حصرية السلاح في لبنان: إرادة داخلية وضغط خارجي ومعادلات متحركة

في مطلع آب/أغسطس الجاري، دخلت الحكومة اللبنانية في اختبارٍ غير مسبوق عندما أقرّت مبدأ حصر السلاح بيد الدولة ضمن مهلة تنتهي أواخر العام، مع تكليف الجيش بإعداد خطة تنفيذية خلال أغسطس/آب الجاري. وخلف العبارة المقتضبة تقف إرادة سياسية لطيّ صفحة “الاستثناء الأمني” وفتح مسارٍ مختلف بوضوح عن السنوات الماضية؛ مسارٌ يرتبط أيضاً بإيقاع التحولات الإقليمية وضغوطٍ دولية تلوّح بالعصا وتعرض الجزرة في آن واحد.

فالقرار لا يكتفي بإعلان النية، بل يعلّقها على جدولٍ زمني يبدأ عملياً في مطلع أيلول/سبتمبر على أربع مراحل تمتد 120 يوماً؛ فمن المفترض أن تُنفذ الخطة على أربع مراحل؛ إذ تبدأ خلال 30 يوماً يُسحب السلاح الثقيل شمال الليطاني، ثم حتى اليوم 60 يُستكمل السحب ويُنتشر الجيش في المنطقة، تليها بين اليومين 60 و90 عملية جمع السلاح من البقاع وبيروت وضواحيها مقابل انسحاب إسرائيلي من نقاط محتلة، لتُختتم في المرحلة الرابعة باستكمال النزع وتبادل الأسرى وبدء مفاوضات الترسيم ومؤتمر دولي لإعادة الإعمار. بهذه الصياغة، يضع القرار الدولة في موقع القائد كما هو مفترض، ويمنح المؤسسة العسكرية تكليفاً واضحاً يقتضي قدرات وتمويلاً وحماية سياسية

موقف حزب الله: مشاركة في الدولة ورفضٌ للمهل

اختار حزب الله أن يرد من بوابة شرعية “السلاح” ومعناها في اتفاق الطائف 1989. والأمين العام الشيخ نعيم قاسم أكد أن المقاومة “جزء من الدولة” وأن تسليم السلاح أو التقيد بمهلٍ زمنية غير مطروح، مستعيداً نبرة آب/أغسطس 2024 حين ربط الاستعداد للمواجهة بقدرة الحزب على إسقاط الصواريخ على إسرائيل.

في خطاب قاسم إشارات مزدوجة، حيث التشديد على الحوار والاستراتيجية الدفاعية كمدخلٍ لإدارة الخلاف، وفي الوقت نفسه رفعٌ للسقف يضع أي نقاشٍ عملي تحت مظلة “الحقوق الدستورية” و”مقتضيات الردع”.

وإذ يلوّح حزب الله بضرورة تحديث مفهوم الاستراتيجية الدفاعية، يفتح الباب – ضمناً – على مفاوضةٍ أعقد: تعديلٌ في بعض ترتيبات الطائف، أو صيَغ لدمجٍ منضبط لعناصر قوته ضمن المؤسسات الرسمية، بما يضمن الحفاظ على “قيمة” قدراته في مقاربة الأمن الوطني.

التحديات الداخلية: بين القدرة والإرادة وامتحان الشارع

معضلة تنفيذ القرار داخلية أولاً فالجيش مدعوٌ إلى تقديم خطةٍ صريحة بما يلزمها من عدةٍ بشرية ولوجستية ومالية، وبما تتطلبه من غطاء سياسي متماسك. كما أن أي ضعفٍ في واحدةٍ من هذه الحلقات سيقود إلى بطءٍ مُحبط أو تعطيلٍ مقنّع.

في المقابل، يتضح أن حزب الله ليس في وارد منح القرار شرعية مجانية، لكنه – حتى اللحظة – يتجنّب كلفة الاشتباك المباشر، إذ لا استقالة من الحكومة، ولا اجتياح للشارع، ولكن الاكتفاء بتحركاتٍ رمزية وتأجيل التظاهرات “إفساحاً للنقاش”. هذا السلوك يعكس إدراكاً بأن ميزان القوى المحلي تغيّر وأن البيئة الاجتماعية مرهَقة، لكنه لا يلغي احتمال التصعيد إذا تحوّل المسار التنفيذي إلى تهديدٍ مباشر لبنية الحزب.

وأما من حيث القياس على أحداث السابع من أيار/مايو 2008؛ فيتضح أنه  مُضلِّل ومفيد في ذات الوقت. مُضلِّل لأن ظروف اليوم مختلفة جذرياً، خاضة أن الاقتصاد اللبناني منهك، والدولةٌ تبحث عن مُتنفَس خارجي، وحزبٌ تلقّى ضربات موجعة بعد الحرب الأخيرة، والمشهدٌ الإقليمي لا يشبه أي سياقات سابقة، ومن المفيد للذكر أن الذاكرة الجماعية تحذّر من كلفة قراراتٍ أمنية بلا مظلة سياسية صلبة.

فوق ذلك، هناك عاملٌ ثالث يفرض أهميته حادّ، فإسرائيل تدفع يومياً باتجاه توتيرٍ محسوب عبر توسيع نقاط تمركزها جنوباً، والحديث عن تجهيز مدرج ميداني في تلة الحمامص، وإشاراتٌ صريحة إلى رفض إدخال الجيش أو قوات اليونيفيل (UNEFIL) الأممية إلى المواقع بعد انسحابها. وجميع ما سبق يضغط على السلطة كي لا تتراجع، وعلى الحزب كي لا يُظهر ليونة تُفهم تراجعاً، فتضيق مساحة الحلول.

التعاطي الخارجي: بين واشنطن وباريس والرياض وطهران

خارجياً، تحضر “معادلة توماس باراك” بكل وضوح، فعصا العقوبات والضغوط السياسية، أمام جزرة المساعدات وإعادة الإعمار وربط الانسحاب الإسرائيلي بتقدّم مراحل نزع السلاح، وواشنطن تبدو مستعدة لرفع مستوى الدعم المباشر للجيش والمؤسسات، كمايجري التداول بحزمة دعمٍ كبيرة تعكس نية الاستثمار في الاختبار اللبناني شرط التقدّم الملموس.

أما في باريس، فقد اندمجت مقاربة لبنان بسوريا تحت سقفٍ واحد؛ الملفان متداخلان موضوعياً، ومسارات إغلاق خطوط الإمداد وترتيب الجنوب السوري عناصر مقرِّرة في ترتيب الجنوب اللبناني. الاجتماع الفرنسي–الأميركي الأخير، والذي بحث مسار تجديد ولاية اليونيفيل والخيارات بين تقليصٍ وتمديدٍ “أخير”، إلى جانب تفعيل لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية، وأمامه طرح إسرائيليّ بأن تنتشر قواتٌ فرنسية أو متعددة الجنسيات في النقاط المُخلاة بدلاً من الجيش أو اليونيفيل، وهو طرحٌ يثير حساسية لبنانية بقدر ما يعكس شكوك تل أبيب في قدرة الترتيبات الحالية.

الرياض بدورها تتحرك على خطّين؛ فالأول لدعم مسار “الدولة أولاً” وتقوية مؤسساتها، والثاني يتضمن ترتيب البيت السني استعداداً للاستحقاقات المقبلة بما يضمن كتلة سياسية وازنة قادرة على حماية مسار حصرية السلاح. هذا لا ينفصل عن رعايتها قنوات أمنية بين بيروت ودمشق الجديدة، في محاولة لتقاطعٍ يقي لبنان ارتدادات الحدود.

على الضفة المقابلة، ترسم طهران خطاً أحمر واضحاً مفاده؛ استمرار الدعم لحزب وحلفائه ورفض تسليم السلاح، مع تغليف الموقف بعنوان “الحوار والتوافق”. وأما في القاعات المغلقة، تُشدد إيران على أنها لم تخرج مهزومة وأنها قادرة على تطوير أدوات الدعم، لكن سؤال “كيف” يزداد إلحاحاً مع سقوط نظام الأسد وتغير خرائط الإمداد. اللافت هنا أن أصداء محور طهران تظهر علناً في بيانات الحوثي وفصائل عراقية، بما يرفع كلفة أي تنازلٍ مجاني بالنسبة للحزب.

السيناريوهات الممكنة: بين التدرّج لصفقة أو التجميد نحو التصعيد؟

الطريق أمام القرار تتفرع عملياً إلى أربعة مسارات محتملة، لا تتنافى بالضرورة وقد تتداخل زمنياً. أولها مسار التدرّج المنضبط: تمضي الحكومة في التطبيق على مراحل مع تعديلاتٍ شكلية على اللغة، كالقبول بإطار “استراتيجية دفاعية” يُطمئن الحزب من دون أن يعطل الجوهر، بالتوازي مع خفض التوتر الحدودي وتفاهمات عملانية على الأرض. مؤشرات هذا السيناريو تكون في سرعة إقرار خطة الجيش، وتوسّع الدعم الدولي، وبدء خطواتٍ ميدانية شمال الليطاني.

المسار الثاني صفقة مرحلية برعايةٍ خارجية؛ أي عبر تفهمات أميركية –فرنسية – سعودية مع قبولٍ إيراني صامت أو ضمني، بحيث تُفضي إلى معالجةٍ مركّبة تجمع بين نزع فئات محددة من السلاح وإعادة تموضع لمقاتلين ضمن أطرٍ رسمية أو شبه رسمية بضمانات سياسية وأمنية. هنا قد يصبح الحديث عن “دمج” منظّم لبعض القدرات – وليس كلها – جزءاً من التسوية، وتُربط مراحلها بانسحابات إسرائيلية متدرجة وفتح مسار إعادة الإعمار.

أما المسار الثالث فيُتصور تجميدٌ مُدار؛ وذلك عبر تقدّم إجراءات شكلية ثم تتباطأ عند العُقد الصلبة، فيستمر القرار عنواناً من دون أثرٍ عملي سوى إدارة المخاطر ومنع الانفجار. ويعني هذا السيناريو؛ تأجيلاً للمواجهة الداخلية، لكنه ربما يطيل من عُمر الاستنزاف ويُبقي إسرائيل على وتيرة “الضغط من بعيد”، ويُفشل رهان العواصم على نجاح النموذج اللبناني.

أما المسار الرابع فهو التصعيد المتبادل؛ بأن ترتفع وتيرة الضربات الإسرائيلية ويقابلها الحزب باستعراض قوة أو ردٍ نوعي، فتتسارع ديناميات التعطيل وتُشل الخطة الحكومية ويُستدرج الداخل إلى توتراتٍ أوسع. مؤشرات هذا السيناريو تبدأ بخروقٍ أمنية كبيرة، وتحولاتٍ في خطاب الحزب من “تأجيل التحركات” إلى “تعبئة الشارع”، وبمواقف دولية تربط أي دعمٍ بوقفٍ كامل للأعمال العدائية لا يبدو في المتناول سريعاً.

ما بين الإرادة والقدرة: هل نحن أمام لحظة اختبار؟

لبنان اليوم على فوهة لحظةٍ نادرة؛ إذ تتوفر نواة إرادة سياسية مُعلنة في استعادة احتكار العنف المشروع، وميزان قوى داخلي لا يسمح بمغامرة شاملة، وضغطٌ خارجي يَعِد بإنقاذٍ مشروط. لدى الحكومة ورقة قوة واضحة؛ حيث قرارٌ مُحاط بدعمٍ دولي وإقليمي، ورغبة لبنانية واسعة في استقرارٍ ملموس. لدى حزب الله ورقة ردعٍ لا تزال حقيقية وقدرة على التعطيل، لكنّ كلفتها ترتفع كلما تغيّرت البيئة المحيطة.

أمام ما تقدم من تعقيدات؛ فإن ما سيُكتب في الأسابيع المقبلة يتوقف على ثلاثة مفاتيح هي؛ قدرة الجيش على تقديم خطة واقعية قابلة للتنفيذ، استعداد الحكومة لتوفير الغطاء السياسي كاملاً وتحمّل كلفة القرارات الصعبة، وتوقيت النافذة التفاوضية بين واشنطن وطهران وما إذا كانت ستعامل الملف اللبناني كفرصة لإثبات جدوى “الصفقات الصغيرة” أم كورقة ضغطٍ إضافية.

في المُحصلة، فإن النقاش لم يعد اليوم حول المبدأ؛ بل صار حول كيف ومتى وبأي كلفة سيتم. فالقرار قد صِيغ، والرفض حاضر، وبينهما مساحةٌ لخياراتٍ ذكية تحمي الدولة من الانهيار وتحفظ المجتمع من الانقسام وتُخرج السلاح من البُعد السياسي لا من الأمن الوطني. ويرتهن ذلك على ما إذا التُقطت هذه المساحة بمهارة من قبل الأطراف الفاعلة اليوم، والتي يرتبط بها مصير لبنان، ويمكن لمسار حصر السلاح أن يتحول من شعارٍ متكرر إلى خريطة طريقٍ ذات مؤشرات قابلة للقياس. وأما إذا ضاعت، فقد نعود إلى بلدٍ يحكمه الاستثناء ويُدار بالخوف، ولكن هذه المرة، فالكل يعرف الثمن والتداعيات مسبقاً.

زر الذهاب إلى الأعلى