اسرائيل تضمن “الحرية الدينية” عبر إتاحة الوصول إلى الأماكن المقدسة لأتباع مختلف الديانات، وأن حقوق اليهود والمسيحيين في الحرم القدسي “مقيدة” مقارنة بحقوق المسلمين. ويستشهد الكونغرس بهذا من خلال الإشارة إلى أن المسلمين يستطيعون الوصول إلى الحرم عبر إحدى عشرة بوابة، فيما يُسمح لغير المسلمين بالدخول من بوابة واحدة فقط، وضمن ساعات زيارة محدودة “ومقيدة بشدة”، فضلًا عن منع دخول غير المسلمين يومي الجمعة والسبت، وحظر إقامة الطقوس اليهودية في المكان، بما في ذلك “إقامة السبت”. إضافة الى ذلك، تصور الولايات المتحدة نفسها على انها دافعت تاريخيًا عن الحرية الدينية، وأنها تعترف بحق إسرائيل “السيادي” في حماية مواقعها الدينية والتاريخية، وضمان وصول أفراد جميع الديانات إليها.

يمهد مشروع القانون لتحولات ملموسة على الأرض، حيث سيوفر غطاء تشريعيًا خارجيًا يتيح لإسرائيل توسيع نطاق الطقوس اليهودية داخل الحرم، بما قد يشمل السماح بالصلاة العلنية، أو تمديد ساعات الزيارة للمستوطنين، أو إنشاء مسارات دخول منفصلة. كذلك قد يستخدم لإعادة تعريف صلاحيات الشرطة بما يمكنها من التدخل المباشر في تنظيم الحركة داخل الأقصى، وتقليص دور الأوقاف في إدارة المكان. هذا التحول، إذا اكتمل، سيقود عمليًا إلى تفكيك قواعد الوضع القائم، وانتقال تدريجي نحو نموذج “تقاسم ديني” مشابه لما حدث في الحرم الإبراهيمي، لكن بغطاء قانوني أميركي.

ويأتي هذا الطرح في إطار علاقة غير متكافئة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تمنح واشنطن لإسرائيل مستوى غير مسبوق من الحماية السياسية والقانونية، يسمح للأخيرة بالتصرف خارج القيود التي تُفرض عادة على الدول في تعاملها مع القانون الدولي، وهو ما ينعكس هنا في محاولة الكونغرس إضفاء شرعية تشريعية على سيادة إسرائيل في المسجد الأقصى. وهي علاقة تمنح إسرائيل مستوى من الامتياز السياسي أشبه بعلاقة “الابن المفضل والمدلل”، بما يسمح لها بالتحرك خارج القيود التي تُفرض عادة على الدول الأخرى.

حيث يكتسب مشروع القانون الأميركي خطورته من قابليته للتحول إلى أداة تشغيلية داخل المنظومة الإسرائيلية، لا مجرد خطاب سياسي خارجي. فمن المرجّح أن يُستخدم كغطاء في المحاكم الإسرائيلية لتعزيز حجج “السيادة” عند النظر في الطعون ضد الاقتحامات أو توسيع ساعات الزيارة، كما يمنح الشرطة قاعدة دعم سياسية تتيح لها تنفيذ سياسات بن غفير بثقة أكبر تحت عنوان “حماية الحرية الدينية”. كذلك يوفر للمستوطنين مظلة شرعية تُسهّل تحويل وجودهم في الأقصى من زيارات رمزية إلى ممارسة دينية مدعومة بتشريع خارجي، بما يخلق مع الوقت واقعًا جديدًا على الأرض يُضعف دور الأوقاف ويعيد تشكيل قواعد الوضع القائم.

كما تمثّل الحادثة الأخيرة في المسجد الأقصى خرقًا واضحًا وجسيمًا لترتيبات الوضع القائم، إذ أقدم ثمانية مستوطنين على اقتحام المسجد عبر باب الأسباط حاملين معهم ماعزًا وثلاث حمامات وتفيلين في محاولة لإدخال قربان حيواني وذبحه داخل المسجد. يشكّل ذلك تجاوزًا غير مسبوق، ليس فقط لأن الاقتحامات “وفق ما استقر عليه الوضع القائم [2]” تتم حصراً عبر باب المغاربة، بل لأن إدخال القربان نفسه يُعدّ خطوة ذات دلالات دينية خطيرة ترتبط برمزيات “الخلاص” في الموروث الديني اليهودي، حيث تُستخدم التضحية بماعز أو خروف كفعل يسرع قدوم المخلص ويمهد لبسط السيطرة على المكان.

هذا السلوك لا يمكن قراءته بوصفه حادثًا منفصلًا، فالمستوطنون حاولوا سابقًا إدخال قرابين مماثلة، ما يعكس مسارًا متصاعدًا لاختبار حدود الوضع القائم وتغيير قواعده خطوة بخطوة. في هذا الإطار، تتحول الحادثة إلى إشارة إضافية على محاولات فرض أمر واقع جديد داخل المسجد، يطال آليات الدخول ورمزية الطقوس الدينية، ويمهد لتحوّل أعمق في بنية المكان ومعناه الديني والسياسي في آن واحد.

إلى جانب هذا، يُعتقد في الأوساط الإسرائيلية ان إيتمار بن غفير ينوي تعيين أفشالوم بيليد بدلا من أمير أرزاني[3] قائدًا لمنطقة القدس حيث يُنظر الى أرزاني كشخص يعرقل الإجراءات في المسجد الأقصى، إذ يرفض أرزاني الاستسلام لتحركات بن غفير لتغيير الأوضاع في الأقصى والتي تشمل المطالبة بالسماح بالصلاة العامة وتمديد ساعات الزيارة للمصلين اليهود الامر الذي يؤدي الى تغيير الوضع الراهن رسميًا بين الأردن وإسرائيل، لذا يُرجح ان بن غفير سيعين شخص يتماشى مع رؤيته ومستعد لإجراء تغييرات.

على مستوى اخر، يحاول بن غفير ان يفرض سياسة امر واقع على الأرض حيث يعمل على تحويل الوجود اليهودي في الأقصى من زيارات محدودة إلى طقوس دينية علنية، بما يخلق واقعًا جديدًا يعيد تعريف وظيفة المكان.
وسيعى الى إعادة تشكيل البنية القيادية للشرطة في القدس عبر تعيين شخصيات تتماشى مع رؤيته وتتبنّى مشروع التقسيم الزماني والمكاني، بالإضافة الى استخدام موقعه في الحكومة لخلق ضغط متواصل نحو شرعنة هذا التحوّل، سواء عبر قرارات داخلية أو دعم مشاريع قوانين خارجية.

بذلك، يصبح المشهد أكثر حساسية واتجاهًا نحو اليمين، إذ يسعى بن غفير إلى استثمار موقعه داخل الحكومة لفرض تغييرات تتماشى مع رؤيته العقائدية، لا سيما فيما يتعلق بالمكانة الدينية والأمنية للمسجد الأقصى. ولا تقتصر هذه المحاولات على تعديل الإجراءات الميدانية فحسب، بل تمتد إلى إعادة تشكيل منظومة القيادة الشرطية عبر الضغط لإقالة أو تغيير المسؤولين الذين يعترضون على مشروعه. يضع هذا النهج الوضع القائم تحت تهديد مباشر، ويزيد من احتمالات الانزلاق نحو سياسة أمر واقع أكثر تطرفًا، تُعيد رسم قواعد السيطرة والوجود في المدينة، ويمكن القول ان هذا التغيير لا يعبر عن توجه فردي يتمثل ببن غفير وحدة، بل يمثل أحد أذرع اليمين الإسرائيلي الذي يسعى الى فرض واقع يحاكي وما يحصل على الأرض.

في ظل هذا التداخل بين التشريع الأميركي، والضغط الميداني الإسرائيلي، ومحاولات تفكيك الوصاية الهاشمية وإعادة هندسة إدارة المسجد الأقصى، يبرز سؤال جوهري: هل يتجه المشهد نحو إعادة تعريف الحرم القدسي كفضاء سيادي إسرائيلي مكتمل الأركان، أم أننا أمام لحظة صدام ستدفع الأطراف الإقليمية والدولية إلى إعادة ضبط قواعد اللعبة قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة؟


[1] المنظمة الصهيونية الأمريكية ومؤسسة حقيقة الشرق الأوسط: من أبرز المجموعات اليمينية المؤيدة لإسرائيل في واشنطن، وتميل في خطابها ومواقفها السياسية إلى دعم توجهات اليمين الإسرائيلي، لا سيما سياسات بنيامين نتنياهو، من خلال تبنّي رؤيته تجاه الاستيطان، والقدس، والأمن القومي.

[2]  يمكن القول أن الوضع الراهن يشير إلى مجموعة من التفاهمات والترتيبات التاريخية غير المكتوبة التي تنظم إدارة المسجد الأقصى الشريف بين الأردن وإسرائيل، والتي تشكلت عبر تراكم من الممارسات الواقعية منذ عام 1967، بحيث تحدد دور كل طرف في إدارة المكان ووصول الزوار إليه دون أن تكون منصوصًا عليها في اتفاق رسمي.

[3] هو الأعلى رتبة في شرطة القدس والمسؤول المباشر عن شرطة المسجد الأقصى بما يشمل البلدة القديمة والمستوطنات المحيطة والتنسيق مع وحدات الحرس، وبحسب تايمز اوف إسرائيل هو واحد من القلائل من كبار المسؤولين المعارضين لمحاولات بن غفير في تغيير الأوضاع في المسجد الأقصى

زر الذهاب إلى الأعلى