من حدود 1967 إلى حدود الواقع: الاعترافات الدولية بفلسطين وتحديات الأردن

شهدت الأشهر الأخيرة تحولات بارزة في المواقف الدولية تجاه القضية الفلسطينية، إذ اعترفت دول مؤثرة مثل بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال بدولة فلسطين، في خطوة سياسية شكلت ضغطاً إضافياً على إسرائيل. في 22 سبتمبر 2025، اعترفت ست دول جديدة بفلسطين كدولة، منهم فرنسا، أندورا، بلجيكا، لوكسمبورغ، مالطا، وموناكو.[1] ليصبح إجمالي عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي تعترف بدولة فلسطين الآن هو حوالي 156 دولة من أصل 193.[2] يأتي ذلك في ظل استمرار التصعيد العسكري الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، وتنامي الأصوات داخل الحكومة الإسرائيلية المطالِبة بضمّ أراضٍ من الضفة الغربية. هذا التناقض بين الشرعية الدولية وسياسات العنف والقوة الإسرائيلية يطرح معادلة معقدة على مستقبل الشرق الأوسط.

فإسرائيل تواصل تصعيد سياساتها العسكرية والسياسية على الأرض، أهمها تكثيف الاستيطان، حيث تقوم الحكومة الإسرائيلية بتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، بما يقوّض فرص إقامة أي كيان فلسطيني -حتى ولو كان أقل من دولة- متصل جغرافياً. إضافة الى الرفض السياسي، إذ تعلن إسرائيل بشكل صريح رفضها لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، معتبرة أن أي اعتراف دولي بفلسطين خطوة “أحادية الجانب” تهدد أمنها.

الاعتراف الدولي المتصاعد

على مدار العقود الماضية، ظل الاعتراف بدولة فلسطين قضية جدلية في الساحة الدولية. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحولات نوعية، أولها تنامي الاعتراف الأوروبي، فقد بادرت بعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا، النرويج، وأيرلندا في الاعتراف الرسمي بفلسطين، مما شكّل ضغطاً على بقية الدول الأوروبية التي ما زالت تتبنى مواقف متحفظة.

يمثل الاعتراف الدولي المتصاعد بدولة فلسطين تحولاً سياسياً وقانونياً مهماً، لكنه لا يغيّر بالضرورة موازين القوة على الأرض ما لم يُترجم إلى خطوات عملية

شكّل هذا تحولاً كبيراً في المواقف الغربية تجاه هذا الملف، فحين تعترف دول غربية كبرى بدولة فلسطين في هذا التوقيت بالذات، قد يكون الأمر في ظاهره خطوة قانونية–سياسية داعمة للحقوق الفلسطينية، لكنه لا يخلو من اعتبارات أخرى. فمن غير المنطقي أن تتحرك دول كبرى ظلت لعقود تغضّ الطرف عن الاحتلال فجأة بدافع “العدالة” فقط، خصوصاً أنها في الوقت ذاته تواصل توقيع صفقات سلاح مع إسرائيل، وتغطي عملياً سياساتها في غزة والضفة الغربية. ومن أبرز ما قد يُراد تمريره خلف هذه الموجة:

  • إعادة تموضع الغرب أمام الرأي العام

في العواصم الغربية، تصاعدت الاحتجاجات ضد الدعم العسكري لإسرائيل، وارتفعت أصوات الناخبين الغاضبة من صور المجازر في غزة. الحكومات، بدلاً من مراجعة سياساتها أو وقف صفقات السلاح، لجأت إلى الاعتراف بفلسطين كـ خطوة رمزية تجميلية. الاعتراف هنا ليس دعماً حقيقياً بقدر ما هو وسيلة لإسكات الشارع وإعادة تلميع الصورة الأخلاقية أمام الرأي العام.

  • الاعتراف بلا أدوات تنفيذية

من المفارقات أن بعض هذه الدول التي تعترف بفلسطين ما زالت تُزوّد إسرائيل بالسلاح أو تمنحها غطاءً دبلوماسياً في المحافل الدولية. بهذا الشكل، يصبح الاعتراف مجرد واجهة إعلامية تخفي خلفها استمرار الشراكة الأمنية والعسكرية مع تل أبيب. فالاعتراف لا يترافق عادة مع آليات تنفيذية: لا عقوبات على إسرائيل، ولا إلزام بالانسحاب أو وقف الاستيطان. هنا يُخشى أن يكون الهدف “إرضاء” الفلسطينيين والعالم العربي دون تغيير جوهري على الأرض.

كل توسع استيطاني إسرائيلي يُقوّض مرجعية حدود 1967، ويحوّل الاعترافات الدولية إلى شرعية رمزية بلا أفق تنفيذي

  • الدوافع الجيوسياسية الغربية

الغرب يخشى خسارة نفوذه في الشرق الأوسط لصالح روسيا والصين، خاصة بعد الحروب الأخيرة واشتداد التنافس على الطاقة والتكنولوجيا. الاعتراف بفلسطين يُستخدم كـ بطاقة تفاوضية أو كـ أداة دبلوماسية مع الدول العربية والإسلامية لاحتواء الغضب وقطع الطريق على خصومه الجيوسياسيين، وليس بالضرورة كالتزام فعلي بإنهاء الاحتلال.

  • الضغط غير المباشر على إسرائيل

هناك قراءة تقول إن الاعتراف يهدف إلى توجيه رسالة غير مباشرة لحكومة نتنياهو: أن سياساتها المتطرفة (الاستيطان، الضم، تهميش حل الدولتين) تضر بالمصالح الغربية ذاتها. الاعتراف بفلسطين قد يكون أداة ضغط غير مباشرة لإجبار إسرائيل على التراجع عن بعض خطوات الضم أو الاستيطان، لكن من دون اعتراف رسمي بالمسؤولية الغربية عن استمرار الاحتلال.

  • الاعتراف الرمزي

الخطر الأكبر أن تتحول الاعترافات إلى خطوة رمزية بلا أثر ملموس: عناوين كبيرة في الإعلام، بيانات دعم، صور قادة يرفعون شعار “حل الدولتين”، بينما على الأرض تتواصل سياسات الاستيطان والتهجير بلا عوائق. عندها يصبح الاعتراف مجرد ورقة رمزية لا تحمي الفلسطينيين ولا تغير الواقع.

وهنا يمكن قراءة الموضوع من زاويتين متداخلتين: الانكشاف الأخلاقي والارتباط بالمنطق الرأسمالي. ففي المنظور الرأسمالي–الليبرالي الغربي، تُقدَّم دائماً المصالح الاقتصادية والجيوسياسية على القيم. الاعتراف بفلسطين يأتي في وقت حساس يشهد تحولات في أسواق الطاقة والغاز شرق المتوسط، وصعود منافسين كالصين وروسيا. وبالتالي يمكن اعتباره محاولة لكسب ود الشعوب العربية والإسلامية دون التضحية بمصالح مع إسرائيل.

الحدود التي يتم الاستناد إليها عند الاعتراف الدولي

الحدود التي يتم الاستناد إليها عند الاعتراف الدولي بدولة فلسطين ليست موحدة تماماً بين مختلف الدول، لكنها غالباً ما تُستمد من قرارات الأمم المتحدة ومرجعيات القانون الدولي. فأغلب الدول تشير إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 باعتبارها المرجعية الأساسية لقيام الدولة الفلسطينية، والتي تشمل الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، مع التأكيد على أن القدس الشرقية عاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية. هذه الحدود تشكل الأساس لما يُعرف بحل الدولتين الذي تبنته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعظم دول العالم.

في المقابل، ترفض إسرائيل العودة إلى حدود 1967 وتعتبرها “غير قابلة للنقاش”، وتتمسك بضم القدس كاملة والحفاظ على الكتل الاستيطانية الكبرى، إضافة إلى فرض حصار على قطاع غزة والتعامل معه ككيان منفصل. وقد أكدت قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، مثل القرار 242 لعام 1967 والقرار 338 لعام 1973، على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، بينما شدد القرار 2334 لعام 2016 على عدم شرعية المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

على أرض الواقع، تسيطر إسرائيل فعليًا على أكثر من 60% من الضفة الغربية (المنطقة C) مع استمرار التوسع الاستيطاني بوتيرة متسارعة، فيما تخضع القدس الشرقية لضم كامل بموجب القانون الإسرائيلي، بينما يعيش قطاع غزة تحت حصار وإبادة جماعية حوّلته إلى منطقة منكوبة أكثر من كونه جزءاً فاعلاً من كيان سياسي مستقل. هذه الوقائع الميدانية تكشف عن فجوة متسعة بين الاعترافات الدولية بدولة فلسطين على الورق وبين الواقع على الأرض، ما يجعل إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافياً أمراً شبه مستحيل ما لم يحدث تدخل دولي مباشر يفرض التغيير.

المخاطر الراهنة

تترافق موجة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين مع جملة من المخاطر والتحديات التي تهدد بجعلها خطوة رمزية أكثر من كونها تحولاً فعلياً على الأرض. فمع كل توسع استيطاني تتآكل فكرة حل الدولتين وتضعف إمكانية تطبيق حدود 1967. فقد قوبلت موجة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين بردود فعل إسرائيلية غاضبة، حيث وصف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه الخطوة بأنها “مكافأة للإرهاب”، معتبراً أنها تقوّض أمن إسرائيل وتشرعن ما تراه حكومته تهديداً وجودياً. وفي السياق ذاته، ذهب بعض الوزراء في حكومته إلى أبعد من ذلك، إذ طالبوا بضم أجزاء من الضفة الغربية بشكل رسمي، وبالأخص المنطقة  “C”  التي تسيطر عليها إسرائيل عملياً، إضافة إلى غور الأردن، في محاولة لفرض وقائع جديدة على الأرض كإجراء مضاد لتنامي الاعتراف الدولي بفلسطين.

يبقى الانقسام الفلسطيني الداخلي عائقاً بنيوياً يحول دون استثمار الاعترافات الدولية في مسار سياسي موحد

رغم أن الاعتراف الدولي بدولة فلسطين يمثل مكسباً سياسياً وإنسانياً مهماً، إلا أنه يحمل في طياته العديد من المخاطر لا بد من إدراجها ضمن الاعتبارات التحليلية.

فقد يؤدي إلى تصاعد التوتر السياسي والدبلوماسي، سواء مع إسرائيل التي قد ترى في هذا الاعتراف عزلة دولية متنامية فترد بسياسات أكثر عدائية، أو مع الدول المعترِفة التي قد تواجه ضغوطاً اقتصادية وسياسية من إسرائيل وحلفائها، وخاصة الولايات المتحدة. فهذا الاعتراف قد يدفع إسرائيل إلى مزيد من التصعيد العسكري في غزة والضفة الغربية لفرض وقائع جديدة على الأرض أخطرها ذريعة أساسية لموضوع ضم الضفة الغربية، بما يهدد استقرار الإقليم بأكمله، لا سيما الأردن ولبنان.

إضافة إلى ذلك، فإن الانقسام الفلسطيني الداخلي يبقى عائقاً، لأن الموقف الفلسطيني الداخلي هشاً بفعل الانقسام بين فصائل المقاومة وتحديداُ حماس والسلطة الفلسطينية، وهو ما يعيق استثمار الزخم الدولي في مسار سياسي موحد. حيث يمكن أن تُستغل هذه الخطوة في تصعيد الخلافات بين الفصائل، ومع غياب تحسين ملموس في حياة الناس قد يفقد الشارع ثقته بالقيادة. وعلى المستوى الدولي، يمكن أن يؤدي الاعتراف إلى انقسام أوسع في المواقف بين الغرب وبقية دول العالم، ويحفّز إسرائيل وحلفاءها على تقويض دور المؤسسات الدولية وتعطيل قراراتها.

الأردن وانعكاسات الاعترافات الدولية

على مستوى الأردن، يشكل التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية ضغطاً أمنياً متزايداً على حدوده، خاصة مع تزايد المخاوف من سيناريو التهجير الجماعي للفلسطينيين أو ما يُعرف بـ”الترانسفير”. سياسياً، يدعم الاعتراف الدولي المتصاعد بدولة فلسطين الموقف الأردني التقليدي الرافض لأي حلول تُفرض على حسابه، مثل خيار “الوطن البديل”. أما دبلوماسياً، فإن اتساع دائرة الاعترافات يعزز مكانة الأردن كحليف إقليمي رئيسي لفلسطين ويقوي دوره كوسيط محتمل في أي مسار تفاوضي مستقبلي.

اقتصادياً واجتماعياً، تبقى احتمالية موجات لجوء جديدة من غزة أو الضفة تهديداً مباشراً لبنية الأردن التحتية وخدماته العامة، في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة. وتبقى المعادلة الحرجة ماثلة: فكلما توسع الاستيطان الإسرائيلي وارتفع خطر الضم، زادت احتمالية دفع الفلسطينيين باتجاه الأردن، بما يحمله ذلك من تهديد للتوازن الديمغرافي والسياسي داخله. لهذا، ينظر الأردن إلى الاعترافات الدولية كفرصة لإعادة تثبيت مرجعية حل الدولتين وقطع الطريق على أي سيناريوهات للوطن البديل.

لماذا الاعترافات تهمّ الأردن عملياً؟

إن ترجمة هذه الاعترافات على أرض الواقع تصطدم بتصعيد إسرائيلي متواصل، يتجسد في توسع استيطاني وطرح متكرر لضم أجزاء من الضفة الغربية، بما فيها غور الأردن، وهو ما يرفع منسوب المخاطر الأمنية والديموغرافية التي قد تطال الأردن مباشرة. وفي مواجهة هذا المشهد، يمتلك الأردن أوراق قوة واقعية تتمثل في الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وعمقه الشعبي المتماهي مع القضية الفلسطينية، إضافة إلى موقعه الحيوي كوسيط إقليمي ودولي. إلا أن هذه الأوراق تقابلها مسارات ضغط لا يمكن إغفالها، تتمثل في احتمالية تدفق موجات نزوح جديدة، وتوترات حدودية متزايدة. وعلى الصعيد الاقتصادي–الاستراتيجي، تبقى ارتباطات الأردن الحساسة مع إسرائيل في مجالي المياه والطاقة مصدر هشاشة، حيث واجه مشروع “الماء مقابل الطاقة” تعثراً بعد حرب غزة، في حين يعكس اعتماد المملكة على الغاز الإسرائيلي خطورة الارتهان لمورد قابل للتسييس في بيئة إقليمية شديدة التقلب..

المعادلة الحرجة بالنسبة للأردن تكمن في موازنة دوره كوسيط إقليمي مع حماية أمنه وحدوده وهويته الديموغرافية

تشير بعض التحليلات إلى أن الأردن يواجه ضغوطاً متزايدة داخلياً وخارجياً نتيجة التطورات المرتبطة بالقضية الفلسطينية. ففي تقرير أصدره معهد “Quincy Institute” جرى تحليل حجم الضغوط السياسية والاقتصادية التي تتعرض لها المملكة منذ اندلاع أحداث أكتوبر 2023،[3] مع الإشارة إلى أن المواقف الدولية المتصاعدة تجاه الاعتراف بفلسطين قد تنعكس بشكل غير مباشر على استقرار الأردن الداخلي، سواء عبر الشارع أو من خلال التوازنات السياسية الدقيقة داخله:

فمن جهة، يرفع هذا الاعتراف سقف توقعات الرأي العام الأردني الداعم للقضية الفلسطينية، ما قد يؤدي إلى ضغوط شعبية على الحكومة إذا بقيت الخطوات الدولية رمزية بلا أثر ملموس، فضلًا عن تنامي المخاوف من سيناريوهات “الوطن البديل” أو التهجير القسري من الضفة وغزة.

كما أن العودة إلى بعض التسريبات التأريخية، مثل “وثائق فلسطين” الشهيرة، تكشف عن خلفيات مفاوضات سرّية سابقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين،[4] تضمنت مقترحات تتعلق بتنازلات حول بعض المستوطنات في القدس وخارج حدود 1967، والبحث عن حلول بديلة بشأن وضع الحرم القدسي. الأمر الذي يعكس أن سيناريوهات التفاهمات غير المعلنة ليست جديدة على مسار الصراع، بل جزء من سياق سياسي متكرر يثير الشكوك حول إمكانية تكراره بصيغ مختلفة في الحاضر.

الخاتمة والتوصيات

تساهم هذه التحليلات والتسريبات في تعميق الشكوك حول جدية الاعترافات الغربية الأخيرة، إذ تجعلها عرضة للتأويل بأنها خطوات رمزية أو تكتيكية أكثر من كونها التزاماً حقيقياً بإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة. كما تكشف التجارب التاريخية أن مثل هذه الاعترافات قد تُستخدم كورقة ضغط أو غطاء لمساومات لاحقة تخص القدس أو المستوطنات، بما يهدد مرجعية حدود 1967 التي تقوم عليها هذه الاعترافات. فضلًا عن ذلك، فإن الحديث عن تفاهمات غير معلنة يعقد المسار التفاوضي، إذ يوسع الفجوة بين المواقف المعلنة في المحافل الدولية وما قد يُناقش في الغرف المغلقة، وهو ما قد يضعف ثقة الشارع الفلسطيني والعربي بالاعترافات الدولية كخطوة جدية نحو إنهاء الاحتلال.

أما على مستوى الأردن، فإن هذه التحليلات تضيف أبعاداً جديدة للتحديات التي يواجهها. فهي أولاً تشير إلى تنامي الضغط الداخلي، حيث قد يتحول أي اعتراف دولي بفلسطين إلى ملف حساس داخلياً إذا ارتبط في المخيلة الشعبية بسيناريو التهجير أو “الوطن البديل”. وثانياً، فإن تلميحات وجود تفاهمات أو صفقات غير معلنة، خاصة حول القدس والمستوطنات، قد تثير قلق الأردن من احتمال تهميش دوره أو تجاوز وصايته الهاشمية على المقدسات لصالح ترتيبات جديدة. وأخيراً، فإن هذه التطورات تضاعف من مسؤولية الأردن في التمسك العلني والفعّال بحل الدولتين وحدود 1967، لضمان ألا يتحول الاعتراف الدولي بفلسطين إلى مجرد إطار شكلي يُفتح الباب بعده أمام صفقات جانبية قد تكون على حسابه ومصالحه الاستراتيجية.

السيناريوهات المحتملة وتأثيرها على الأردن

خلال الأشهر القادمة، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية. أولها، وهو الأكثر ترجيحاً، هو الاعترافات بلا تنفيذ، حيث تبقى الخطوة ذات طابع سياسي وقانوني فقط، بينما يستمر تغيير الواقع على الأرض من خلال الاستيطان وإجراءات الضم البطيئة. في هذه الحالة، سيتعرض الأردن لضغوط داخلية متزايدة، وسيضطر للبقاء في حالة حذر أمني على الحدود واستنفار دبلوماسي دائم لمنع التهجير وحماية الوصاية.

أما السيناريو الثاني، فيتمثل في ضغط دولي متزايد على إسرائيل، إذ قد تلوّح أوروبا بإجراءات ضد الاستيطان ويتبلور مسار أممي عملي، ما يمنح الأردن مساحة مناورة أوسع لربط أي تعاون إقليمي بوقف الضمّ، ويتيح إعادة تشغيل مشاريع الماء والطاقة ضمن شروط سياسية أوضح.

أما السيناريو الثالث، فهو تصعيد إقليمي واسع، سواء بانفجار جبهة جديدة أو حادث حدودي كبير أو حتى عمليات تهجير محدودة، ما سيضع الأردن أمام تحديات إنسانية وأمنية كبيرة، ويحمّله كلفة اقتصادية واجتماعية مرتفعة، فضلاً عن تراجع ثقة المستثمرين والمانحين.

فرص الأردن

أمام موجة الاعترافات الدولية المتصاعدة بدولة فلسطين، يمتلك الأردن فرصاً ملموسة يمكنه استثمارها لتعزيز موقعه الإقليمي وحماية مصالحه الوطنية. أول هذه الفرص هو تثبيت السردية القانونية التي تؤكد أن أي خريطة طريق إقليمية للحل لا بد أن تمرّ عبر مرجعية حدود 1967، وإلا فإن البديل سيكون الفوضى وعدم الاستقرار.

وعلى الصعيد الدبلوماسي، ينبغي استثمار موجة الاعترافات الدولية لتأكيد الموقف الأردني الراسخ بأن قيام دولة فلسطينية مستقلة يشكل خط الدفاع الأول عن أمنه واستقراره، مع تكثيف الجهود عبر القنوات العربية والإسلامية لربط أي خطوات تطبيع إضافية مع إسرائيل بوقف مشاريع الضم والاستيطان.

وعلى المستوى الاستراتيجي، يستطيع الأردن الدفع بمبادرة أردنية–عربية جديدة تعيد التذكير بـ”المبادرة العربية للسلام” كأساس لأي عملية تفاوضية، مع العمل على تعزيز حضوره في القمم والمؤتمرات الدولية الخاصة بفلسطين، بما يضمن إدراج مصالحه الأمنية والسياسية في صلب أي حلول مقترحة.

نحن أمام لحظة مفصلية؛ الاعتراف الدولي يفتح نافذة أمل لإحياء حل الدولتين، لكن غياب وحدة الموقف الفلسطيني وتصلب السياسات الإسرائيلية قد يحوّلان هذه الفرصة إلى أزمة جديدة. فالاعتراف الدولي الأخير بفلسطين قد يبدو تحولاً تاريخياً، لكنه من زاوية نقدية أقرب إلى سياسة الواجهة: خطوة صاخبة لإخفاء صفقات صامتة، وغطاء لاستمرار الدعم الغربي لإسرائيل، ومحاولة الاستجابة للضغوط الشعبية وإعادة ترتيب النفوذ الإقليمي. باختصار: اعتراف بلا أدوات تنفيذية يظل مجرد مظهر سياسي شكلي يخفي تناقضات عميقة بين الخطاب الإنساني والمصالح الصلبة.

ومع كل ما سبق، يبقى سيناريو الداخل الإسرائيلي عاملاً لا يمكن تجاهله. فحكومة نتنياهو اليوم تمثل الذراع الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، لكن السياسة الإسرائيلية ليست كتلة صلبة. ماذا لو انهارت هذه الحكومة تحت وطأة التحديات الداخلية أو جرى الذهاب إلى انتخابات جديدة؟ عندها قد تبرز قوى إسرائيلية أكثر اعتدالاً تحاول استثمار موجة الاعترافات الدولية كورقة ضغط داخلية لإعادة طرح حلّ الدولتين، ولو بصيغة معدّلة. ومع أنّ التجربة التاريخية تشير إلى محدودية تأثير المعارضة الإسرائيلية على السياسات الجوهرية، إلا أنّ هذا الاحتمال يظل قائماً، وقد يفتح نافذة ضيقة أمام تحولات داخلية تُخفف من اندفاع مشروع الضمّ. وفي كل الأحوال، فإن قدرة الأردن على المناورة تبقى مرتبطة بمدى استعداده لالتقاط هذه التحولات المحتملة وتوظيفها، بحيث لا يجد نفسه متلقياً للنتائج بل شريكاً فاعلاً في صياغة مآلاتها.


[1] https://apnews.com/article/un-israel-palestinians-france-saudi-recognition-two-states-88f3a87f7d79df02311f09b3e45560e9

[2] https://www.lemonde.fr/en/les-decodeurs/article/2025/09/23/map-the-countries-that-recognize-a-palestinian-state_6745654_8.html?utm_source=chatgpt.com

[3] https://quincyinst.org/research/jordan-on-the-edge-pressures-from-the-war-in-gaza-and-the-incoming-trump-administration/

[4] https://mepc.org/commentaries/palestine-papers-leak-game-changer/?utm_source=chatgpt.com

زر الذهاب إلى الأعلى