حماس في زمن التسويات: من ما بعد الإسلامية إلى ما بعد الصهيونية – جدلية الإنسان والدولة

يُستخدم مصطلح “ما بعد الإسلامية” (Post-Islamism) لوصف مرحلة فكرية وسياسية جاءت بعد صعود وانحسار الموجة الإسلامية الكلاسيكية التي سادت العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن العشرين، لا سيما تلك المرتبطة بحركات الإسلام السياسي مثل جماعة الإخوان المسلمين أو الثورة الإسلامية في إيران. تمثل هذه المرحلة انتقالاً نوعياً في الفكر الإسلامي المعاصر، من مرحلة التعبئة الأيديولوجية والحركية إلى مرحلة المراجعة النقدية والتجريب الاجتماعي والسياسي.[1]

تجسّد مفهوم ما بعد الإسلامية في تحول فكري وثقافي عميق؛ فهي ليست ضد الإسلام، لكنها ضد تسييس الإسلام بوصفه أيديولوجيا شاملة أو مشروعاً سلطوياً يسعى لاحتكار الحقيقة الدينية والسياسية. إنها رؤية تسعى إلى تحرير الدين من الأيديولوجيا، وإعادته إلى فضائه القيمي والأخلاقي، بحيث يصبح مصدراً للمعنى والهوية الفردية أكثر من كونه أداة للسيطرة السياسية. من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى ما بعد الإسلامية بوصفها حالة فكرية-اجتماعية-ثقافية تعبّر عن إرهاق المشروع الإسلامي السياسي وفقدان جاذبيته لدى الأجيال الجديدة التي تبحث عن بدائل أكثر حرية وواقعية.

تتجلّى الخصائص الرئيسة لما بعد الإسلامية في عدة أبعاد مترابطة.[2] أولاً، الانتقال من الأيديولوجيا إلى التجربة، حيث لم يعد الإسلام إطاراً سياسياً شاملاً، بل أصبح مرجعًا أخلاقياً وثقافياً للتجربة الإنسانية. ثانياً، التحول من الجماعة إلى الفرد، إذ لم يعد الانتماء إلى الحركة أو الحزب الإسلامي هو مركز الهوية، بل التجربة الذاتية في الإيمان والممارسة اليومية. ثالثاً، الانتقال من الشمولية إلى التعددية، من خلال الاعتراف بتعدد القراءات والاجتهادات في فهم الإسلام وعدم حصره في نموذج سياسي واحد. رابعاً، التحول من التسييس إلى التمدين، أي التركيز على الإصلاح الاجتماعي والثقافي بدلاً من السعي إلى السيطرة على الدولة. وأخيرًا، الانتقال من الهوية إلى المواطنة، بما يعنيه ذلك من تعزيز لمفاهيم المشاركة المدنية، واحترام الاختلاف، والبحث عن صيغة ديمقراطية تنسجم مع القيم الإسلامية دون أن تخضع لها كأيديولوجيا مغلقة.

بهذا المعنى، تمثل ما بعد الإسلامية جهداً تاريخياً وفكرياً لإعادة تعريف الإسلام في سياق الحداثة، حيث يصبح الدين تجربة شخصية وأخلاقية مفتوحة، لا مشروعاً سياسياً يحتكر الحقيقة. إنها تعبير عن رغبة المجتمعات الإسلامية في استعادة روح الإسلام الأولى بوصفها قيماً للعدالة والرحمة والحرية، بعيداً عن التوظيف الأيديولوجي الذي جعل الدين مرادفاً للصراع على السلطة.

تمثل ما بعد الإسلامية جهداً لإعادة تعريف الإسلام في سياق الحداثة، حيث يصبح الدين تجربة شخصية وأخلاقية لا مشروعاً سلطوياً

وفي ضوء هذا التحول من الإسلام السياسي إلى ما بعد الإسلاموية، تبرز حركة حماس كحالة تُجسّد هذا الانتقال في السياق الفلسطيني، حيث تواجه الحركة تحديات فكرية وسياسية مشابهة لما شهدته الحركات الإسلامية الأخرى. هذه الحركة، التي قدّمت نفسها بوصفها مشروعاً تحررياً ذا مرجعية إسلامية جمعت بين المقاومة المسلحة والدعوة الاجتماعية والإدارة السياسية وسعت لدمج الهوية الدينية في المشروع الوطني الفلسطيني، تعيش اليوم لحظة سياسية وفكرية فارقة يمكن وصفها بأنها مرحلة انتقالية مضطربة بين الإسلام السياسي الكلاسيكي وما يمكن تسميته بـ ما بعد الإسلامية. فالمشهد الراهن في غزة يكشف عن تآكل في بنية السلطة الأيديولوجية، وازدياد الضغوط الدولية والعسكرية التي تدفع الحركة إلى إعادة النظر في موقعها بين الشرعية الدينية والواقعية السياسية. ومن أبرز مظاهر ذلك الضغوط المتزايدة لقبول مقترحات التسوية، مثل خطة دونالد ترامب التي تدعو إلى وقف شامل لإطلاق النار وتسليم إدارة غزة إلى هيئة انتقالية مدنية، مقابل إطلاق سراح الرهائن وتهيئة مرحلة جديدة لإعادة الإعمار. وقد أبدت حماس استعداداً مبدئياً لقبول بعض هذه البنود، لكنها لم تلتزم بعد بتسليم سلاحها أو الانسحاب الكامل من السلطة، ما يعكس حالة من التردد بين المحافظة على الهوية الإسلامية والانخراط في منطق الدولة الحديثة.

في هذا السياق، يمكن قراءة ما يجري مع حماس في ضوء مفهوم ما بعد الإسلامية كما صاغه آصف بيات، والذي يشير إلى التحولات التي تشهدها الحركات الإسلامية بعد أن أنهكتها التجارب السياسية والتنظيمية، وجعلتها تواجه أسئلة جديدة حول العلاقة بين الدين والسلطة والمجتمع. فكما في تجارب إيران وتركيا والسودان ومصر، يبرز في غزة اليوم تحول مشابه: تراجع الجاذبية الأيديولوجية للإسلام السياسي، وصعود خطاب اجتماعي ومدني جديد يطالب بالكرامة والحرية والعدالة، أكثر مما يطالب بالشعارات الدينية أو الأيديولوجية. فالمواطن الفلسطيني لم يعد يرى في الخطاب الإسلامي خلاصاً شاملاً، بل يطالب بإنهاء الحصار، وتحسين الخدمات، واستعادة الحياة الطبيعية، وهي مطالب تنتمي إلى فضاء المواطنة لا إلى فضاء العقيدة.

أما على الصعيد السياسي، فإن خطة ترامب تمثل اختباراً عملياً لمدى مرونة الحركة في التعامل مع واقع ما بعد الإسلاموية. فقبولها بمبدأ التفاوض وتسليم بعض الصلاحيات إلى هيئة انتقالية، ولو بشروط، يشير إلى نقطة انعطاف في فكرها السياسي، من العقيدة الثورية إلى البراغماتية الواقعية. هذا التحول لا يعني تخليها الكامل عن الإسلام كمرجعية، لكنه يعني تخليها عن فكرة “الإسلام كأيديولوجيا شاملة للحكم”، واستبدالها بفكرة “الإسلام كمرجعية قيمية وثقافية” يمكن التعايش معها داخل نظام مدني تعددي. إنه انتقال من حكم ديني مغلق إلى مرجعية دينية منفتحة، ومن “مشروع الدولة الإسلامية” إلى “تجربة الإسلام الاجتماعي”.

ومع ذلك، لا يمكن القول إن ما يحدث مع حماس يمثل “ما بعد إسلامية” مكتملة، بل هو أقرب إلى مرحلة الإسلاموية المأزومة أو المقنّعة، حيث تحاول الحركة التكيّف مع الضغوط دون أن تفقد هويتها الرمزية. فهي لا تزال ترفع شعار المقاومة وتستند إلى الشرعية الدينية لتبرير وجودها، لكنها في الممارسة اليومية تتعامل كسلطة مدنية تواجه تحديات اقتصادية وإدارية، أكثر مما تقود مشروعاً عقائدياً متماسكاً. هذا التناقض بين الخطاب والممارسة هو السمة الجوهرية لمرحلة الانتقال نحو ما بعد الإسلامية.

في جوهرها، لا تعني ما بعد الإسلامية نهاية الدين أو إلغاء المرجعية الإسلامية، بل تغيير العلاقة بين الدين والسلطة، والدين والمجتمع. وفي حالة حماس، يبدو هذا التغيير في طور التشكّل عبر الصراع الداخلي والخارجي معاً: داخلياً بين الجيل الجديد من الفلسطينيين الذي يطالب بالحرية والكرامة، وخارجياً بين حماس والنظام الدولي الذي يفرض عليها إعادة تعريف دورها السياسي. فإذا نجحت الأطراف المحلية والدولية في فرض تسوية تُجبر الحركة على التنازل عن بعض سلطاتها وتسليم الإدارة المدنية إلى هيئة انتقالية، فسنكون أمام نموذج واقعي لما بعد الإسلاموية في السياق الفلسطيني – تنظيم إسلامي يحتفظ بشرعية رمزية، لكنه يتخلى تدريجياً عن السيطرة الشاملة، ويترك المجال لمؤسسات المجتمع المدني والقوى الوطنية لإعادة تشكيل الحياة السياسية من جديد.

في المحصلة، تكشف تجربة حماس الراهنة عن تصدّع النموذج الكلاسيكي للإسلام السياسي، وتؤكد أن مستقبل الحركات الإسلامية لن يكون في استعادة الدولة الإسلامية، بل في إعادة دمج الدين في الحياة العامة من موقع القيم لا السلطة. إنها مرحلة إسلامية منهكة تبحث عن توازن جديد بين الإيمان والواقعية، بين الشرعية والمواطنة، وبين الرمز والمصلحة – وهي بذلك تجسد جوهر التحول الذي وصفه بيات قبل عقود: أن الإسلام السياسي حين يبلغ ذروته، يبدأ في التحول إلى ما بعد إسلامية، أي إلى دين يحرر نفسه من عبء الدولة ليعود إلى فضاء الإنسان.

غزة: صراع المرجعيات في النظام العالمي الجديد

في قلب الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، تواجه حركة حماس اليوم اختباراً وجوديّاً قد يغيّر شكلها كحركة إسلامية سياسية. بعد سنوات من الحكم في غزة، ومنذ اندلاع المواجهة الكبرى في أكتوبر 2023، تراكمت الأزمات الاقتصادية، الإنسانية، العسكرية والسياسية. هذا الواقع القاسي يضع حماس في مفترق بين الاستمرار في الخطاب الأيديولوجي القديم أو قبول إعادة ترتيب علاقاتها مع السلطة، الجمهور، والسلطة الدولية.

سبق أن عبّرت حماس عن موقف متردد من خطة ترامب، وهو ما يعكس أزمة التوازن بين هويتها الأيديولوجية ومتطلبات الواقع السياسي. في هذه الاستجابة نرى تجلّياً لواقع أن الحركة لم تستسلم فكريًا بعد، بل تحاول الموازنة بين الحفاظ على هويتها وبين التأقلم مع الضغوط. هذا لا يعني أنها دخلت بالفعل ما بعد الإسلامية، بل قد تكون في مرحلة “إسلامية مأزومة” أو “إسلامية مقنعة” – تستعمل الدين كغطاء لكن تتصرف براغماتية سياسية.

إذا نجح هذا المسار (قبول جزئي أو تدريجي لخطة ترامب أو ما يماثلها)، فقد نشهد في غزة نموذجاً لإسلام سياسي لم يُلغَ، لكنه انتقل من سلطة الحكم الشامل إلى دور التأثير الثقافي والمدني، مما يقترب من مفهوم ما بعد الإسلامية. فبدل أن تُحكم الحركة الدولة بعصا الأيديولوجيا، تُصبح مرجعية تضبط الخطاب الأخلاقي والرمزي، بينما تُدار الحياة اليومية بمؤسسات مدنية أو تكنوقراطية.

أما على صعيد الشرق الأوسط ككل، فهذه الخطة – ضمن مروحة الضغوط الأميركية الإقليمية – قد تؤدّي إلى إعادة رسم خريطة النفوذ: تحويل غزة من منطقة لحزب مقاوم إلى منطقة خاضعة لإدارة دولية أو عربية، وربما محاولة دمجها في مشاريع اقتصادية إقليمية تحت إشراف غربي. بهذا، تتحول القضية الفلسطينية من صراع أيديولوجي إلى إدارة “أزمة ما بعد الحرب” – أي من مقاومة إلى إعادة إعمار وإدارة. هذه الظاهرة يمكن أن تستنسخ في أماكن أخرى، مثل لبنان أو العراق أو سوريا، حيث تتحول القوى الدينية إلى فاعلين ثقافيين أو مجتمعيين بدل سياسيين مباشرة.

المسيحية الصهيونية: الوجه الآخر للاهوت السياسي

بعد انحسار الموجة الإسلامية الكلاسيكية ودخول الحركات الإسلامية مرحلة المراجعة الذاتية، برز في المقابل مسار ديني-سياسي مغاير في العالم الغربي تمثله المسيحية الصهيونية. هذا التباين يكشف عن مفارقة لافتة في مسار العلاقة بين الدين والسياسة: ففي حين يميل الفكر الإسلامي المعاصر إلى نزع الطابع الأيديولوجي عن الدين وإعادته إلى فضائه القيمي والأخلاقي، يتجه الفكر الديني الغربي نحو إعادة تسييس الإيمان المسيحي وتوظيفه في خدمة المشروع الجيوسياسي للهيمنة الغربية. هنا تتقاطع الأزمتان – أزمة الإسلاموية وأزمة الحداثة الغربية – في مشهد واحد يعيد توزيع الأدوار بين الدين والدولة، بين الإيمان والسلطة.

وإذا كانت ما بعد الإسلاموية تعبّر عن انكفاء الدين الإسلامي إلى فضائه القيمي، فإن المسيحية الصهيونية تمثل في المقابل تمدد الدين المسيحي نحو الفضاء السياسي. في هذا المشهد، تبرز ظاهرة المسيحية الصهيونية (Christian Zionism) كعامل داعم في الخلفية. تمثل المسيحية الصهيونية أحد أبرز التيارات الدينية التي منحت المشروع الصهيوني بُعداً لاهوتياً. فهي لا تكتفي بدعم سياسي لإسرائيل، بل تضفي على وجودها شرعية دينية قائمة على التفسير الإنجيلي للنبوءة.[3]

يشهد الشرق الأوسط اليوم تحوّلاً مزدوجاً ومعقّداً في البنية الفكرية والسياسية، يتمثل من جهة في انحسار الإسلام السياسي ودخول الحركات الإسلامية مرحلة ما بعد الإسلامية، ومن جهة أخرى في تقدّم المسيحية الصهيونية كمحرّك أيديولوجي للسياسات الغربية، خصوصاً الأميركية. هذا التوازي غير المتكافئ بين التيارين يكشف عن مواجهة فكرية غير مباشرة بين رؤيتين دينيّتين تسعيان – كل بطريقته – إلى إعادة تأويل دور الدين في السياسة الدولية، أحدهما في حالة تراجع نقدي، والآخر في حالة تمدّد استراتيجي.

إذا نجحت خطة ترامب أو نسخها في فرض واقع جديد، فسنرى أن المسيحية الصهيونية تتحول من عامل دعم إلى أداة لإعادة ترتيب النفوذ الثقافي والديني في الشرق الأوسط: تُستخدم لإضفاء شرعية دينية على مشاريع التسوية أو التطبيع. في هذا السيناريو، تصبح الصراع ليس فقط “إسلامي-إسرائيلي” بل “دين سياسي يؤيد مشروعاً قوميّاً” تتداخل فيه النصوص الدينية والمصالح الجيوسياسية.

المفارقة أن ما بعد الإسلامية والمسيحية الصهيونية تمثلان اتجاهين متعاكسين في مسار الدين والسياسة:

  • الأولى تسعى إلى نزع التسييس عن الدين الإسلامي وإعادته إلى المجال القيمي والاجتماعي؛
  • بينما الثانية تسعى إلى إعادة تسييس الدين المسيحي وتحويله إلى أداة استراتيجية لإدارة النظام الدولي.

بهذا المعنى، يمكن القول إن العالم يشهد تراجع الإسلام السياسي وصعود المسيحية السياسية. ففي حين تنكفئ الحركات الإسلامية نحو مراجعات داخلية، تخرج الحركات الإنجيلية نحو المجال العام وتؤثر في القرارات الكبرى في واشنطن وتل أبيب.

المسيحية الصهيونية تمنح إسرائيل بعداً لاهوتياً يبرّر سياساتها التوسعية، بينما تدفع ما بعد الإسلامية المسلمين نحو براغماتية دينية بلا مشروع جامع

هذا التناقض يضع الشرق الأوسط في قلب صراع مرجعيات ميتافيزيقية لا يقل خطورة عن الصراع الجيوسياسي. فالمسيحية الصهيونية تمنح إسرائيل بعداً لاهوتياً يبرّر سياساتها التوسعية، بينما تدفع ما بعد الإسلامية المسلمين نحو براغماتية دينية بلا مشروع جامع، مما يخلق خللاً في التوازن الرمزي والروحي في المنطقة. فإذا كانت الأولى تُضفي قداسة على القوة، فإن الثانية تُجرّد المقاومة من ميتافيزيقياها وتتركها في فضاء الواقعية السياسية البحتة.

في النهاية، إن مواجهة ما بعد الإسلامية والمسيحية الصهيونية ليست مواجهة بين الإسلام والمسيحية، بل بين رؤيتين للعلاقة بين الدين والسياسة في القرن الحادي والعشرين:

رؤية تعتبر الدين أداةً لتبرير القوة، وأخرى تسعى لأنسنة الدين وفصله عن الصراع.

لكن خطر هذه المواجهة يكمن في أن انكفاء الفكر الإسلامي يوازي تمدّد الفكر الصهيوني المسيحي، ما قد يعيد تشكيل الوعي الديني العالمي وفق ميزان قوى غير متكافئ، تُستخدم فيه النبوءة سلاحاً والدين أداة لإعادة هندسة الشرق الأوسط الجديد.

يتمثل التحول الجوهري في الفكر السياسي-الديني الغربي المعاصر في تحويل مفهوم “السلام” من قيمة أخلاقية إلى أداة سياسية تخدم المشروع المسيحي الصهيوني، الذي يربط السلام بتحقيق النبوءة التوراتية بعودة المسيح بعد تجمع اليهود في فلسطين. في هذا الخطاب، تُقدَّم إسرائيل كأداة إلهية لا كقوة استعمارية، ويُصبح الاعتراض على سياساتها رفضاً لإرادة الله، فيتحوّل “السلام الإسرائيلي” إلى هيمنة روحية تُبرّر القهر المادي. وقد سخّرت الولايات المتحدة، خصوصاً في عهدي بوش الابن وترامب، هذا اللاهوت لتسويق خطط التسوية وفرض التطبيع تحت شعار ديني خلاصـي تدعمه شبكات إنجيلية كبرى مثل Christians United for Israel. وهكذا أُفرغ مفهوم السلام من معناه القرآني والإنجيلي الأصلي القائم على العدالة والرحمة، ليغدو “سلام المنتصر” الذي يُقدّس الظلم ويُجرّم المقاومة. وبينما ينجح الخطاب الصهيوني المسيحي في توظيف الرمز والدين لتبرير الهيمنة، يعاني الفكر الإسلامي والعربي، بعد أفول الإسلام السياسي وظهور ما بعد الإسلامية، من عجز عن إنتاج بديل قيمي للسلام يقوم على العدالة لا الخضوع، مما يجعل “السلام الصهيوني” الرواية الغالبة في عصر اللاهوت السياسي وما بعد الحقيقة.

الصراع بين اللاهوت السياسي الغربي والعقل الإصلاحي الإسلامي: من ما بعد الإسلاموية إلى ما بعد الصهيونية

يدخل العالم اليوم مرحلة جديدة من الصراع الفكري تُعيد تعريف العلاقة بين الدين والسياسة على نطاق كوني. لم يعد الصراع محصوراً بين “الإسلام والغرب” أو بين “المقاومة والاستعمار”، بل أصبح مواجهة أعمق بين لاهوت سياسي غربي متجدد يسعى إلى فرض هيمنة دينية – رمزية على العالم، وعقل إسلامي إصلاحي في طور التشكل يحاول أن يجد طريقاً جديداً بعد أفول الإسلام السياسي التقليدي. إنها مواجهة بين مشروعين: أحدهما يُؤمن بقداسة القوة، والآخر يبحث عن إنسانية الإيمان.

اللاهوت السياسي الغربي، الذي تمثله اليوم المسيحية الصهيونية والتحالف الإنجيلي-اليهودي، لا يُخفي طموحه في تحويل الدين إلى أداة استراتيجية لإدارة العالم. فهو يستند إلى سردية خلاصية ترى أن التاريخ يسير نحو تحقق نبوءات إلهية في الشرق الأوسط، وأن قيام إسرائيل وتمدّدها جزء من “الخطة الربانية”. بهذا المعنى، لم تعد الصهيونية مجرد مشروع قومي يهودي، بل عقيدة عالمية تستند إلى تأويل مسيحي للتوراة والإنجيل، وتُمنح بُعداً كونيّاً يجعلها فوق النقد السياسي والأخلاقي. هذه الرؤية تمنح الغرب “تفويضاً إلهياً” لإعادة تشكيل الجغرافيا والسلطة في الشرق الأوسط، تحت شعار “نشر السلام” و”حماية القيم الإلهية”.

في المقابل، يقف العقل الإصلاحي الإسلامي في لحظة تأمل وجودي بعد سقوط الإسلاموية الكلاسيكية. فالفكر الإسلامي الذي كان في القرن العشرين أسير فكرة “الدولة الإسلامية” يجد نفسه اليوم أمام ضرورة إعادة بناء مفاهيم الحرية، العدالة، والمواطنة في ضوء واقع ما بعد الحداثة. من هنا جاءت ما بعد الإسلامية كإطار نقدي يحرر الدين من الأيديولوجيا، ويعيده إلى فضائه القيمي والفردي. لكنها رغم أهميتها لم تنجح بعد في بلورة مشروع حضاري متكامل يوازي الزخم الرمزي لللاهوت السياسي الغربي، لأنها ما زالت في طور الدفاع لا المبادرة، وفي طور النقد أكثر من البناء.

التحدي الحقيقي أمام الفكر الإسلامي اليوم هو الانتقال من ما بعد الإسلامية إلى ما بعد الصهيونية – أي من مرحلة نقد الذات الدينية إلى مرحلة نقد البنية اللاهوتية للهيمنة الغربية نفسها. فالمطلوب ليس فقط مراجعة العلاقة بين الإسلام والسياسة، بل أيضاً فكّ التقديس الغربي للقوة باسم الدين، وكشف تناقضات الخطاب المسيحي الصهيوني الذي يُبرر الظلم باسم النبوءة. إن “ما بعد الصهيونية” لا تعني إنكار حق اليهود في الوجود، بل تحرير الوعي العالمي من الفكرة اللاهوتية التي تحوّل الاحتلال إلى قدرٍ إلهي.

بين انكفاء الدين الإسلامي نحو الذات وتمدد اللاهوت الصهيوني نحو الجغرافيا، يتكشف مأزق عالمي في معنى المقدّس ذاته

يبدو أن مستقبل الصراع لن يُحسم بالسلاح أو الاقتصاد، بل بالمعنى. فالمعركة المقبلة هي معركة الروايات الكبرى: من يملك الحق في تفسير المقدّس وتوجيهه نحو الإنسان لا نحو الدولة؟ من يستطيع أن يُعيد تعريف السلام كعدالة لا كخضوع، والدين كتحرّر لا كإخضاع؟

إن بقاء العالم أسير لاهوت القوة الصهيوني المسيحي يعني استمرار دورة العنف المقدس، أما نجاح العقل الإصلاحي الإسلامي في تحويل الدين إلى مشروع إنساني مدني، فسيعني ميلاد مرحلة جديدة من التوازن الروحي في النظام الدولي.

إن ما بعد الإسلامية ليست نهاية الدين، بل بداية إعادة اكتشافه خارج منطق الصراع، وما بعد الصهيونية ليست نهاية إسرائيل، بل نهاية احتكارها للقداسة. بين هذين الأفقين، قد يولد وعي عالمي جديد، يحرر الدين من الأيديولوجيا، والسياسة من الميتافيزيقيا، ليؤسس لشرق أوسط تكون فيه القيمة الأخلاقية بديلاً عن النبوءة السياسية، والعدالة الإنسانية بديلاً عن الخلاص المزعوم.

حماس في مفترق التحول بين الأيديولوجيا والواقع

منذ اندلاع المواجهة الكبرى في أكتوبر 2023، دخلت حماس في صراع وجودي مع إسرائيل ومع بيئتها الإقليمية، لكنها وجدت نفسها أيضاً في صدام مع ذاتها الفكرية. فبعد أكثر من عقد ونصف من إدارة قطاع غزة، بدأت تتآكل شرعيتها الداخلية بفعل الانقسام، الأزمات الإنسانية، والاحتجاجات الشعبية المتكررة التي تطالبها بإنهاء الحكم الأحادي. ومع قبول حماس الجزئي بالمقترح الأميركي – بشروط – يكشف عن تحول عميق في طبيعة الحركة. فبينما ترفض نظرياً التخلي عن سلاحها، فإنها عملياً بدأت تتعامل بمنطق “الواقعية الدفاعية”، لا بمنطق “الأيديولوجيا الشمولية”. هذه المفارقة تعبّر عن دخول حماس مرحلة الإسلامية المأزومة، أي أنها لا تزال تستعمل الخطاب الإسلامي، لكنها تتصرّف خارج منطق الإسلاموية الثورية، وتتجه تدريجياً نحو موقع ما بعد الإسلاموية كما وصفه آصف بيات – أي التحول من مشروع “السلطة الإسلامية” إلى “الفاعلية الدينية – المدنية”.

تمثل ما بعد الإسلامية لحظة مراجعة تاريخية للحركات الإسلامية بعد فشلها في تحقيق وعودها الأيديولوجية، إذ لم يعد الدين مشروع دولة بل إطاراً أخلاقياً للحياة العامة. وفي هذا السياق تُجسّد حركة حماس نموذجاً حيّاً لهذا التحول القسري من المقاومة الأيديولوجية إلى المقاومة البراغماتية، ومن الحكم الإسلامي الشامل إلى إدارة الأزمة الإنسانية، ومن شرعية الجهاد إلى شرعية البقاء الاجتماعي والسياسي. فقد دفعت الحرب، الحصار، والانقسام الداخلي الحركة إلى إعادة التفكير في مفهوم “المقدّس السياسي”، بعدما أصبح من المستحيل الجمع بين الخطاب الديني المتعالي والواقع المدني المنهك. وبذلك دخلت حماس، بوعي أو دون وعي، في عملية علمنة تدريجية للخطاب الإسلامي، حيث لم تعد المقاومة عقيدة لاهوتية بل مطلباً وطنياً للبقاء، ما يجعلها في موقع وسط بين الإسلاموية التقليدية والعلمانية الناشئة – أي في منطقة ما بعد الإسلاموية التي تحاول التوفيق بين الإيمان والواقعية السياسية.

ما يجري اليوم في غزة ليس مجرد حرب أو جولة تفاوض جديدة، بل مختبر تاريخي لتحوّل العلاقة بين الدين والسياسة في العالمين العربي والإسلامي. فغزة تمثل اليوم نقطة التقاء بين نهاية الإسلاموية الكلاسيكية وذروة المسيحية الصهيونية، حيث تتقاطع أزمة الإيمان بالمقاومة مع انتشاء الإيمان بالقوة. في هذا المشهد، تبدو حركة حماس في موقع مركّب ومعقّد؛ فهي من جهة تُجسّد إرث الإسلام السياسي المقاوم، ومن جهة أخرى تواجه واقعاً جديداً يفرض عليها إعادة تعريف موقع الدين داخل الدولة والمجتمع.

تجربة حماس تكشف عن تصدّع النموذج الكلاسيكي للإسلام السياسي، وتؤكد أن مستقبل الحركات الإسلامية لن يكون في استعادة الدولة الإسلامية، بل في إعادة دمج الدين في الحياة العامة من موقع القيم لا السلطة

رغم مأزقها، تمثل حماس البوابة الأولى لانتقال الفكر الإسلامي من لاهوت السلطة إلى لاهوت الإنسان، أي من الإسلام كأداة حكم إلى الإسلام كمنظومة قيم ومعنى. في المقابل، تمثل المسيحية الصهيونية الوجه الآخر لهذا التحول العالمي، إذ تُحوِّل الإيمان إلى استراتيجية جيوسياسية عابرة للقارات تسعى لإضفاء القداسة على القوة، ولإعادة تشكيل الشرق الأوسط على أساس نبوءة توراتية تخلط بين الدين والسياسة. ومن هنا تنشأ المفارقة الكبرى: فبينما يحاول الإسلام السياسي التخفّف من أعبائه اللاهوتية والسلطوية، يتمسّك الغرب بتديين القوة وجعلها مشروعة باسم “السلام الإلهي” و”الوعد المقدس”.

في ظل هذا التناقض، تعيش حماس ما يمكن تسميته بـ مرحلة الإسلاموية المأزومة؛ فهي لم تتخلَّ بعد عن مرجعيتها الإسلامية، لكنها باتت تمارسها بصورة دفاعية لا هجومية، محاولةً الحفاظ على هويتها الرمزية في ظل حصار داخلي وخارجي، وتراجع شعبيتها في الشارع الغزّي. لم تعد الأيديولوجيا مصدر قوة للحركة كما كانت في السابق، بل تحولت إلى عبء تحاول إعادة تعريفه في ضوء واقع سياسي وإنساني ضاغط. هذا التراجع في الخطاب الأيديولوجي يوازي تحولاً بنيوياً في علاقة الدين بالسلطة داخل التجربة الحمساوية، إذ يُحتمل أن تضطر الحركة مستقبلاً إلى تسليم الإدارة المدنية في غزة إلى هيئة انتقالية أو وطنية، مع احتفاظها بدور رمزي أو مقاوم، وهو ما سيشكّل نقلة نوعية من “الإسلام كأيديولوجيا حكم” إلى “الإسلام كقيمة ثقافية مرجعية” – أي إلى فضاء ما بعد الإسلامية.

في ضوء هذه المعطيات، يمكن تصور ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل حماس:

الأول هو التحول الجذري، وهو السيناريو ما بعد الإسلامي، الذي قد يتحقق إذا قبلت الحركة بتقاسم السلطة أو تسليمها لهيئة مدنية، مع بقائها كتيار ثقافي ووطني مؤثر. عندها ستتحول من “حركة حكم” إلى “حركة تأثير”، وتصبح نموذجاً عملياً لما بعد الإسلامية في السياق الفلسطيني.

أما السيناريو الثاني فهو الجمود الأيديولوجي، أي تمسك حماس بخطابها الإسلامي الكامل ورفضها لأي تنازلات جوهرية، وهو خيار سيقود إلى عزلة أوسع وربما انقسامات داخلية بين جناح براغماتي وآخر متشدد.

أما السيناريو الثالث، الأكثر واقعية على المدى القريب، فهو التحول المقنّع أو “الإسلامية المقنّعة”، حيث تحافظ الحركة على خطابها الديني التقليدي ظاهرياً، لكنها عملياً تنخرط في ترتيبات سياسية واقعية تسمح بإعادة دمجها في النظام الفلسطيني. في هذا الشكل الهجين، تصبح ما بعد الإسلامية ممارسة عملية داخل إطار إسلامي رمزي.

الرهان الأكبر في هذه المرحلة لا يتعلق بمصير حماس وحدها، بل بمستقبل العقل الإصلاحي الإسلامي القادر على تجاوز حدود التنظيم والحزب لإعادة تعريف الدين خارج منطق الدولة والهيمنة. فإذا تمكن هذا التيار من بلورة رؤية دينية إنسانية تتصدى لخطاب القداسة القسرية في المسيحية الصهيونية، فقد يولد في الشرق الأوسط وعي جديد يُفكّك الأسطورة اللاهوتية التي جعلت من إسرائيل “قدراً مقدساً لا يُسائل”. عندها فقط يمكن أن يبدأ عصر ما بعد الإسلاموية وما بعد الصهيونية، أي عصر شرق أوسطي جديد – إنساني لا مقدّس، عادل لا مخلَّص، مدني لا لاهوتي.

في جوهر المشهد الراهن، تبدو ما بعد الإسلامية وما بعد الصهيونية مسارين متقابلين لأزمة واحدة يعيشها الدين في زمن الدولة والهيمنة. فالأولى تحاول تحرير الإيمان من عبء السلطة وإعادته إلى مجاله القيمي والإنساني، بينما الثانية تُلبس القوة لباس القداسة وتحوّل النبوءة إلى مشروع سياسي. وبين انكفاء الدين الإسلامي نحو الذات وتمدد اللاهوت الصهيوني نحو الجغرافيا، يتكشف مأزق عالمي في معنى المقدّس ذاته: هل يظل الدين طاقة للمعنى والتحرر، أم يتحول إلى أداة للسيطرة والتبرير؟ في هذا التناقض العميق تتواجه رؤيتان للعالم – إحداهما تُؤنسن الإيمان، والأخرى تُؤلّه القوة.

مراجع

Abu Rumman, Mohammad. The Islamists after a Decade of the Arab Spring: The Questions of Revolution and the Test of Power. Amman: Friedrich-Ebert-Stiftung (FES), 2021.

Bayat, Asef. Post-Islamism: The Changing Faces of Political Islam. Oxford University Press, 2013.

Ben Lazreg, Houssem. “Post-Islamism in Tunisia and Egypt: Contradictory Trajectories.” Religions 12, no. 6 (2021).

Gerry Shih and Karen DeYoung, “Hamas accepts Trump’s plan to end the war in Gaza, but with conditions,” The Washington Post, October 3, 2025.

Halah Ahmad, Kirk, Mimi. “Christian Zionism and the Danger of Its Exceptionalism.” Al-Shabaka – The Palestinian Policy Network, October 3, 2023.

Luck, Taylor. “Hamas at Crossroads: Pragmatism, Isolation, and the Uncertain Path Ahead.” Wilson Center, January 22, 2025.

Makdisi, Saree. Tolerance Is a Wasteland: Palestine and the Culture of Denial. University of California Press, 2022.

Orabi, Sari. “Shadows of History and Ghosts of the Future: Hamas and Jihad after the Al-Aqsa Flood.” Journal of Palestinian Studies 141 (Winter 2025).

Weber, Timothy P. On the Road to Armageddon: How Evangelicals Became Israel’s Best Friend. Grand Rapids: Baker Academic, 2008.

Weller, Marc. “Can the Trump Peace Plan for Gaza Succeed?” Chatham House – International Affairs Think Tank. October 2, 2025.


[1] ظهر المصطلح في تسعينيات القرن الماضي، وارتبط بشكل خاص بأعمال الباحث الإيراني آصف بيات Asef Bayat  الذي استخدمه لوصف التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية التي شهدتها المجتمعات الإسلامية بعد فشل التجارب الإسلامية في تحقيق وعودها الأيديولوجية. فقد كشف الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دول مثل إيران، السودان، أفغانستان، تركيا، ومصر عن تناقضات عميقة بين الخطاب الإسلامي المعلن ومتطلبات الدولة الحديثة. هذا الفشل ولّد داخل التيارات الإسلامية نزعة مراجعة نقدية، أعادت التفكير في العلاقة بين الدين والسياسة، وبين الإيمان والمواطنة، والدين والحداثة.

[2]  في هذه المرحلة، يتحوّل التركيز من “الهوية الإسلامية” إلى “الفرد المسلم”، أي من المشروع الجماعي الذي كان يهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية إلى تجربة الإيمان الفردي والقيم الذاتية والحرية الشخصية. كما يُعاد دمج الدين في الحياة اليومية لا بوصفه سلطة سياسية أو منظومة شعاراتية، بل كمرجع أخلاقي وثقافي يوجّه السلوك الفردي والاجتماعي. كذلك، تسعى ما بعد الإسلامية إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، محاولةً تجاوز الثنائية التقليدية بين الأصالة والمعاصرة.

[3] الملامح اللاهوتية الأساسية: تعتبر قيام إسرائيل تحقيقاً لوعد إلهي ورد في النصوص المقدسة، ترى أن عودة اليهود إلى فلسطين خطوة نحو تحقق نبوءة “عودة المسيح”، تُقدّم إسرائيل كأداة إلهية لا ككيان سياسي، مما يضعها فوق النقد الأخلاقي والسياسي، و تستخدم هذه الرؤية لتبرير السياسات التوسعية وتغذية الدعم الأميركي لإسرائيل.

زر الذهاب إلى الأعلى