المحتوى الصحي على السوشال ميديا في الأردن.. ضرورة تنظيمه وحوكمته

تشكل مواقع التواصل الاجتماعي “السوشال ميديا” المصدر الأول للأخبار والتحديثات للعديد من الفئات في المجتمع الأردني، خاصة صغار السن. ومع تزايد المحتوى الصحي الذي يتم نشره على مواقع التواصل، فإن هذا يطرح تحديات حول آلية تنظيمه، والجهات التي يجب أن تكون مسؤولة عن ذلك، وكيفية إخضاع المحتوى الصحي للحوكمة. فوفقًا لإحصائية موقع (DataReportal)، الذي صدر في يناير/كانون ثاني هذا العام، هنالك 10.33 مليون مستخدم للإنترنت في الأردن مع بداية عام 2024، وبلغت نسبة انتشار الإنترنت 91%، ويوجد في الأردن 6.38 مليون مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي، أي ما يعادل 56.2% من إجمالي السكان[1].

حوكمة المحتوى الصحي.. المفهوم والدلالة

تشير منظمة الصحة العالمية في حوكمة النظم الصحية إلى العمليات والهياكل والمؤسسات القائمة للإشراف على نظام الرعاية الصحية في الدولة وإدارته[2]. وإذا أردنا تطبيق هذا التعريف على مواقع التواصل الاجتماعي، فيمكننا القول إن حوكمة المحتوى الصحي في تلك المواقع؛ فتعني العمليات والهياكل والمؤسسات التي تشرف على المحتوى الصحي وتقوم بتنظيمه، تنقيحه، وحجبه وفق قواعد تحمي صحة الأفراد والمجتمع.

ونظرًا للتأثير العميق لوسائل التواصل الاجتماعي على سلوك الإنسان وصحته، فإن وضع ضوابط ناظمة لهذه الوسائل هو ركن أساسي في حماية وتحسين الصحة العامة. هذه الضوابط تنطبق على صناع المحتوى غير المتخصصين، وعلى العاملين في مجال الصحة مثل الأطباء، والصيادلة، وأخصائيّ التغذية، وغيرهم.

يرى العديد من المتخصصين أننا نعيش “عصر الأخبار المزيفة” التي تنتشر فيها المعلومات الخاطئة، التي يتم إنشاؤها عن قصد أو عن غير قصد، بسرعة. وعلى الرغم من أنها تؤثر على جميع مجالات الحياة، إلا أنها تطرح مشاكل خاصة في المجال الصحي، حيث يمكن أن تؤخر أو تمنع الرعاية الصحية، وفي بعض الحالات تهدد حياة الأفراد. حيث شكلت جائحة كورونا مثالًا على ذلك؛ فالمعلومات المغلوطة تمت مشاركتها على نطاق واسع، كما لعبت خوارزميات “لوغاريتمات” مواقع التواصل دورًا كبيرًا في ذلك، عبر دفع هذا المحتوى وتقديمه على المحتوى العلمي الرصين. مما أدى إلى أن الآلاف من الناس حول العالم، وربما أكثر صدقوا المعلومات المغلوطة، وكثيرون دفعوا حياتهم ثمنا نتيجة إحجامهم عن تلقي تطعيمات كورونا.

المحتوى الصحي الرقمي وفخ الشائعات.. أردنيًّا

هناك مشكلة حول المعلومات الصحية الدقيقة، فهي -مثل أي محتوى- لها قدرة معينة على جذب الاهتمام، والمشكلة أنه قد يكون من الصعب فهمها، بل وحتى قد تكون مملة. بالمقابل، فإن المغالطات الصحية تكون أسهل للفهم، وأكثر إثارة، خاصة عندما يتم دمج نظريات المؤامرة فيها، مثل أن اللقاحات وسيلة للقضاء على البشر.

يعيش الأردن -كما دول العالم الأخرى- انتشارًا واسعًا للوباء المعلوماتي -ويُعرف أيضًا باسم وباء المعلومات المغلوطة-، والذي يُعرَّف وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، بأنه: “الكثير من المعلومات بما في ذلك المعلومات الخاطئة أو المضللة في البيئات الرقمية والمادية أثناء تفشي المرض”[1]، والجمهور الأردني يواجه كمًا هائلًا من هذه المعلومات المغلوطة، الطبية والصحة والنفسية على السوشال ميديا، والتي يغلب فيها الغُث على السمين. هذه المعلومات تحوي مغالطات تؤثر سلبًا على صحته العلمية. وباء المعلومات المغلوطة خطير للغاية، فهو يسبب الارتباك والسلوكيات المحفوفة بالمخاطر التي يمكن أن تضر بالصحة. كما أنه يؤدي إلى عدم الثقة في السلطات الصحية ويقوض استجابة الصحة العامة، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.

يمكن للوباء المعلوماتي أن يؤدي إلى تكثيف أو إطالة أمد تفشي المرض، عندما يكون الناس غير متأكدين مما يجب عليهم فعله لحماية صحتهم وصحة الأشخاص من حولهم. وتضيف منظمة الصحة أنه مع تزايد التحول الرقمي -التوسع في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت- وانتشار المعلومات بسرعة أكبر، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تضخيم الرسائل الضارة. فالوباء المعلوماتي يؤثر على الجميع، حتى الأطباء، فقد وجدت دراسة أجريت على الأطباء في الأردن أن امتلاك أقل من خمس سنوات من الخبرة كطبيب كانت مرتبطة بشكل كبير بوجود معلومات خاطئة حول فيروس زيكا[2]. في دراسة نشرت عام 2022 حول “الموقف التآمري لعامة الناس في الأردن تجاه حالات العدوى الفيروسية الناشئة: دراسة مقطعية وسط تفشي جدري القرود عام 2022″، وشملت ما مجموعه 611 شخصًا، وافق أكثر من 50% من المشاركين، على الأقل -إلى حد ما-، على 9 من أصل 12 من بنود مؤامرة مرتبطة بعدوى الفيروسات الناشئة (EVIs)، وكشفت عن ارتفاع معدل انتشار الاعتقاد بالمؤامرات[3]. وكانت قد سجلت، دراسة نشرت في 2021، نسبة عالية من التردد حيال اللقاحات في الأردن، ووصفتها بأنها مثيرة للقلق. ويمكن أن تعيق السيطرة المناسبة على كوفيد-19، مضيفة أنه قد تجلى التأثير الضار للمعلومات الخاطئة والمعتقدات المؤامرة حول كوفيد-19 في التردد بشأن اللقاح. وقد يمثل هذا عقبة كبيرة أمام السيطرة الناجحة على الوباء. ووجدت الدراسة أن الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للمعلومات حول لقاحات كوفيد-19 ارتبط بالتردد في اللقاح. وينبغي أن ينبه هذا الحكومات وصانعي السياسات وعامة الناس إلى أهمية التحقق من الحقائق بيقظة[1]. كما وجدت دراسة نشرت عام 2023 أن انخفاض مستويات المعلومات حول الصحة، والمفاهيم الخاطئة حول لقاح كوفيد-19، وانتشار المعلومات الخاطئة على وسائل التواصل الاجتماعي، كلها أسباب للتردد في تناول اللقاح في الأردن. وكان موقعا التواصل فيس بوك Facebook وواتساب WhatsApp من شبكات التواصل الاجتماعي الرئيسية التي تم تحديدها في هذه الدراسة على أنها تنشر معلومات مضللة حول اللقاح. وأفاد أفراد عينة الدراسة أنهم يؤمنون بنظريات المؤامرة التي تمت مناقشتها على هاتين المنصتين. علاوة على ذلك، لعبت مقاطع الفيديو الخاصة بالمؤثرين والأطباء المناهضين للتطعيم من الخارج دورًا في تضليل الأفراد فيما يتعلق بالتطعيم ضد كوفيد[2].

كما وجدت دراسة أخرى نُشرت عام 2020 أن المعلومات الخاطئة حول أصل وباء كورونا (كونه جزءًا من مؤامرة، وحرب بيولوجية، ودور شبكات الجيل الخامس) في الأردن ارتبطت بمستويات قلق أعلى لدى الجمهور. وكانت منصات التواصل الاجتماعي والتلفزيون والنشرات الإخبارية هي المصادر الأكثر شيوعًا للمعلومات حول الوباء. وأظهرت الدراسة الآثار الضارة المحتملة للمعلومات الخاطئة على عامة الناس وشددت على الحاجة إلى تقديم معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب حول الوباء لتقليل التأثير الصحي والاجتماعي والنفسي للمرض[3].

حوكمة المحتوى الصحي.. بين ضرورة التطبيق ومخاوف التنفيذ

تتطلب حوكمة المحتوى الصحي وضع قوانين ناظمة له، وهذا يتضمن إجراءات وعقوبات ضد من ينشر المحتوى الصحي المغلوط. وهنا تبرز المخاوف من أن تكون هذه الحوكمة وسيلة للحكومات للحد من حرية التعبير. في الواقع، إننا نسير على خط رفيع أحدّ من السيف وأرقّ من الشعرة، فمن جهة يجب أن يكون للناس الحق في التعبير عن آرائهم على السوشال ميديا -كما في العالم الحقيقي-، ومن جهة أخرى يجب منع استخدامها كمنصات لنشر مغالطات تؤذي صحة المجتمع. كما يجب أن يكون الهدف من السياسات والحوكمة توفير إطار، لضمان أن المعلومات الصحية التي تتم مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي دقيقة وموثوقة، وهذا يشمل مكافحة المعلومات الخاطئة وتعزيز الثقافة الصحية.

ومن الأمور المهمة للغاية أيضًا الحفاظ على ثقة الجمهور بالمنظومة الصحية، وهذا يتطلب من مقدمي الرعاية الصحية الالتزام بالمعايير الأخلاقية والعلمية عند نشر محتواهم، وعدم الابتذال -مثل استخدام الكلام الجارح أو التلميحات الجنسية- لكسب المشاهدات والمتابعين. إذ أن فقدان ثقة المجتمع بمقدمي الرعاية الصحية له انعكاسات خطيرة للغاية، وبالتالي فإن حوكمة المحتوى الصحي في السوشال ميديا يجب أن تشمل المحاور التالية:

  1. الدقة، إذ يجب أن يعتمد المحتوى الصحي على أحدث الأدلة العلمية والأبحاث التي راجعها النظراء، ويجب توثيق كل ما يذكر بالعودة لمصادره.
  2. الشفافية، حيث يجيب على مؤثري مواقع التواصل الكشف بوضوح عن أي تضارب محتمل في المصالح أو وجود رعاية، فمثلًا قد يكون المحتوى الذي يروج لعقار معين لفقدان الوزن مدفوعًا من قبل الشركة المصنعة للعقار.
  3. الاعتبارات الأخلاقية، حيث يجب الالتزام بالمعايير الأخلاقية عند نشر المحتوى، وهذا أمر حساس ويقود لأخطاء يقع فيها الكثير من الأطباء الذين ينشرون قصصًا لمرضى عالجوهم وكيف تحسنوا، عبر ما يعرف باسم “قصص قبل وبعد”.  فهذا المحتوى قد يكون مضللًا، فليست جميع الحالات التي تخضع لجراحة تجميلية ستحصل على نفس النتائج. كما أن في نشر هذه القصص انتهاكًا لخصوصية المريض، حتى لو وافق شخصيًا على النشر. فقد تكون الموافقة مدفوعة نتيجة شعوره بالضعف وعدم قدرته على رفض طلب الطبيب.
  4. التدريب، حيث يجب توفير التدريب لمقدمي الرعاية الصحية وصناع المحتوى الصحي، حول كيفية قراءة الأبحاث والتعامل معها، وحول تطبيق الضوابط السابقة في محتواهم. ويشمل هذا توفير تدريب لنشطاء السوشال ميديا حول المحتوى الطبي والصحي ومحاذيره ومحدداته، عبر إنشاء دليل شامل لمؤثري التواصل الاجتماعي يتضمن خطوات تمكن هؤلاء المؤثرين من الوصول للمعلومات الصحية الدقيقة والمدعومة بالأدلة العلمية، بالإضافة إلى التحقق من المحتوى الصحي قبل نشره. كما يجب توفير قنوات اتصال لمؤثري السوشال ميديا للتواصل مع الجهات الصحية المختصة بشكل مباشر والحصول على الدعم والإرشاد.
  5. التعاون مع منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ففي خضم جائحة كورونا وبعد انتشار المحتوى المغلوط على منصات التواصل، والمطالبات التي قدمتها الجهات الصحية، قامت هذه المنصات بتغيير سياستها، وأصبحت أكثر تدقيقًا في المحتوى الصحي. أيضًا، من الضروري إبلاغ هذه المنصات عن المعلومات الخاطئة أولًا بأول لمعالجتها.

[1] Sallam, Malik et al. “High Rates of COVID-19 Vaccine Hesitancy and Its Association with Conspiracy Beliefs: A Study in Jordan and Kuwait among Other Arab Countries.” Vaccines vol. 9,1 42. 12 Jan. 2021, doi:10.3390/vaccines9010042

[2] AL-Jalabneh, A.-A. “Health Misinformation on Social Media and Its Impact on COVID-19 Vaccine Inoculation in Jordan”. Communication & Society, Vol. 36, no. 1, Jan. 2023, pp. 185-00, doi:https://doi.org/10.15581/003.36.1.185-200.

[3] Sallam M, Dababseh D, Yaseen A, Al-Haidar A, Taim D, Eid H, et al. (2020) COVID-19 misinformation: Mere harmless delusions or much more? A knowledge and attitude cross-sectional study among the general public residing in Jordan. PLoS ONE 15(12): e0243264. https://doi.org/10.1371/journal.pone.0243264

[1] World Health Organization (WHO), “Infodemic”, link: https://www.who.int/health-topics/infodemic#tab=tab_1

[2] Abu-Rish, Eman Y et al. “Physicians’ knowledge, attitudes and practices towards Zika virus infection in Jordan.” Journal of infection in developing countries vol. 13,7 584-590. 31 Jul. 2019, doi:10.3855/jidc.11356

[3] Sallam, Malik, Huda Eid, Nour Awamleh, Ala’a B. Al-Tammemi, Muna Barakat, Rabaa Y. Athamneh, Souheil Hallit, Harapan Harapan, and Azmi Mahafzah. 2022. “Conspiratorial Attitude of the General Public in Jordan towards Emerging Virus Infections: A Cross-Sectional Study Amid the 2022 Monkeypox Outbreak” Tropical Medicine and Infectious Disease 7, no. 12: 411. https://doi.org/10.3390/tropicalmed7120411

[1] Kemp, S., “Digital 2024: Jordan”, DATAREPORTAL, 23-2-2024, link: https://datareportal.com/reports/digital-2024-jordan#:~:text=Jordan%20was%20home%20to%206.38,percent%20of%20the%20total%20population.

[2] منظمة الصحة العالمية، “تعزيز النُظُم الصحية لتحقيق التغطية الصحية الشاملة”، الرابط: https://www.emro.who.int/ar/annual-report/2017/strengthening-health-systems.html#:~:text=%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D9%83%D9%85%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%A9%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%88%D9%8A%D9%84,%D9%8A%D8%B9%D9%88%D9%82%20%D8%A3%D8%AF%D8%A7%D8%A1%20%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A%20%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%87%D8%A7.

زر الذهاب إلى الأعلى