العراق في حسابات المعارضة التركيّة

تساؤلات تبحث عن إجابة

يأتي هذا المقال ضمن ملف شامل يقدمه معهد السياسة والمجتمع يتحدث عن الانتخابات التركية يتضمن سلسلة من المقالات وندوة موسعة تطرح تساؤلات تقودنا لفهم المشهد الانتخابي التركي ضمن أهم انتخابات تشهدها الساحة التركية كما يصفها الاعلام العالمي.

كل الأنظار متجهة صوب أنقرة، تترقب باهتمام وحذر شديدين، تنتظر هوية الرئيس القادم والتحالف الذي سيحصد على أغلبية برلمانية؛ فحزب العدالة والتنمية الذي سيطر على تركيا لأكثر من عقدين يخوض اليوم انتخابات هي الأصعب والأشرس في تاريخه ويواجه أعتى الخصوم مجتمعين في تحالف واحد وهو تحالف الأمة أو تحالف الطاولة السداسية الذي سوند مؤخرًا بطرفٍ سابع وهو القاعدة الجماهيرية لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، ما يعني أن حظوظ المعارضة تعززت وبات سيناريو فوزها مطروحًا وهو ما يضع تساؤلات حول مدى التحوّل الجذري أو الطفيف الذي قد تشهده العديد من المعادلات الحالية الداخلية والخارجية.

انتهجت تركيا مؤخرًا في سياستها الخارجية سياسة تصفير المشكلات مع جوارها الإقليمي، فاتجهت نحو إعادة تطبيع العلاقات والسعي نحو تطويرها وتحسينها مع العديد من دول المنطقة بعد سنوات كان عنوانها التصادم أو التوتر وضعت تركيا في حالة كانت أشبه بالعزلة الإقليمية رافقه ضغط دولي في العديد من الملفات. ولم يكن العراق بمعزل عن تلك الرغبة التركية بالانفتاح، فقد شهدت الزيارة الأخيرة لمحمد شياع السوداني رئيس الوزراء العراقي إلى أنقرة في مارس/آذار الماضي محاولات التركيز على الأرضية المشتركة التي تجمع البلدين، كمستوى التبادل التجاري الذي وصل عام 2022 إلى أكثر من 24 مليار دولار، والاتفاق على إطلاق مشروع “القناة الجافة” الذي يأخذ مسارًا بريًّا ممتدًا من ميناء الفاو أقصى جنوب العراق صعودًا إلى ميناء مرسين وصولًا إلى مضيق البسفور. لكن ما تزال العديد من الملفات المهمة عالقة بين البلدين تدفع باتجاه التوتر بشكل مستمر!

العراق بوصفه عمقًا استراتيجيًّا


مذ أن كان أحمد داوود أوغلو عرّابًا للسياسة الخارجية في حزب العدالة والتنمية، نظرت تركيا إلى العراق بوصفه عمقًا استراتيجيًّا واعتبرت أن غياب دور فاعل لتركيا خلق حالة من الفراغ بدأت تملأه أطراف أخرى، فعمدت إلى ممارسة العديد من الأدوار منذ عام 2005، بما يكفل لها وجودها وحضورها على الساحة العراقية من خلال إيجاد قنوات اتصال مفتوحة مع كافة الأطراف الداخلية (الحاكمة والمعارضة) والخارجية المتواجدة هناك، إلى جانب الشراكات الاقتصادية مع الحكومة المركزية أو حكومة إقليم كردستان أو الحضور العسكري.

لكن العلاقات العراقية – التركية دائمًا ما تأخذ مسارًا متعرّجًا، فتشهد انفتاحًا تارة و يشوبها التوتر الحاد تارةً أخرى. ولربما أن ذلك يعود لطبيعة الملفات الحساسة العالقة بين البلدين والتي تمس مصالح الأمن الوطني بشكل مباشر لكل منهما كالملف الأمني في شمال العراق وملف الحصص المائية الذي يشهد نزاعًا متواصلًا منذ عقود. وبالتأكيد فإن هذين الملفين كانا كفيلين بأن يجرفان معهما العديد من القضايا السياسية إلى زاوية الحلول المركبة والصعبة.

بقاء حزب العدالة والتنمية لعقدين من الزمن على قمة هرم السلطة جعل من الصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور فيما لو فازت المعارضة، فالأحزاب التركية الأخرى لم تخضع للتجربة والاختبار منذ بداية الألفية الجديدة، إلى جانب أن تحالف الأمة الذي ينافس تحالف الجمهور -بقيادة العدالة والتنمية- يضم أطيافًا “متناقضة” الاتجاهات السياسية فبدا التحالف وكأنه لا يمتلك رؤية واضحة إزاء العديد من الملفات، وهو ما يتضح جليًّا سواء في البرامج الانتخابية أو في ورقة السياسات المشتركة التي توافقت عليها الطاولة السداسية التي اختارت أن تركز بشكل أساسي على الشأن الداخلي، أما على الصعيد الخارجي اختارت التركيز على ضرورة إعادة تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.

ملفات عالقة معقدة، قد تضع المعارضة في اختبار صعب


في الحديث عن العلاقات العراقية – التركية تبرز إشكاليتان رئيسيتان؛ ملف المياه، وملف العمليات العسكرية شمال العراق، إلى جانب القضايا السياسة الأخرى التي تظهر بين الفينة والأخرى آخرها قضية إلزام تركيا بدفع تعويضات لحكومة بغداد بقيمة 1.7 مليار دولار لاستيرادها النفط من أربيل دون الحصول على موافقة وزارة النفط في الحكومة المركزية.

يشكو العراق بشكل مستمر الاعتداء على حصصه المائية من قبل الجانب التركي الذي يرفض التوقيع على اتفاقية تحدد التزاماته بالتدفق المائي، بالإضافة إلى البناء المستمر للسدود كسدّ أليسو -قيد الإنشاء- أكبر السدود المشيدة على نهر دجلة ومع وجود سد أتاتورك أكبر السدود المشيدة على نهر الفرات.

في زيارته إلى العراق عام 2013 بدعوة رسمية من الحكومة التي كان يقودها نوري المالكي، انتقد كمال كليجدار أوغلو سياسة حكومة بلاده، واستخدام أنقرة ملف المياه كورقة ضغط على بغداد، وتعهد بأنه سيعمل على حل هذه الإشكالية وفق الأطر القانونية والاتفاقيات الدولية حال تسنمه الرئاسة.

لكن، في المقابل فإن أزمة المياه مع العراق عابرة للحكومات ويبدو أن القضية تسير في حلقة مفرغة وليس من المتوقع أن تستطيع المعارضة، فيما لو ظفرت بالحكم، الوصول إلى معادلة جديدة، فالمعادلة الجديدة الأكثر توازنًا تتطلب مزيدًا من الالتزامات التركية إزاء السماح بالتدفق المائي تجاه العراق أو توقيع اتفاقية تلزمها بمنح العراق حصصه من المياه، يترافق مع ذلك أن تركيا سجلت مؤخرًا معدلات هي الأكثر انخفاضًا منذ عقود في هطول الأمطار. وهذا ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت المعارضة مستعدة فعلًا لإحداث أيّ تغيير إيجابي، أم أنها ستفضّل الإبقاء على الوضع القائم حفظًا للمصالح المائية التركية، وإن كانت على حساب العراق. إلى جانب كل ذلك، يُطرح تساؤل آخر إذا ما كانت المعارضة مستعدة للتفريط بورقة غاية في الأهمية تستطيع من خلالها الضغط على العراق بشكل مستمر في مختلف القضايا وليس فقط في مسألة المياه.

على المستوى العسكري، الملف الأكثر سخونة، تتكرر العمليات البرية والجوية التي يشنها الجيش التركي شمالَ العراق بالإضافة إلى انتشار القواعد العسكرية المتواجدة هناك في إطار حربه بشكل رئيسي على حزب العمال الكردستاني PKK.

تثير القواعد العسكرية حفيظة بغداد بشكل مستمر التي ترى فيها انتهاكًا لسيادتها لكن في المقابل تدرك العديد من الأطراف التركية والعراقيّة أن انسحاب تركيا من تلك المناطق سيخلق فراغًا أمنيًّا كبيرًا سيُملأ من قوى إقليمية منافسة لتركيا.

تنتقد المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري استراتيجية الدفاع المتقدم التي تتبعها تركيا شمال العراق ورأت فيها معدومة الجدوى في ظل استمرار تهديدات العمال الكردستاني، ودعت إلى اقتصار العمليات العسكرية داخل الحدود وعدم الزج بالجنود إلى ميادين القتال خارجها خدمةً لمصالح الحزب الحاكم الداخلية، ولربما هذه إحدى الأسباب الرئيسية التي دفعت بحزب الشعوب الديمقراطي المتهم من قبل العدالة والتنمية بقربه من PKK أن يضم كتلته التصويتية إلى تحالف الأمة، إلى جانب الصراع المحتدم الذي يخوضه الحزب مع الحزب الحاكم “العدالة والتنمية” منذ سنوات والذي أدى إلى زج قيادييه على رأسهم دميرتاش في السجن. وبالتالي تطرح هذه القضية علامات تعجب واستفهام حول جدية المعارضة بترك ذلك الفراغ أمام قوى منافسة لتركيا، ويطرح أيضًا تساؤلًا آخر حول مدى تقبل المؤسسة العسكرية لهكذا خطوة!

خلاصة


لا يمكن الجزم بأن لتحالف الأمة رؤية واضحة أو موحدة على الأقل تجاه قضايا المنطقة، منها الملف العراقي، وهو ما يضعه بحسابات معقدة في إدارة ملف السياسة الخارجية، وهذا ما يجعل من الصعب التوقع أو التكهن بما ستؤول إليه الأمور إذا ما فازت المعارضة. لكن بالنظر إلى طبيعة الملفات بين تركيا والعراق، لا يُتوقع أن تتغير كثيرًا السياسة المائية التركية تجاه العراق مادامت ملفًا يمس الأمن القومي بشكل مباشر وورقة سياسية رابحة. أما على مستوى العمليات العسكرية فإن أن أي خطوة سيكون لها تداعياتها وهي متعلقة بمدى رغبة المعارضة بتقليص نفوذها شمال العراق وتركها فراغًا يُملأ من قوى إقليمية منافسة. لكن فيما لو فازت المعارضة فهذا يتطلب قراءة عاجلة لتداعيات ذلك على العملية السياسية في العراق خاصة وأن لتركيا أطرافها داخل المنطقة الخضراء، خاصةً وأن تحالف الأمة يطرح نهجًا “مؤسساتيًّا” في إدارة السياسة الخارجية وليس “شخصيًّا” كما يفعل الرئيس الحالي -بحسب ادعائها-.

بلا شك، أن العراق سيتأثر كغيره من الدول بنتيجة هذه الانتخابات بغض الطرف عن هوية الفائز. لكن فيما لو فاز تحالف الأمة بقيادة كليجدار أوغلو فينبغي الأخذ بالاعتبار، أن البرنامج الانتخابي قد يصطدم بإكراهات وواقع السلطة خصوصًا وأن طبيعة الملفات العالقة بين أنقرة وبغداد معقدة عابرة للحكومات وبعضها عابر للحزبية.
وهذا يطرح تساؤلًا أيضًا على الهامش، إلى أي مدى ستساعد الولايات المتحدة والغرب، الذي تعول عليه المعارضة في العديد من الملفات، على إعادة ترتيب أوراق السياسة الخارجية التركية بشكل عام فيما لو فاز تحالف الأمة في هذه الانتخابات؟

زر الذهاب إلى الأعلى