تطور الاستخبارات الإسرائيلية في السياق التكنولوجي والعسكري

نشأت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية منذ قيام الدولة على تقاليد استخباراتية متطورة ضمّت جمع المعلومات البشرية والتشفير، ثم توسعت مع التحديات الأمنية في المنطقة. شهدت إسرائيل منذ حرب 1967 و1973 تسليح الأجهزة بأحدث التقنيات، بدءًا من منظومات الرؤية الليلية والطائرات دون طيار (UAV) وحتى الأقمار الصناعية والتجسس الإلكتروني. وقد أصبح الاستثمار في البحث والتطوير والمبادرات المبتكرة دأبًا إسرائيليًا، ما خلق مناخًا يشبه “دولة ناشئة” للابتكار في أمن المعلومات. في الغالبية العظمى من المواجهات الحديثة، تراهن إسرائيل على تكامل قدرة الاستخبارات البشرية مع نشر قدرات تكنولوجية عالية، إسهامًا في بناء تصور استخباراتي شامل. ومع ذلك، يشير محللون إلى أن الاعتماد على الكم الهائل من البيانات الإلكترونية لم يضمن الكمال؛ ففي غزة مثلاً طوّرت إسرائيل شبكة مراقبة كثيفة تشمل طائرات ومركبات محملة بأجهزة استشعار، وذكرت دراسة روسية أن ذلك خلق (قربًا من الكمال) في المعلومات الاستخباراتية، لكن هذه الكمية الضخمة من البيانات تطلبت نظمًا ذكاء اصطناعي ضخمة لمعالجتها، ما يعيد إلى السطح تحدي ضبط الجودة البشرية للتقديرات.

اعتمدت إسرائيل على الدمج بين الاستخبارات البشرية والقدرات التكنولوجية العالية، لكن الكم الهائل من البيانات تطلّب أنظمة ذكاء اصطناعي ضخمة لمعالجتها

الهيكل التنظيمي والوحدات المتقدمة

يضم المجتمع الاستخباراتي الإسرائيلي ثلاثة أجهزة رئيسية: شاباك  للأمن الداخلي، والموساد للاستخبارات الخارجية، و(أمان) شعبة الاستخبارات العسكرية ضمن هيئة الأركان العامة. وتعمل تحت مظلة أمان وحدات متخصصة متقدمة. على رأس هذه الوحدات وحدة 8200 المختصة بجمع استخبارات الإشارات (SIGINT) والأمن السيبراني: تمثل عين إسرائيل التقنية الواسعة، وتشكل (ما يعادل وكالة الأمن القومي الأمريكي أو جهاز المخابرات البريطاني GCHQ)، حسب رويترز . وهي أكبر وحدة في الجيش الإسرائيلي، وتغطي نحو 80% من المعلومات الاستخباراتية المُجمعة لمختلف الأجهزة . تعتبر وحدة 8200 نواة إدخال المتخصصين التقنيين الشباب إلى البنية الدفاعية، وغالبًا ما ينتقل خريجوها للعمل في قطاع التقنية الفائقة (“السايبر”) بعد الخدمة.

تضم أمان أيضًا وحدة 9900 للصورة البصرية والمعلومات الجغرافية  (VISINT)، وهي صغيرة نسبيًا لكن ذات أثر كبير. تهتم هذه الوحدة بتحليل صور الأقمار الصناعية والخرائط والمسح الجغرافي باستخدام تكنولوجيا رؤية حاسوبية متقدمة . فعلى سبيل المثال، أُسند تشغيل القمر الاصطناعي المتقدم “أوفك–19” للمخابرات إلى وحدة 9900 بعد إطلاقه عام 2025 . تُستخدم صور الرادار الكهروضوئية من الأقمار والإبحار بالأقمار الصناعية لتزويد الجيش بصورة آنية للتضاريس ومواقع الأهداف، ما يعزز الخطط الميدانية والقرارات الإستراتيجية. إضافة إلى ذلك، تشارك وحدات متخصصة أخرى مثل “وحدة 81” لتطوير التكنولوجيا والمعدات الاستخبارية، فضلاً عن وحدات لمراقبة الاتصالات الأرضية والفضائية. وبذلك يُعَد هيكل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية رشيقًا ومترابطًا: تتكامل مصادرها بين أجهزة الرصد البصرية (9900)، والإشاراتية (8200)، والمصادر البشرية (المخابرات البشرية)، وغيرها ضمن منظومة تحليل مركزية تحت قيادة أركان الجيش.

الاستخبارات الفضائية والسيبرانية ودورها في الاستراتيجية الأمنية

أحد أسباب فشل 7 أكتوبر هو الوهم الأمني الناتج عن الإفراط في الثقة بالتكنولوجيا، وخاصة السياج الإلكتروني المزود بالكاميرات وأجهزة الاستشعار

اتخذت إسرائيل من المجال الفضائي جزءًا أساسيًا من بنيتها الاستخباراتية. فأطلقت سلسلة من الأقمار الاصطناعية الخاصة بالمراقبة (سلسلة (أوفك))، تغطي مناطق الصراع من غزة إلى إيران. على سبيل المثال، القمر الراداري (أوفك–19) (أُطلق سبتمبر 2025) مزود بتصوير راداري متطور (SAR) يجعل إسرائيل (تراقب أعداءها في كل وقت وتحت أي ظرف)، حسب وزارة الدفاع . يتم التحكم بأجهزة التصوير الفضائي من خلال وحدات مثل 9900، ما يمكن الجيش من تحديد مستودعات السلاح والمخازن السرية تحت الأرض وتوجيه العمليات الميدانية بكفاءة. وفي أعلى المستويات، أكدت قيادة الجيش أن التواجد في الفضاء (التواجد كـ(دولة فضائية)) هو عنصر مهم في البقاء الإستراتيجي.

أما الجانب السيبراني، فلم يكن أقل تطورًا. فقد خضعت البنى التحتية الإسرائيلية لحماية مشددة منذ أوائل الألفية؛ ففي 2000 أدرجت إسرائيل الفضاء السيبراني تهديدًا وطنيًا، وأسست عام 2018 المديرية الوطنية للأمن السيبراني لمواجهة التهديدات وتنسيق العمل الحكومي والخاصص. ويُعتقد أن إسرائيل تمتلك قدرات هجومية متطورة كشفها فضلاً ضمّنَ أنظمة خبيثة مثل Stuxnet (2009) ضد إيران، وهجمات سيبرانية على مؤسسات حزب الله. تقنيات الذكاء الاصطناعي تُستخدم أيضاً في عملية الاستهداف؛ فقد اعترف قائد 8200 عام 2023 بأن الوحدة تستخدم الذكاء الاصطناعي في ((اختيار أهداف حماس)) كل ذلك ضمن إطار شبكة استخبارات متشابكة: تجمع الأقمار الصناعية بيانات عن نطاق جغرافي واسع، وتغذي الوحدات الإشارية (8200) أنظمة الاستطلاع والتنصت، بينما تنقل الشبكات السيبرانية والهجمات المستهدفة إشارة واضحة عن نوايا العدو. في المجمل، يتيح هذا التكامل التكنولوجي لإسرائيل إحاطات إستراتيجية سريعة وجزئية (بمعنى (مؤشرات ومقدمات) التخطيط الأمني) بما يتناسب مع التهديدات متعددة الجبهات في الشرق الأوسط.

فشل الاستخبارات في هجوم 7 أكتوبر 2023: فشل استراتيجي

مع ذلك، كشفت هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 ثغرات كبيرة في هذا النموذج الاستخباراتي المتفوق تقنيًا. يعتبر هذا الحدث (الفشل الاستخباراتي الأكبر) في تاريخ إسرائيل الحديث، إذ اخترقت قوات حماس حدود غزة بشراسة مدهشة. وبحسب تحليل نُشر في معهد ويست بوينت لمكافحة الإرهاب، لم تكن واقعة مفاجئة بمعنى (فشل فردي)، بل جاءت نتيجة تراكم مشكلات على المستويين السياسي والاستخباراتي. فعلى الصعيد التحليلي، أخفق المحللون في ربط شواهد نوايا حماس الجديدة؛ فقد اعتبرت التقارير أن قادة الأمن افترضوا ضمنيًا أن حماس ستبقى مكتوفة الأيدي، نظراً لـ(راحة) وضعها في غزة وضغطها المالي والسياسي . هكذا، عانى صانعو القرار من “وهم أمن” تكنولوجي: فالسياج الإلكتروني (كاميرات ومستشعرات وشبكات تحكم) على طول الحدود أعطاهم إحساسًا زائفًا بالتأهب. لكن حماس استخدمت طائراتها المسيرة لإرباك هذه الأنظمة، فأصابت أبراج المراقبة بلقناتها وقطعت التدفق الذكي للمعلومات.

في المقابل، أصابت الدوائر الاستخباراتية هواجس قياس خاطئ لقدرات حماس ونيّاتها. فعلى غرار درس حرب أكتوبر 1973، قصّر الخبراء الأمنيون الإسرائيليون في تحليل انحراف محتمل في نوايا العدو . وكما لاحظت دراسة من Foreign Policy، احتوى “الإفراط في الثقة بالإمكانات التكنولوجية” ونمط تفكير قائم على (المفهوم) الذي قلّل من شأن حماس . باختصار، بدا أن تقديرات الجيش الأمني جمدت على تهديدات تقليدية (مثل الأنفاق) وتجاهلت تغييرًا دراماتيكيًا في منهجية مهاجمي حماس.

المبالغة في التكنولوجيا وإهمال العنصر البشري

رغم السمعة الواسعة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فإن التفوق التكنولوجي ليس ضمانًا لاستقرار أمني دائم

أبرزت مراجعة الخبراء أن أحد العوامل الجوهرية للفشل كان الإفراط في الاعتماد على التقنية والإهمال النسبي للمصادر البشرية (HUMINT) كما تشير إحدى الدراسات الأمنية، حوّل التسلح الرقمي الحدود الإسرائيلية مع غزة إلى (وهم سيطرة) تكنولوجي بحد أدنى من نقاط فشل مفردة . في تلك البيئة، كشفت الوحدة أن عناصر حماس لم تظهر في القنوات التقليدية للتواصل التقني بفضل بروتوكولاتهم الدفاعية المحترفة، ما أفلح في تهدئة أجهزة التنصت الذكي والتشفير الأمني . وفي المقابل، يؤكد متخصصون في الاستخبارات أن “المراقبة التقنية قد تزودك بمعلومات عن الوقائع لكنها نادرًا ما تكشف دلالتها”، وهو ما يتفوق فيه مصدر بشري ذكي لديه خبرة ميدانية . فمصدر بشري لو كان خلف خطوط حماس مثلاً، قد يلتقط رسالة أو موعدًا أو نشاطًا غريبًا (مثل ظهور ضيف إيراني أو شحنة غير عادية) ويترجم أهميتها، وهو ما قد يصنع فرقًا حاسمًا.

في هذا السياق، تشير التقديرات إلى أن إشكالية تقييم المخاطر الأمنية لم تكن تقنية فحسب بل منهجية: فاستعراض ما بعد الهجوم يبرز الحاجة لمراجعة شاملة لكيفية توزيع الجهد الاستخباراتي بين التقني والبشري.  فقد تساهل الجيش الإسرائيلي، وفق التحليلات، في تقييم جدوى المصادر البشرية على صعوبات التجنيد والخطورة في غزة، وبدلاً من ذلك راهن على أدوات تتميز بالسرعة. هذا المزيج (هندسة استخباراتية كثيفة التقنية مقابل إهمال للمواطن البشري) يعتبر من أبرز الدروس النقدية التي استخلصت من الكارثة.

في ظل المشهد الإقليمي المعقد بعد 2023 (التصعيد ضد حزب الله، الضربات العسكرية في سوريا ولبنان، والتوتر مع إيران وحلفائها)، تواجه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تحديات متغيرة في تقنية “حرب المستقبل” ومعارك الفضاء السيبراني والهجين. فإيران مثلاً وضعت خبراءها السيبرانيين والفضائيين موضع استهداف لإسرائيل، كما توسع استخدام (محاربي الفضاء الالكتروني) الإيرانيين في الحرب مع الحوثيين. لهذه الأسباب، تعتزم إسرائيل تعزيز شراكاتها الاستخباراتية الدولية (مع الولايات المتحدة وغيرها)، وتوسيع قدراتها على رصد الهجمات السيبرانية المعقدة وتوظيف الذكاء الاصطناعي في تحليلاتها.

ومع تزايد كمية المعلومات الاستخباراتية – خاصة عبر الأقمار والطائرات بدون طيار والمراقبة الإلكترونية – تشهد إسرائيل تطورًا سريعًا في استخدام أنظمة “تنظيف” وتصنيف تعتمد على الذكاء الاصطناعي. يشير خبراء في الأمن السيبراني إلى أن مثل هذه الأنظمة تسمح بمعالجة ضخمة للمعلومات، لكنها ليست خالية من الأخطاء أو الانحيازات البشرية المترسبة في بيانات التدريب. فعلى سبيل المثال، أظهرت تقارير أن النظام الآلي (لافندر) المستخدم لتصفية معلومات غزة لديه معدل خطأ يقدر بنحو 10%  ويعني هذا أهمية التدقيق البشري في مرحلة اتخاذ القرار، تجنبًا لـ(التحيز التلقائي) الذي قد يولد أهدافًا خاطئة أو يفقد أهدافًا حقيقية.

ورغم ما تتمتع به إسرائيل من سمعة واسعة في مجال الاستخبارات، فإن التجارب الأخيرة بيّنت أن التفوق التكنولوجي ليس ضمانًا لاستقرار أمني دائم. إذ إن الاعتماد المفرط على الوسائل التقنية، مقرونًا بإهمال الدور الحاسم للمصادر البشرية والتحليل المرن، كشف عن قابلية المنظومة للانكشاف أمام خصوم أقل تطورًا تقنيًا لكن أكثر مرونة ميدانية. هذا التناقض يجعل من انهيار بعض ركائز القوة الاستخباراتية الإسرائيلية احتمالًا واردًا، خاصة في حال تكررت مفاجآت عملياتية شبيهة بما حدث في أكتوبر 2023. وعليه، فإن قدرة إسرائيل على الحفاظ على مكانتها مرهونة بقدرتها على معالجة هذه الفجوات، وإلا فإنها قد تواجه تآكلًا تدريجيًا في هيبة أجهزتها الاستخباراتية، وهو ما سينعكس مباشرة على قوة ردعها ومكانتها الإقليمية. إن الانهيار هنا لا يعني بالضرورة سقوطًا كليًا، بل فقدان ميزات التفوق النوعي الذي طالما شكل ركيزة أساسية في أمنها القومي.

مراجع

  • Byman, Daniel. Israeli Intelligence and the October 7 Surprise. Washington: Brookings Institution, 2023.
  • Cordesman, Anthony H. Technology and the Israeli Security Doctrine. Washington, D.C.: CSIS, 2022.
  • CTC at West Point. “Intelligence Failures and the Hamas Attack: Structural and Strategic Lessons.” Combating Terrorism Center Sentinel, October 2023.
  • RAND Corporation. “Israel’s Intelligence, Technology, and Security Policy.” Santa Monica: RAND, 2022.
  • RUSI. “Space and Cyber in Israel’s Strategic Outlook.” Royal United Services Institute Briefing Paper, 2021.
  • Foreign Affairs. “Israel’s Blind Spot: The Perils of Overreliance on Technology.” Foreign Affairs, November 2023.
  • Foreign Policy. “The October 7 Shock: How Israel Misread Hamas.” Foreign Policy, October 2023.
  • The Atlantic. “Israel’s Intelligence Myth and Its Collapse.” The Atlantic, December 2023.
  • The Times of Israel. “Israel Launches Ofek-19 Spy Satellite to Bolster Space Capabilities.” Times of Israel, September 2025.
  • Reuters. “Inside Israel’s Unit 8200: Cyber Powerhouse of the IDF.” Reuters Special Report, 2023.

زر الذهاب إلى الأعلى