رسالة قادمة من موسكو: تنظيم داعش يتعافى

شهدت العاصمة الروسية موسكو، مساء الجمعة، هجومًا على قاعة الحفلات الموسيقية “كروكوس سيتي هول” أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص، في عملية إطلاق نار نفذها أربعة أشخاص ينتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بحسب التصريح الذي صدر عن وكالة أعماق التابعة للتنظيم.

أثارت العملية تساؤلات عديدة ابتداءً من التشكيك بهوية المنفذ رغم بيان التنظيم، وصولًا إلى أسباب الهجوم ودلالاته وتداعياته القادمة على مشهد الجهادية العالمية.

في هذا الصدد، أجرى معهد السياسة والمجتمع، حوارًا مع حسن أبو هنية، وهو باحث غير مقيم في المعهد وخبير الجماعات والحركات الإسلامية، ويتضمن التقرير التالي أبرز النقاط التي وردت في هذا الحوار.

بين هوية المستهدِف وغرابة المستهدَف

على ما يبدو فإن عملية “كروكوس” التي نفذها مسلحون الجمعة الماضية لا تخرج عن تنظيم داعش، فإذا ما تم الأخذ بشكل هذه العملية وطريقة تنفيذها وطبيعة الهدف فإنها تحمل بشكل واضح بصمة التنظيم، على الرغم من التداخل الذي يحدث في هكذا حالات بين الصراع الجيوسياسي والنشاط الإرهابي، والتهم التي يتم تبادلها بين الدول، إلا أن العملية تشير إلى قيام شبكة منظمة بتنفيذها أي لا تقتصر على عمل فردي “ذئاب منفردة”.  

تصر موسكو على تحميل كييف مسؤولية العملية، بصفة التنظيم أداة بيد الاستخبارات الأوكرانية، ورغم أن هذه الفرضية على الصعيد النظري قد تحمل جانبًا منطقيًّا نتيجة تقاطع المصالح بين الطرفين، إلا أنها بحاجة للأدلة والبراهين؛ خاصة وأن التنظيم كان قد نفذ مرارًا هجمات في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، وبالتالي فإن تقاطع المصالح لا يعني بالضرورة التنسيق المتبادل. أما فيما يتعلق بمحاولة هروب المقاتلين باتجاه أوكرانيا، فهي تضع احتمالات عديدة حول هوية المنفذين والتي قد تشكل أوكرانيا بالنسبة لهم ملاذًا آمنًا نتيجة الفوضى، خاصة مع وجود الفيلق الدولي الذي يضم عددًا من المقاتلين الشيشان والذي يقودهم، أحمد زاكييف، المقربة توجهاتهم أساسًا من التيار السلفي، إلى جانب كتيبتي “الشيخ منصور” و “جوهر دوداييف” والتي قد يتحول بعضها باتجاه التطرف والانضمام لتنظيم داعش.

لكن في المقابل، تطرح تساؤلات عديدة حول الأسباب التي دعت إلى أن يتم تنفيذ العملية في العاصمة موسكو، في الوقت الذي تتجه فيه أنظار المسلمين والعرب جميعها صوب الحرب على غزة وما يجري في فلسطين، بل إن الموقف الروسي إزاء غزة إذا ما أُخذ بعين الاعتبار مواقف الدول الأخرى فهو أفضل من موقف الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى. إلا أن اعتبارات تنظيم داعش، الذي يتهم حركة حماس المنفذة لعملية “طوفان الأقصى” كحركة “وطنية” بالردة والكفر ويتهمها بالتبعية للمحور الذي تقوده إيران، يرى بأن العدو لا يقتصر على إسرائيل والغرب فقط بل يشمل الأطراف الأخرى أيضًا وهو ما يُظهره في بياناته. وبالتالي فإن التنظيم لا يفرق في العداء بين الولايات المتحدة وروسيا -على سبيل المثال لا الحصر- بل ترتبط عملياته بالقدرات التشغيلية لكل فرع، وهو ما قد يتضح أيضًا في إحباط عمليته التي كان يسعى تنفيذها في كنيس يهودي في العاصمة موسكو أيضًا بداية مارس/آذار الحالي، وقيامه بعملية التفجير التي وقعت في مدينة كارمان جنوب إيران والتي أسفرت عن مقتل قرابة 100 وإصابة المئات خلال إحياء ذكرى مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني خلال يناير/كانون الثاني الماضي. 

يجد التنظيم اليوم في الظروف الحالية فرصة لإعادة بناء ولاية القوقاز المسؤولة عن تلك المنطقة وتنفيذ عملياته، ولربما إحباط 419 عملية إرهابية -بحسب اللجنة الوطنية الروسية لمكافحة الإرهاب-خلال عام 2023 في روسيا حمل جزءًا كبير منها بصمات التنظيم.

دلالات الهجوم والتوقعات

حمل الهجوم دلالات عديدة وأثار تساؤلات كثيرة حول الاحتمالات والتوقعات القادمة على المديين القريب والمتوسط، فالعديد من المؤشرات تتحدث اليوم عن أن العالم سيشهد في المستقبل هجمات أكبر في جميع المناطق وليست فقط في ولايتي القوقاز وخراسان، وهو ما تؤيده التقديرات الأمريكية؛ فالانشغال بالصراعات الجيوسياسية كالحرب على غزة أدى إلى انشغال الولايات المتحدة عن التحالف الدولي والحرب على تنظيم داعش، الأمر الذي أعطى ويعطي مساحة كبيرة للتيارات الجهادية؛ فالقدرة التشغيلية للتنظيم أو أي من فروعه لا تحدث إلا عندما يكون هنالك حالة من “الراحة” في تشكيل هيكل تنظيمي، ما قد ينبئ بوقوع هجمات أخرى قادمة، وبالتالي إذا ما توفرت الظروف للتنظيم فإنه لن يتوانى عن مهاجمة أي دولة أخرى. 

إلى جانب ذلك، فقد نجح التنظيم منذ خسارته آخر معاقله في الباغوز شرق سوريا في آذار/مارس 2019 أي خلال خمس سنوات فقط بإظهار مؤشرات على إعادة هيكلته والتعافي بشكل كبير، في الوقت الذي كانت جميع التقارير الأمريكية والأممية تؤكد على تحول عمل التنظيم إلى (اللا مركزية) وأن له قدرة كبيرة على التكيف. وبالتالي، كانت أولويات التنظيم في الفترة السابقة الحفاظ على إعادة الهيكلة ومن ثم العودة، والعملية الأخيرة في روسيا أو غيرها تُظهر نوعًا من ذلك التعافي وقدرة عمل جهاز التنظيم الخارجي -تحديدًا- بالعمل وتفعيل الولايات؛ فولاية القوقاز على سبيل المثال التي تشكلت عام 2015 كانت تحتضر منذ عام 2018 وفي أضعف حالاتها، كذلك الأمر مع ولاية خراسان التي كانت تغيب عن المشهد لكنها منذ عام 2020 أُعيد تشكيلها لتصبح فاعلة والأكثر أهمية اليوم للتنظيم. في محصلة ذلك فإن العملية وما سبقها من عمليات في الآونة الأخيرة أدلت بمؤشرات تعافٍ في المركز (العراق وسوريا)، وتعافٍ في الأطراف خصوصًا في ولاية القوقاز وولاية خراسان التي تعد على المستوى الاستراتيجي الأكثر أهمية، رغم أن التنظيم يمتلك اليوم قوة كبيرة جدًّا في ولايات وسط وغرب افريقيا، والساحل الافريقي؛ فالتنظيم يسيطر اليوم على مساحات كبيرة في القارة، لكن تمركز التنظيم اليوم هو في ولاية خراسان حتى أنه ولأول مرة -على غرار القاعدة- يفكر بنقل القيادة إلى هناك.

انعكاسات عودة نشاط التنظيم على الشرق الأوسط

في ظل الانشغال الكبير بأحداث الحرب على غزة والضغط الذي تواجهه حركة حماس، فإن تنظيم داعش سيكون أحد أكثر الأطراف فرحًا إذا ما هُزمت الحركة وتم القضاء عليها؛ فخسارة الحركة “الوطنية” يكسب التنظيم -من وجهة نظره- مزيدًا من الشرعية ويثبت من خلالها صدقية سرديته التي يستقطب من خلالها. إلى جانب ذلك، فإن الأوضاع الحالية في المنطقة تشير إلى مزيد من الأزمات المتراكمة، الأمر الذي يستغله التنظيم ويعتاش عليه، عبر استثماره في التناقضات الجيوسياسية وحالة الفوضى المتصاعدة، كما يجري اليوم في الجغرافيا السورية التي تظهر عدم هزيمة التنظيم بالكامل بل ما يزال نشطًا في بعض المناطق نتيجة تعدد الأطراف المتصارعة وبقاء الأزمة عالقة.

خلاصة

يمكن فهم أسباب صعود التنظيم المتكرر من خلال الظروف الموضوعية التي أمام التنظيم وليست ظروفه الذاتية، فالتنظيم استطاع أن يثبت قدرته على استثمار الفوضى والصراعات الجيوسياسية، فإذا ما تم -على سبيل المثال- استثناء الأسباب الجذرية العميقة المتعلقة بأزمة الأنظمة الرسمية العربية، دائمًا ما يكون هنالك ظرف محلي أو إقليمي كالحرب على غزة، أو الانشغال الأمريكي بحماية إسرائيل وإثبات الوجود في بحر الصين الجنوبي ودعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، ينتج حالة من الفوضى التي تعد الحليف الأساسي لداعش، وفي ظل مستجدات الأوضاع التي يعيشها العالم والمنطقة تحديدًا من الواضح أن هذه الظروف تتكرر وتتهيأ لظهور التنظيم مرة أخرى، على الرغم من الحديث الذي كثيرًا ما يجري حول عودة الحالة الجهادية كل 10 سنوات بعد هزيمتها أو حالة الخمود، إلا أن التنظيم الذي خسر آخر معاقله عام 2019 يبدو أنه قادر على العودة اليوم قبل أن ينهي 10 سنوات من فترة غيابه، خاصة وأن تحوله إلى نهج اللا مركزية جعل نشاطه مرتبطًا بالقدرة التشغيلية لكل ولاية، وبالتالي يضع احتمالات عالية لنشاط كل ولاية يتواجد فيها.     

زر الذهاب إلى الأعلى