إسرائيل ما بعد السابع من أكتوبر: تتبع التغيير في السياسة والمجتمع

نُشر هذا المقال في العدد الأول من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع (JPS) والذي جاء ملفه تحت عنوان “التداعيات الإقليمية للحرب على غزة”.

لتحميل المجلة أنقر على الصورة أدناه

أحدث هجوم “السابع من أكتوبر” على إسرائيل صدمة في صميم المجتمع الإسرائيلي، وطرح سؤالًا ملحًا هو: هل تلائم قيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أوقاتَ الأزمات؟ يلعب إعلان نتنياهو الفوري للحرب على حماس، وتشكيله لحكومة الطوارئ مع زعيم المعارضة بيني غانتس؛ عنصرين أساسيين في طريقة نتنياهو تجاه الأزمة التي طرأت. حيث أسفرت الحرب حتى الآن عن مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وعن حالة إنسانية مزرية في غزة.

تجيب هذه المقالة على السؤال التالي: كيف غيّرت الأحداث منذ السابع من أكتوبر المجتمع والسياسة في إسرائيل؟

قبل الخوض في الوضع الذي استجد بعد السابع من أكتوبر، من المهم تفحص إسرائيل قُبيل هجوم حركة حماس، وفي هذا الصدد، هناك ثلاث نقاط رئيسية ينبغي النظر فيها؛ أولًا، يحكم إسرائيل ائتلاف يميني متطرف يتبع سياسات بالغة التدمير مع الفلسطينيين، ثانيًا، شهدت إسرائيل احتجاجات جماهيرية غير مسبوقة ضد مشروع الإصلاحات القضائية التي يدعمها اليمين المتطرف قبل السابع من أكتوبر، وأخيرًا، يواجه نتنياهو تحديات كبيرة بسبب فجوة انعدام للثقة بشكل واسع بين الإسرائيليين.

وفي الوقت الراهن وبعد ستة أشهر من الصراع، من الواضح أن الثقة في نتنياهو قد وصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، ففي حين توجد شرعية واسعة النطاق، ودعمًا لاستمرارية الحرب لتحقيق أهدافها المعلنة، إلا أن هناك مُفارقة؛ فالإسرائيليون موعودون بنتيجة واحدة، إلا أنهم يسعون لاختبار نتيجة أخرى. ولتوضيح ذلك، فإن وجود أزمة الرهائن المؤلمة جنبًا إلى جنب مع مظاهرات عائلات الأسرى المستمرة، مع ما يقرب من 200 ألف نازح إسرائيلي من الشمال والجنوب غير الواثقين من عودتهم لمناطقهم، في حين يعاني الجيش الإسرائيلي لتفكيك حماس، وهو الهدف الذي يعتبره الخبراء بعيد المنال، لذلك، فإن الطريق أمام إسرائيل لاستعادة أي مظهر من مظاهر الحياة الطبيعية ما يزال غير مؤكد.

في المقابل، فإن نظرة مُعمقة في الحرب وإطار الانقسامات السياسية الداخلية في إسرائيل؛ تكشف أن السياسة الإسرائيلية اليوم تعيش وضعًا غير مستدام، ففي حين أن فصيلًا يمينيًا يواصل الصعود لتحدي نتنياهو؛ إلا أن الحرب المستمرة أخضعت الكثير من جوانب العملية السياسية. ومع ذلك، بمجرد أن يهدأ الصراع أو يدخل مرحلة أقل حدة، فمن المرجح أن تعود النزاعات الداخلية الناجمة عن الجدل الدائر حول الإصلاحات القضائية إلى الواجهة.  بالإضافة لذلك، فإن احتمال رحيل بيني غانتس من حكومة الحرب سيثير نقاشات سياسية مكثفة بطبيعة الحال.

وعلى صعيد المستقبل غير البعيد، ستشهد إسرائيل حقبة ما بعد نتنياهو ولا بد، وأيًا كانت الديناميكيات؛ إلا أنه من غير المرجح أن تتحول ديناميكيات القوة داخل السياسة الإسرائيلية بشكل كبير من اليمين إلى اليسار. وبدلًا من ذلك، قد تتمهد الطريق لنمط جديد من الحكم يشبه ائتلاف (بينيت-لابيد)، الذي تميز بتنوع أيديولوجي مع تركيز أقوى على الحكم الفعال محليًا، وتحسين العلاقات إقليميًا. وقد تعطي هذه الحكومة الجديدة الأولوية للمضي قدما في بعض المبادرات الدولية، خاصة المتعلقة بالقضية الإسرائيلية الفلسطينية التي لا تمس إسرائيل بشكل مباشر.

تُمثل الحرب الحالية سياقًا فريدًا في التاريخ الإسرائيلي، المتميز بالانقسامات العميقة الداخلية على مستوى المجتمع، والخلافات الصارخة بين المؤسسة العسكرية والحكومة، وانهيار ثقة الجمهور في الحكومة وقيادتها. وفي أوائل أغسطس/آب العام الماضي، حذّر مسؤولون عسكريون وأمنيون نتنياهو من الآثار الضارة للانقسامات السياسية في البلاد وأثرها على استعداد الجيش لأي صراعات محتملة، حيث أعربوا عن قلقهم البالغ إزاء النقص في أعداد المتطوعين للقوات الاحتياطية، مع تأكيدهم على أن ذلك سيؤدي إلى تآكل القدرات الأساسية للجيش ويخفض من جاهزيته. كما ناقشوا تآكل الردع الإسرائيلي، وخاصة فيما يتعلق بردع كتائب حزب الله. كما أبلغت وكالة الاستخبارات العسكرية (أمان) نتنياهو عن المخاوف بشأن مشروع “الإصلاح القضائي” المثيرة للجدل، وأرسلت الوكالة عددًا من الرسائل، كان من أبرزها رسالة أُرسلت قبيل تصويت الكنيست مباشرةً، بهدف الحد من استخدام المحكمة العليا لـ “الرشادة” في تدقيقها على سياسة الحكومة، وبذلك سلطت الضوء على الآثار الأمنية لمشروع الإصلاحات القضائية على كلٍ من المدى القصير والمستقبل.

ومما يثير الدهشة؛ أن دعم المجهود الحربي قد امتد إلى ما هو أبعد من الطرق التقليدية للتطوع لقوات الاحتياط والدعم من أحزاب المعارضة. فشملت مجموعة واسعة من الإجراءات لسد الفجوات التي خلفها تراجع الحكومة في السنوات الأخيرة. وجدير بالذكر أن الحركات الاحتجاجية التي نظمت في السابق مظاهرات حاشدة ضد حكومة نتنياهو، ودعت إلى “الديمقراطية اليهودية” قد حوّلت تركيزها لدعم المجهود الحربي. وهذه الحركات؛ بما في ذلك جنود الاحتياط في الجيش، وأعضاء المؤسسة الأمنية، ونشطاء التكنولوجيا المتطورة، ومجموعات مثل: “قوة كابلان”، و”الأخوة في السلاح”، ومجتمع الأعمال، احتشدت مع مجموعات مختلفة تنتمي للمجتمع المدني؛ حيث اجتمعت كلها للمساعدة على مستوى الجبهة الداخلية. فشملت جهودهم تقديم الدعم لسكان غلاف غزة الذين انتقلوا إلى داخل إسرائيل، بجمع التبرعات والإمدادات العسكرية للجيش، وجمع الأموال لتمويل رحلات طيران لإعادة الإسرائيليين الذين هاجروا للخارج، وشراء المعدات الشخصية للجنود، وتقديم الطعام والسكن البديل للسكان الجنوبيين النازحين، وفي كثير من الحالات، تحِل هذه المبادرات الشعبية بدلًا من الدور الذي كانت تضطلع به الدولة تقليديًا.

وفي ذات الوقت، تتجنب إسرائيل معالجة مسائل حاسمة تتعلق بالعوامل الأساسية المُسببة للمشهد الحالي، وتشمل هذه القضايا: الاحتلال، والحصار المفروض على غزة، وسياسة إسرائيل في تهميش القضية الفلسطينية، ورفضها القبول بأي تسويات سياسية.  بالإضافة لوجود اعتقاد خاطئ وواسع الانتشار بأن التحسينات الاقتصادية المتزايدة في حياة الناس اليومية؛ يمكن أن يأتي عوضًا عن تطلعاتهم الوطنية. من حيث الجوهر؛ فإن نهج السعي لتحقيق السلام الاقتصادي وإدارة الصراع من خلال التركيز فقط على تحقيق “الهدوء الاقتصادي” في غزة هو نهجٌ فاشل. حيث يعتقد مؤيدو هذا النهج أنه يمكن القفز على ضرورة التوصل لحل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، ومع ذلك، فإن هذا الاعتقاد ليس مقصورًا على الليكود؛ بل يتبناه الطيف السياسي في إسرائيل بشكل كامل.

أما في الوقت الحاضر، فيشهد الخطاب الإسرائيلي غيابًا واضحًا للمناقشات التي تتناول هذه الأسئلة الحاسمة، فلا وسائل الإعلام والإعلاميين، بل ولا حتى السياسيين يناقشون أيًا من في هذه القضايا. وعلى النقيض من ذلك، ينصب تركيز أغلبيتهم على الدعوة لتصعيد العنف لأقصى درجة دون قيود. ويستمر تركيز هذه الدعوات، بل ويؤججه موافقة المجتمع الدولي الضمنية على رد إسرائيل على هجوم حماس بالقوة غير المقيدة. فعلى الرغم من الفشل المتكرر لهذه الاستراتيجية التي تركز على الأمن في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والذي يتضح بتجربة إسرائيل في لبنان مع حزب الله، وفي الصراعات المماثلة حول العالم، إلا أن هذه الاستراتيجية لا تزال مستمرة بلا هوادة.

ومع عدم وجود نهاية واضحة قد تلوح في الأفق، فيبدو أن نتنياهو يميل إلى إطالة أمد الحرب لخدمة مصالحه السياسية، والتي تتمحور في المقام الأول حول بقائه واستمراريته سياسيًا. ومع ذلك، تشير الاحتجاجات الإسرائيلية الأخيرة المناهضة لنتنياهو، إلى جانب تفشي الإرهاق بين جنود الاحتياط، وتدهور الظروف الاقتصادية؛ إلا أن إجراء انتخابات مبكرة هو الحل الوحيد القابل للتطبيق.

في الختام، يتعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لضغوط داخلية كبيرة، خاصة مع اتحاد خصومه السياسيون والرأي العام في عموم إسرائيل ضد مشروع التعديلات المقترحة على الأحكام القانونية والقضائية، وكذلك ضد مساعيه للبقاء في السلطة. في حين أن الهجوم المُباغت ومتعدد الجوانب الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/تشرين أول، قد ضاعف من خيبة أمل نتنياهو. ومع ذلك، وفي ضوء الدعم غير المحدود من الولايات المتحدة والدول الغربية، ومع تحول تركيز إسرائيل نحو هزيمة حماس، يعيش نتنياهو راحة مؤقتة تخفف عنه التحديات السياسية الداخلية، وقد تطيل هذه الراحة فترة رئاسته بما يتجاوز التوقعات السابقة.

وسط الصراع العنيف الدائر في غزة، يبدو أن نتنياهو يشهد عودة قد تشبه “طائر الفينيق” الذي ينهض من وسط الرماد في الحرب، ومع ذلك، فمن المرجح أن يكون هذا الانتعاش مؤقتًا وقصير الأجل. خاصة أنه في مرحلة ما بعد الصراع، سيواجه بلا شك تدقيقًا ومحاسبة نتيجة فشله في منع هجوم حماس، وفتحه المجال لحماس وتمكينها من تقويض السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ومحاولته المثيرة للجدل لسَن مشروع القضاء المُفضي للانقسام المجتمعي. خاصة مع إثارة هذا التشريع للغضب والاحتجاجات الشعبية على نطاق واسع، مما أدى لصرف الاهتمام عن الأولويات الوطنية مثل الدفاع والردع والأمن.

زر الذهاب إلى الأعلى