تركيا وإيران وسؤال الدور القادم
نُشر هذا المقال في العدد الأول من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع (JPS) والذي جاء ملفه تحت عنوان “التداعيات الإقليمية للحرب على غزة”.
لتحميل المجلة أنقر على الصورة أدناه
مدخل تأسيسي عام
عند الحديث عن تركيا وإيران كقوى إقليمية فاعلة في الشرق الأوسط، فإننا نتحدث عن سياق متغير من التفاعلات الإقليمية، ومعطى التغيير هنا نابع من الطريقة التي يتعاطى بها كلا البلدين مع هذه التفاعلات، إذ إن طبيعة النظام السياسي في كل منهما، سواءً على مستوى الإيديولوجيا السياسية والمدخلات الاجتماعية، والأهم العلاقات الدولية، التي فرضت على كل منهما تتبع مسار وقراءة مختلفة عن الآخر، وهو ما يتضح من تعاطيهما مع القضايا الإقليمية، مع ضرورة التأكيد هنا بأن هذا الواقع لم يمنع من أن تجد كل من تركيا وإيران نفسيهما بذات السياق الإقليمي، خصوصًا في القضايا ذات الاهتمام المشترك، ما جعل هناك تداخل معقد بين ثنائية المصلحة والإيديولوجيا بالعلاقات بين البلدين.
مما لا شك فيه، إن كل من تركيا وإيران تنظران بطريقة مختلفة لأدوارهما في المنطقة، فتركيا تعد نفسها قوة “تعديلية” بالمنطقة، وتنظر بنظرة تسيطر عليها حالة من “الرومانسية التاريخية” عند الحديث عن دورها في الشرق الأوسط، فهي وريثة الإمبراطوية العثمانية التي سيطرت على المنطقة قرابة 4 قرون، وما شعار “العثمانية الجديدة” الذي بشر به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلاّ تحول إستراتيجي في سياسة تركيا الخارجية حيال المنطقة وقضاياها، ورغم تعثر تركيا في إنتاج حالة سياسية مواتية لها في المنطقة، وتحديداً بعد ثورات الربيع العربي، إلاّ إن ذلك لم يمنعها من السعي لإعادة التموضع إستراتيجياً ضمن سياقات إقليمية ودولية متجددة، تحفظ مصالحها ونفوذها، ولعل التقارب التركي مع دول الخليج العربية ومصر مؤخراً، يعطي تصورًا واضحًا لطبيعة الهامش الواسع الذي بدأت تتحرك من خلاله.
أما إيران فإن الحال معها مختلف تماماً، فهي تنظر لنفسها على إنها قوة “تغييرية” بالمنطقة، ودولة تحكمها إيديولوجيا دينية عابرة للحدودة، وتنظر للشرق الأوسط على إنه منطقة فراغ يجب أن تملأه الثورة الإسلامية، هذه النظرة فرضت على إيران السعي لإعادة تغيير شكل وتوازنات المنطقة وفق هذه النظرة الثورية، وذلك عبر التفاعل مع قضايا المنطقة سياسياً وأمنياً، وأحيان أخرى مذهبياً، سواءً عبر سعيها لإنجاح النماذج السياسية القريبة منها، أو سعيها لتشكيل ودعم الجماعات المسلحة الموالية لها، وربطها ضمن تحالف جيو – عقائدي يمتد من أفغانستان وحتى البحر الأبيض المتوسط، والمعبر عنه إستراتيجياً بـ”محور المقاومة”، ومن ثم فإن مثل هذا الواقع جعل إيران في حالة صدام مباشر مع العديد من القوى الإقليمية والدولية، وتحديداً الولايات المتحدة.
مما لاشك فيه تعيش الدولتان حالياً في حالة من التداخل الإستراتيجي المعقد، وهو تداخل فرضته سياقات الحرب على غزة، من حيث الكيفية التي تدير كل منهما سياقات هذه الحرب، وموائمتها من أولويات الإستراتيجية الإقليمية لكل منها، وهو واقع إنعكس بصورة مباشرة على تحركات كلا البلدين، حيال باقي دول المنظومة الإقليمية، ما بين التصعيد تارة والتنافس تارة أخرى، والتهدئة تارة ثالثة.
إن البحث في طبيعة ومستقبل دور كل من تركيا وإيران، يستدعي التوقف ملياً عند أبرز المتغيرات الداخلية والخارجية التي ساهمت بتشكيل نهج ورؤية كل منهما، والأهم من ذلك، كيف تنظر تركيا وإيران للمستقبل الذي ينبغي أن يكون عليه دورها بالشرق الأوسط بعد الحرب على غزة، وكيف ستتفاعل معه؟
أولاً: نهج إستراتيجي جديد
يمكن القول بأن كل من تركيا وإيران تعيشان اليوم حالة من الإتساق الإيديولوجي على صعيد السياسة الخارجية، لم تشهداه منذ فترات ماضية، ومثل هذا الإتساق أنتج وحدة قرارية خارجية، وتوافق عام على مسارات وأهداف السياسة الخارجية، دون أن تكون هناك تعقيدات داخلية تعرقل من فاعلية الدور الإقليمي لكل من البلدين.
وفيما يتعلق بتركيا، فإن ملامح النهج الجديد، وتحديداً مع الولاية الثانية للرئيس أردوغان، يمكن وضعها ضمن المسارات الآتية:
مركزية القرار السياسي الخارجي: نجحت تركيا بخلق مركزية مؤثرة على الصعيد الخارجي، وهو ما تمثل بوصول شخصيات متطابقة إيديولوجياً مع الرئيس أردوغان، والحديث هنا عن وزير الخارجية هاكان فيدان، ورئيس المخابرات إبراهيم كالن، ومن ثم فإن وجود هذه الشخصيات حول الرئيس أردوغان يعطي تصور واضح لطبيعة الرؤية الإستراتيجية التي تتحرك من خلالها تركيا على الصعيد الخارجي، إذ يُعطي تعيين فيدان، وزيراً للخارجية، بعض المؤشرات على طبيعة النهج الذي ستتبناه أنقرة بالفترة المقبلة، ففي السنوات التي قاد فيها المخابرات، أشرفَ فيدان على قنوات التواصل الخلفية الأكثر حساسية مع مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين، كما لعب دوراً بارزاً في صياغة الجوانب الأمنية والاستخبارية وترتيب المصالحات مع الخصوم، وبالشكل الذي أعطى تركيا دفعة قوية للأمام في المنطقة.
صعود الدبلوماسية الأمنية: إن التحول من “دبلوماسية المخابرات” التي أدارها فيدان في السابق، إلى “الدبلوماسية الأمنية” بأبعادها المختلفة، أصبح العنوان الأبرز الذي ستدير من خلاله أنقرة الملفات الإقليمية مستقبلاً، إذ توحي عملية الدفع بشخصية استخبارية على رأس الخارجية، إلى أهمية البعد الأمني في السياسة الخارجية التركية، خصوصاً وإن مجمل القضايا التي تتفاعل معها أنقرة اليوم، هي قضايا أمنية، سواءً في العراق أو سوريا أو أوكرانيا، أو حتى على صعيد الموقف من الحرب في غزة، وهي نظرة تعكس اهتمام أنقرة للموازنة بين الضرورات الأمنية والتفاعلات الإقليمية الجديدة.
الأمن الداخلي كمحرك للدور الخارجي: يوضح النهج الجديد إن الأمن الوطني التركي أصبح المحور الذي يتحرك من خلاله أردوغان على الصعيد الخارجي، سواءً على مستوى التخفيف من المشكلات الإقتصادية التي تعيشها تركيا، أو مواجهة تهديدات حزب العمال الكردستاني في سوريا والعراق، إذ إنه بالرغم فوز الرئيس أردوغان بولاية ثانية، إلاّ إن نتائج الإنتخابات أظهرت تراجعاً شعبياً واضحاً عن تأييد سياساته السابقة، وهو ما دفع الرئيس أردوغان إلى إجراء مراجعة لبعض سياسته الخارجية، بالإطار الذي يخدم سياساته الداخلية، مع ضرورة الإشارة إلى إن هذه المراجعة لا تعني تغيير كبيراً فيها، بقدر ما تعني التحول من نهج إلى نهج آخر أقل تطرفاً، ويحقق مزيداً من العوائد السياسية، ولعل هذا ما يفسر الانفتاح التركي على دول الخليج العربية ومصر، أو الموقف من الحرب في غزة، عبر التفريق بين إدانة إسرائيل في حربها على سكان القطاع، وأهمية استمرار العلاقات الاقتصادية معها.
أما إيران فهي الأخرى تعيش ذات الاستقرار على صعيد إدارة السياسة الخارجية، فمع مجيئ الرئيس الإيراني الأسبق الراحل إبراهيم رئيسي، والصعود السياسي للتيار المحافظ، وهو صعود تم تأكيده مجدداً بعد فوز التيار المحافظ في الانتخابات البرلمانية مطلع مؤخرًا، أظهرت إيران تطابقاً إيديولوجياً واضحاً على مستوى الوحدة القرارية في السياسة الخارجية، ويمكن القول بأن النهج الإيراني الخارجي في عهد رئيسي، تمثل في ثلاث محاور رئيسية هي:
وحدة الخطاب السياسي الخارجي: أدى وصول رئيسي إلى خلق وحدة في الخطاب السياسي الإيراني الموجه للمنطقة، وهي أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء اختيار رئيسي من قبل التيار المحافظ والحرس الثوري، بدعم وتأييد من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في محاولة لإنهاء الخلافات التي ظهرت خلال فترة الرئيس السابق حسن روحاني، وتحديداً بين مؤسسة الرئاسة والحرس الثوري حول الدور الإقليمي الإيراني، بالشكل الذي جعل المنطقة أمام سياسة وخطاب إيراني واحد، وليس أمام سياسات وخطابات مُتباينة ومُتداخلة.
تأمين إستراتيجية الحرس الثوري: قامت إستراتيجية الحرس الثوري في المنطقة، وتحديداً في مرحلة ما بعد اغتيال قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني، على إحداث عملية استمرارية وتغيير في طريقة عمله، من أجل تعضيد نفوذه في المنطقة، والتحكم بأنساق التهدئة أو التصعيد مع الولايات المتحدة، حسب ما تقتضيه مصلحة الواقع الإيراني الجديد، وهو ما يتضح من الدور الإيراني في العراق على سبيل المثال، إذ يُدار اليوم من قبل شخصيات حرسّية مؤثرة، فإلى جانب قائد قوة القدس إسماعيل قاآني، هناك أدوار مؤثرة يقوم بها حسن دنائي فر مسؤول ملف العراق في الخارجية الإيرانية، وهو سفير سابق لإيران في العراق، كما إنه جنرال سابق بالحرس الثوري، إلى جانب دور السفير الإيراني الجديد في العراق محمد كاظم آل صادق، فهو أيضاً جنرال سابق بالحرس الثوري.
دمج الخارجية بالحرس الثوري: شكلت عملية اختيار حسين أمير عبد اللهيان، كوزير للخارجية في عهد رئيسي، تحولاً مهماً بالنهج الإيراني، فهو الشخصية الأبرز من الجيل الثاني للثورة، دبلوماسي متمرِّس ومتأثر بسليماني، يحظى بثقة المرشد الأعلى والحرس الثوري، وله شبكة علاقات عامة قوية مع جميع وكلاء إيران في المنطقة، وبالتالي فإن المجيئ به على رأس الخارجية الإيرانية في عهد رئيسي، هو من أجل استخدام هذه الخبرة والعلاقات؛ بالإطار الذي يدعم جهود الحرس الثوري في العراق وسوريا ولبنان واليمن أولاً، ويوازن فشل قاآني في ملء فراغ سليماني ثانياً، وإعادة ترتيب الأوراق الإيرانية المبعثرة في المنطقة ثالثاً، بالشكل الذي يعيد الفاعلية للدور الإقليمي الإيراني، ويمكن القول بعد رحيل عبداللهيان وتسلم علي باقري كني ملف الخارجية الإيرانية، فإن الأخير يعد من نفس المدرسة.
مما لا شك فيه إن هناك العديد من الضرورات السياسية والإستراتيجية التي تحيط بإيران، وقفت خلف عملية وصول رئيسي، وهو الأمر الذي دفع خامنئي لوضع كل آماله على هذا الرئيس والفريق الذي سيرافقه في عملية إدارة الدولة داخلياً وخارجياً للمرحلة القادمة، الا ان حادث الوفاة والصدمة التي مُنيت بها إيران ستجعل المرشد الأعلى يسعى للدفع بشخصية جديدة مشابهة لابراهيم رئيسي للسير على نفس الخطاب الأيديولوجي في المرحلة القادمة.
ثانياً: تركيا وإيران والحرب في غزة
إن أدوار كل من تركيا وإيران تُشكل نموذجاً فريداً في العلاقات الإقليمية، فعلى الرغم من أن البلدين وفقًا لسنوات طويلة على طرفَي نقيض في معظم الصراعات الإقليمية المحيطة بهما، وتحديداً في الشرق الأوسط، فإنهما إستطاعا إدارة خلافاتهما على مبدأ “التعاون التنافسي”، وعلاوة على العوامل التاريخية والجيوسياسية التي تفرض على البلدين إدارة منافستهما، فإن “التعاون التنافسي” استند إلى حقيقة أن الصراعات المحيطة بهما فرضت عليهما تحديات مشتركة، وتحديداً في سوريا والعراق، عند التعاطي مع القضية الكردية، مع إن ذلك لم يمنع من ظهور خلافات حول قضايا أخرى.
ففي الحرب على غزة، فإنّ المعارضة التركية والإيرانية المشتركة للحرب، شكّلت أرضية مشتركة للبلدين في إنتاج مقاربة مشتركة للحرب. مع ذلك، فإنه في الجوهر، يتبنى البلدان سياسات غير منسجمة تماماً، فبينما انخرطت طهران في الحرب عبر شبكة وكلائها في المنطقة، وطالبت دول المنطقة بقطع علاقاتها وروابطها الاقتصادية مع إسرائيل، فإن تركيا لا تزال تتمسك بعلاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل على غرار دول المنطقة الأخرى، كما إنها عارضت الحل العسكري للحرب، وتنشط بفاعليّة في دبلوماسية القنوات الخلفية لوقفها.[1]
لقد فرض الاضطراب الحالي في أجندة السياسة الإقليمية، حالة من المراجعة السياسية على صعيد التحرك الخارجي لكل من تركيا وإيران، ففي الوقت الذي تحاول فيه إيران توسيع دائرة التوافق مع دول المنطقة، وتحديداً على مستوى العلاقات مع دول مؤثرة في المنطقة، كالعربية السعودية والأردن ومصر، فإن تركيا هي الأخرى اندفعت مؤخراً لإعادة تطبيع العلاقات مع دول المنطقة، فبعد نجحها بإعادة العلاقات مع الإمارات والعربية السعودية، زار الرئيس أردوغان مؤخراً مصر، مُسدلاً الستار عن إحدى أبرز المعقدات الإستراتيجية التي واجهت تركيا بالمنطقة، عبر إعادة العلاقات مع مصر، إلاّ إن الإشكالية الرئيسية تكمن في إن كل من تركيا وإيران لهم قراءة مختلفة من هذا التطبيع والانفتاح الإقليمي.
فتركيا تنظر إلى إن العلاقات الفاعلة والنشيطة مع دول المنطقة العربية، من شأنه أن يعطي تركيا إندفاعة إستراتيجية للأمام، سواءً على مستوى تحقيق المزيد من الفوائد الإقتصادية للداخل التركي، عبر زيادة حجم الإستثمارات الخليجية والعربية في تركيا، أو عبر دمج تركيا ضمن السياسات العربية في المنطقة، سواءً على مستوى تهذيب السياسات الأمريكية والروسية حيال تركيا، أو جعل تركيا ضمن الحسابات العربية في سياق التوافق مع إيران، في مقابل ذلك؛ تطمح إيران عبر سياسة الإنفتاح على الدول العربية، تحييد هذه الدول عن مساعي إسرائيل لدمجها ضمن محور مضاد لإيران، فضلاً عن سعي إيران لإنتاج وضع إقليمي يخدم نفوذها في المنطقة، عبر تأمين المكاسب السياسية التي حققها وكلاؤها في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
تدرك كل من تركيا وإيران أهمية الإنخراط السياسي في مرحلة ما بعد الحرب على غزة، وذلك يتضح من طبيعة التفاهمات التركية مع الولايات المتحدة على مسار الحل السياسي في المنطقة، والإنخراط في دبلوماسية فاعلة مع العراق لتصفير مشكلة حزب العمال الكردستاني، ما يعكس توجهاً تركياً لتصفير كل الأزمات للإستعداد لما هو قادم، وكذلك إيران فإنه رغم الهجوم الإسرائيلي على مقر القنصلية الإيرانية في دمشق في أبريل / نيسان 2024، إلاّ إنها لم تندفع نحو الحرب مع إسرائيل، بل فضلت الرد المحدود على مغامرة إقليمية غير محسوبة، وفق معادلة الحفاظ على النفوذ أهم من الرد الموسع على إسرائيل.
ثالثاً: تحدي الدور القادم
يمثل الحديث عن الدور القادم لكل من تركيا وإيران، أحد أبرز النقاشات الدائرة داخل كلا البلدين، سواءً على مستوى مراكز الأبحاث أو دوائر صنع القرار، ولعل مرد هذا النقاش يعود لطبيعة التحديات الإستراتيجية التي تواجهها كل من تركيا وإيران بالوقت الحاضر، إلاّ إنه يمكن القول بأن نظرة بسيطة لطبيعة التحركات الخارجية التي قام بها كلا البلدين، تشير بما بل يقبل الشك إن هناك مراجعة فكرية وإستراتيجية فرضت نفسها على واقع الأدوار التركية والإيرانية في الشرق الأوسط.
إن التحول الإستراتيجي الأبرز الذي طرأ على طريقة التفكير التركي الخارجي، هو النظر بواقعية لتحولات ومتغيرات المنطقة، وتمثل ذلك بالتحول من رؤية المنطقة على إنها جزء من تاريخ تركي – عثماني، إلى كونها جزء من ثقافة تركية – عثمانية، وجسد هذا التحول التراجع العملي عن أطروحة “العثمانية الجديدة”، وذلك عبر تأكيد الرئيس أردوغان على أن الغاية من فكرة “العثمانية الجديدة”، التأكيد على الرمزية العثمانية لجغرافيا الشرق الأوسط، وأعاد التأكيد على ذلك في خطاب له أمام جمهور حزب العدالة التنمية في أنقرة عندما قال: “بأن حلب ومصراته والموصل وغيرها من الحواضر العثمانية قد تقع خارج حدود الدولة التركية، لكنها بالتأكيد حاضرة في ثقافتنا ووجداننا”، ومثل هذا التعبير يمثل تخلياً واضحاً عن “العثمانية الجديدة”، والإستعاضة بدلاً عنها بـ”الوطنية التركية”، التي أصبحت المحدد الأول للدور التركي في الشرق الأوسط.
ويضاف لما تقدم، فإن “الحفاظ على الوضع القائم” قد يمثل المحدد الإستراتيجي الثاني الذي يمكن أن يكون عليه الدور التركي بالمرحلة المقبلة، فتركيا وبظروفها الداخلية والإقليمية المعقدة، تخشى من أن تكون هناك تحولات كبيرة في توازنات القوى بعد الحرب على غزة، ولعل سعيها لإنتاج حل سياسي لهذه الحرب، يمثل مسعى تركي للحفاظ على التوازنات الحالية دون تغير، وتحديداً لصالح دول مثل إيران أو إسرائيل، ولعل إندفاعها نحو تطبيع العلاقات مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية، يأتي في إطار رؤية تركية لموازنة الفعل مع القدرة، فتركيا دولة تمتلك الفعل لكنها تفتقر للقدرة، بسبب الأزمات الإقتصادية والإجتماعية التي تمر بها، في حين تمتلك الدول العربية والخليجية القدرة إلاّ إنها تفتقر للفعل، ولعل هذا ما يوضح حجم التفاعل التركي العربي مؤخراً، لتحقيق نوع من التكامل الإستراتيجي في مواجهة الإندفاعة الإسرائيلية والإيرانية لتشكيل وضع ما بعد الحرب على غزة.
أما إيران فإن مرحلة ما بعد إغتيال سليماني، فرضت عليها تحديات كبيرة على الصعيد الإقليمي، خصوصاً في موضوع تأمين نفوذها وإدامة إندفاعها الإقليمي، إذ أنتجت حالة العزلة الإقليمية والدولية التي تعرضت لها إيران، بفعل سياسات الضغوط القصوى التي مورست ضدها من قبل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قناعة إيرانية بضرورة إستغلال مجيئ إدارة جو بايدن، وإعطاء فرصة لتحويل مناطق النفوذ إلى منصة تعمل من خلالها إيران على إظهار صورة جديدة للتفاعل مع العالم، فإعتمدت سياسة الإنكار المعقول ضد الوجود الأمريكي، وإنخرطت في توافقات إقليمية موسعة مع العربية السعودية، وبدأت في محاولة إعادة تطبيع علاقاتها مع دول عربية أخرى، وهي مسارات تعكس رؤية جديدة للدور الإيراني في الشرق الأوسط.
يمكن إعتبار إستراتيجية “الدفاع الثابت” هي المحرك الرئيسي للدور الإيراني في المرحلة المقبلة، فنجاح الولايات المتحدة في إزاحة سليماني عن المشهد السياسي الإيراني، وفرض العقوبات الإقتصادية، والهجمات المستمرة على وكلاء إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان، رسخ صدقية الردع الأمريكي لدى صانع القرار الإيراني، ولعل هذا ما يفسر حجم الإنضباط الإيراني في عدم الإنخراط الموسع في حرب غزة، خشية أن يؤدي مثل هذا الإنخراط إلى تداعيات كبيرة تواجهها إيران، ولذلك تعمل إيران على إبقاء التصعيد الحالي ضمن المسار المسيطر عليه، من أجل حماية نفوذها من جهة، وتأمين وكلائها من جهة أخرى.
إن التحدي الأبرز الذي تواجهه إيران اليوم يتمثل في الكيفية الإستراتيجية التي يتمكن من خلالها النظام الإيراني إنتاج مقاربة سياسية توازن ما بين “ضرورات البقاء” و”الإستجابة للتحديات”، فرغم محاولة النظام النأي بالنفس عن الهجمات التي يقوم بها وكلاؤها في المنطقة، فإنها ممّا لا شك فيه ترغب في إستمرار هذه الهجمات، لما توفّره من بدائل إستراتيجية للنظام، خصوصاً في ظل خشية إيران الإنخراط في حرب مباشرة مع إسرائيل بالوقت الراهن. ومع ذلك، إن استمرار الهجمات الإسرائيلية داخل سوريا أصبح مؤشراً هاماً للغاية، لكنه ليس السبب الرئيسي، على شبح الصراع المسلح الذي بدأ يلوح في الأفق على نطاق واسع بالمنطقة.
إن فكرة البقاء تمثل اليوم الهمّ الأكبر للنظام في إيران، بل إنها تمثل قيمة استراتيجية أكبر من قيمة الحرب مع إسرائيل بصورة مباشرة، وهذه الفكرة لا تتعلق بهيكل النظام أو قواه الرئيسية، بل بإيديولوجيته ومشروعه الإقليمي، والأهم الدور المستقبلي للحرس الثوري في الداخل والخارج، وهذه نقطة مهمة يمكن البناء عليها عند محاولة البحث عن الأسباب التي تدفع إيران إلى عدم التفكير في سيناريو الحرب الإقليمية، رغم التهديدات والإستنزافات العسكرية التي يتعرض لها وكلاؤها في المنطقة.
خاتمة وإستنتاجات
إلى جانب كل ما تقدم، لا يمكن إخفاء النزعة الإقليمية لكل من تركيا وإيران، بالعمل على تصدر المشهد الإقليمي، وإذا كانت الظروف الإقليمية والدولية الحالية غير مواتية لكلا البلدين في تحقيق هدف “القيادة الإقليمية”، إلاّ إن ذلك لا يعني تخلي البلدين عن هذا الهدف الإستراتيجي.
يمكن القول بأن الحرب في غزة فرضت على كل من تركيا وإيران إعادة تشكيل الرؤية الإستراتيجية في المنطقة، وفق حسابات الربح والخسارة، وهي حسابات فرضت على الطرفين إجراء حسابات دقيقة للموقف من الحرب في غزة، وأهمية حجز موقع مهم في المعادلة الإستراتيجية لما بعد الحرب، وهي إشكالية تحاول كل منهما تجاوزها بأقل الخسائر.
إن التحديات التي تفرض نفسها على الأدوار التركية والإيرانية بالوقت الحاضر، متعددة المستويات والأبعاد، وهو ما يجعل من موضوعة الحديث عن الدور القادم لكلا البلدين، مسألة خاضعة لحسابات داخلية ومتغيرات إقليمية ودولية، ستؤدي دوراً واضحاً في تحديد النهج الذي سيكون عليه الدور التركي والإيراني في المرحلة المقبلة.
[1] محمود علوش، زيارة رئيسي لتركيا.. التوقيت والسياقات، الجزيرة نت، في 27 يناير 2024.