الولايات المتحدة وحقيقة التحالفات: قراءة في خطاب الهيمنة والتبعية

لم تعد الولايات المتحدة دولة تقوم سياستها الخارجية على منظومة من التحالفات المستقرة، بل على شبكة من الأدوات المؤقتة التي تُستخدم لتحقيق أهدافها ثم تُستبدل متى انتفت الحاجة إليها. فواشنطن، كما يظهر من الخطاب السياسي والإعلامي الصادر عن بعض دوائرها، لا ترى في شركائها “حلفاء” بقدر ما تراهم “وسائل” لتكريس نفوذها، وركائز تُوظَّف ضمن منطق القوة لا منطق الشراكة. في هذا السياق، صرّح الخبير الأمريكي سكوت ريتر، المفتش السابق في الأمم المتحدة، بأنّ «الولايات المتحدة ليست حليفا لأحد، بل تستخدم الآخرين كأدوات تخدم مصالحها». هذه الجملة تكثّف جوهر المأزق الأخلاقي والسياسي في السياسة الخارجية الأمريكية اليوم. فريتر، وهو من داخل المنظومة الأمنية الأمريكية، لا يتحدث بلغة الخصوم، بل بلغة النقد الذاتي من قلب المؤسسة.

إنّ المضمون العميق لكلامه – “الولايات المتحدة ليست حليفا لأحد” – يعادل اعترافا ضمنيا بأنّ واشنطن فقدت الثقة التي كانت تميزها خلال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين كانت تقدم نفسها كقائدة للعالم الحر. أما اليوم، فإنها تُقدَّم على لسان أبنائها كمركزٍ للهيمنة لا للشراكة، وكقوةٍ تخشى أن يثق بها الآخرون لأنها لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها.

إن هذا الخطاب لا يُعبّر فقط عن موقف سياسي عابر، بل يعكس بنية فكرية متجذّرة في العقل الاستراتيجي الأمريكي، تقوم على “الواقعية الفجّة” التي ترى العالم ساحة مصالح لا منظومة قيم. فالتحالف، في المنظور الأمريكي الراهن، ليس التزاما متبادلا بل علاقة نفعية آنية تُدار بميزان الربح والخسارة. وهذا يختلف جذريا عن المفهوم الكلاسيكي للتحالف في العلاقات الدولية، الذي يقوم على الثقة النسبية والتكامل الاستراتيجي طويل المدى.

في هذا الخطاب، يتجلّى منطق الهيمنة بأوضح صوره: الدول ليست شركاء بل توابع، والاعتماد المتبادل ليس سوى تبعية مغطاة بمصطلحات دبلوماسية. الولايات المتحدة، من هذا المنطلق، تُمارس نوعا من “الهيمنة البنيوية” كما وصفها كيوهان وناي، أي السيطرة من خلال النظام المالي والمؤسسات الأمنية وشبكات الطاقة والاتصالات. هيمنة ناعمة في الشكل، لكنها قسرية في المضمون، تجعل من الفكاك الأمريكي أمرا شبه مستحيل دون كلفة باهظة.

يعكس هذا الخطاب تصاعد التيار الانعزالي داخل المجتمع الأمريكي، الذي يرى في شبكة التحالفات عبئا ماليا وسياسيا. إنه التيار الذي ازدهر مع ترامب واستمر بعده، ويعبّر عن تحوّل في المزاج الأمريكي من دور “الراعي العالمي” إلى دور “الفاعل الانتقائي”. ومن هنا، فإن هذا الخطاب ليس استثناء، بل جزء من نقاش أمريكي أوسع حول نهاية مرحلة الهيمنة وبداية عصر الحسابات الداخلية.

أما على المستوى العربي، فإن هذا الطرح يجب أن يُقرأ بعين استراتيجية لا انفعالية. فحين نقول أن القوة الكبرى إنها لا تمتلك حلفاء، فذلك يعني أن العالم العربي أمام فرصة لإعادة تعريف علاقته بها. على سبيل المثال قطر التي تُظهر هذا التعقيد، صحيح أن الدوحة ترتبط ارتباطا وثيقا بالبنية الأمنية والمالية الأمريكية، لكنّها تمكّنت في الوقت ذاته من المناورة في ملفات حسّاسة (طالبان، غزة، الوساطة الخليجية)، ما يدلّ على قدرة نسبية على توسيع هوامش القرار ضمن بنية الهيمنة نفسها. إنها سيادة في ظلّ التبعية، نموذج يُثبت أن الدول الصغيرة تستطيع أن تمارس تأثيرا إذا أحسنت قراءة موازين القوى.

وعلى المستوى الإقليمي، فإن الخطاب الأمريكي يؤكد تراجع الثقة في مفهوم “التحالف الأمني” الذي ساد منذ الخمسينيات. المظلة الأمريكية لم تعد مضمونة؛ الانسحاب من أفغانستان، التردد في دعم الحلفاء الخليجيين بعد الهجمات الإيرانية، والموقف الرمادي من حرب غزة، كلها مؤشرات على أن واشنطن لم تعد راغبة في خوض صراعات الآخرين. هذا التراجع يفتح الباب أمام تنويع الشراكات الدولية، سواء مع الصين أو روسيا أو حتى القوى الإقليمية الصاعدة مثل تركيا وإيران. غير أن هذه البدائل تتطلب أولا تحررا تدريجيا من الاعتماد البنيوي على الولايات المتحدة، وهو مسار طويل لا يتحقق بالشعارات بل بإصلاح اقتصادي وتكنولوجي عميق يضمن استقلال القرار.

وهنا تبرز المفارقة: فما زال النظام العربي يراوح بين خطاب الاعتماد المطلق على واشنطن وخطاب الرفض العاطفي لها، من دون بناء رؤية ثالثة تقوم على الشراكة المتكافئة والمصلحة المتبادلة.

ختاما، يقدّم هذا الخطاب درسا في الواقعية السياسية: القوة وحدها لا تصنع الثقة، والتحالفات لا تدوم إلا بقدر ما تخدم مصالح الأطراف جميعا. الولايات المتحدة التي تتعامل مع شركائها كأدوات ستجد نفسها في النهاية محاطة بالريبة، والعالم العربي الذي يتعامل مع القوة الكبرى كقدر محتوم سيبقى بلا استقلال حقيقي. بين الهيمنة والتبعية هناك مساحة اسمها الفهم، ومسؤولية النخبة العربية اليوم أن تملأ هذه المساحة بفكر استراتيجي جديد، يدرك أن السيادة لا تُمنح بل تُصنع، وأن من لا يمتلك خياراته، سيظل أداة في يد الآخرين مهما بدت العلاقة متينة.

زر الذهاب إلى الأعلى