الانسحاب الأميركي من أفغانستان

 قراءة في الأسباب والنتائج المحتملة

مقدمة

جاء انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان متزامنا مع الذكرى العشرين لهجمات أيلول (سبتمبر)، وبعد عقدين من تدخلها في أفغانستان وإسقاط نظام حكم حركة طالبان عام 2001، في أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة عبر تاريخها، وعلى المنوال ذاته، أعلن حلفاء الولايات المتحدة أيضا مغادرتهم أفغانستان، وكذلك القوات التي ينشرها حلف الناتو.
وقد جاء الانسحاب الأميركي من الأراضي الأفغانية غير مشروط، لأن الانسحاب المشروط يعني بقاء القوات الأميركية وحلفاءها إلى مدة غير معلومة، مع تحول الأمر إلى حروب استنزاف مكلفة، وغياب الهدف الواضح.
لكن الانسحاب لم يحدث كما كان مخططا له، بل كان فوضويا، إلى الحد الذي أربك السفارات الأجنبية في كابل، وهو ما أحدث أزمة في مطار كابل الدولي، وخلال تلك اللحظات تصرفت طالبان بضبط نفس وهدوء في كابل، الأمر الذي أثار أسئلة حول كيف ستتصرف حركة طالبان في المستقبل؟.
إن ما حدث من انسحاب الولايات المتحدة في أفغانستان ستترتب عليه أحداث أقليمية وعالمية كبرى، ومنطقة آسيا الوسطى على وجه الخصوص ستذهب باتجاهين؛ إما أن تكون منطقة تعاون، أو منطقة صراع وتنافس بين دول الجوار الإقليمي لأفغانستان والقوى الدولية كالهند والصين والولايات المتحدة وإيران وغيرها، وقد تتحول إلى ساحة لممارسة النفوذ.
ورغم أن ثمة من يرى أن هناك مصالح دولية وإقليمية مشتركة قد تدفع باتجاه تحقيق الاستقرار في أفغانستان، تبقى هناك أسئلة مثل كيف يتحقق ذلك؟، وما هي نوعية عملية التنسيق بين هذه الدول لإنجاز ذلك، وضمان عدم تحوُل أفغانستان إلى بؤرة للتنافس والصراع؟

أولا: أسباب الانسحاب الأميركي من أفغانستان والبدائل المتاحة

إن نظرة متعمقة في الانسحاب الأميركي، يظهر أنه انسحاب يعكس فشل التجربة الأميركية في أفغانستان وفشل التحالف الدولي هناك، وذلك لأنه رغم مرور 20عاما على وجودها العسكري والسياسي بأفغانستان، لم تتمكن من بناء دولة أو نظام أمني مستقر، سيما أن البلاد سقطت كاملة بيد طالبان والقوات الأميركية لم تكمل انسحابها منها.

1- أسباب الانسحاب الأميركي من أفغانستان
إن أكبر التغيرات والتحولات الدولية اليوم هو صعود العملاق الصيني، إذ تحولت من قوة اقتصادية ساكنة إلى قوة عالمية بطموحات عسكرية واقتصادية وسياسية عالمية، وقد تمددت الصين بثبات وهدوء وبخطوات محسوبة مدركة معادلة التوازن بين التمدد ومنع الصدام المباشر مع الولايات المتحدة، مستغلة انشغال الأميركيين في أفغانستان والعراق والمناوشات مع روسيا في حروب استنزاف تسببت في تراجع القوة الأميركية.
وتعد الآن الصين قوة اقتصادية ضخمة؛ تمسك بمفاتيح أساسية في الاقتصاد العالمي، وتحول ذلك إلى نفوذ سياسي وعسكري واقتصادي في مناطق النفوذ الأميركي التقليدية مثل بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي والهندي، والقارة الإفريقية ومناطق غرب آسيا ، حيث لاحظنا الاتفاق الإستراتيجي بين الصين وإيران الذي يفتح الطريق أمام الصين للوصول المباشر إلى منطقة الخليج وثرواته النفطية.
إن هذه التحولات هي التي تشرح الطريقة التي خرجت بها الولايات المتحدة على عجل، بدون ترتيبات للوضع الداخلي في أفغانستان وبدون توفير الحماية الكافية لحليفتها الحكومة الأفغانية، والتي سرعان ما انهارت.
ببساطة، هذا ما جعل الولايات المتحدة تعيد حساباتها بشكل أساسي، ومراجعة استراتيجيتها الدولية بشكل عام، والآسيوية بشكل خاص، ومنها:
أ‌. تراجع الأهمية النسبية لأفغانستان لصالح تنامي النفوذ الصيني.
ب‌. تضاؤل أهمية الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان؛ بسبب عدم وجود تهديدات مباشرة للمصالح الغربية.

2- البدائل الأميركية في حالة الانسحاب
تعول الولايات المتحدة على مجموعة من الخيارات التي قد تكون بديلا ملائما عن تواجدها المباشر في أفغانستان، للحد من الأضرار والمخاطر المترتبة على الانسحاب:

أ‌. الانتشار العسكري في دول الجوار الجغرافي الأفغاني، واستخدام التسهيلات العسكرية في هذه الدول للقيام بأية عمليات في أفغانستان، لكنه قد يواجه بعض التحديات، منها رفض بعض الدول مثل باكستان له.
ب‌. قد تلجأ الولايات المتحدة بشكل خاص إلى استخدام القوة ضد تنظيم داعش، خاصة إذا ما تحول التنظيم في نشاطه خارج أفغانستان ضد المصالح الغربية، وخاصة عبر الطائرات بدون طيار.
ت‌. تملك الولايات المتحدة بعض أدوات النفوذ، منها ما أقدمت عليه من تجميد أرصدة البنك المركزي والبالغة 9.6 مليار دولار، كذلك تجميد صندوق النقد صرف قرض قيمته 460 مليون دولار، ومما يعزز دور هذه الأداة هو وجود عشرات الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل في بلد أكثر من 50% من سكانه في عمر الشباب، وجزء كبير منهم تحت سن 25 سنة يؤكد أهمية الدور الأميركي.
ث‌. تشكل مسألة الاعتراف بالنسبة لطالبان مسألة حيوية، لأن الاعتراف يعني أيضا ضمنا رفع العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية على الكثير من قادة الحركة.

ثانيا: نتائج الانسحاب على مستوى أفغانستان

تواجه طالبان تحدٍ في غاية الأهمية؛ وهو كيفية التحول من مهارات التمرد إلى مهارات الحكم، إذا أرادت طالبان البقاء في الحكم، وتحافظ على تماسكها الداخلي وإدارة المشهد المعقد لأفغانستان، وهناك مؤشرات متناقضة، فمنها ما يعكس التغير مثل التعامل المرن مع فلول النظام السياسي المنهار، والدبلوماسية الإيجابية التي تتعامل بها مع القوى الخارجية. ومنها مؤشرات تعكس استمرار سياستها القديمة مثل موقفها من الديمقراطية، ونظرتها البسيطة للحكم الإسلامي والتفسير الضيق لأحكامه، وما يحسم حجم التغير هو التجربة خلال الفترة المقبلة حينما توضع الحركة على المحك، ويمكن الإشارة إلى النتائج الآتية:

أ‌. ستكون أفغانستان دولة يحكمها تنظيم يوصف بالتطرف وله هويته، إلا إذا كانت طالبان جادة في الحصول على بعض الاعتراف الدولي، أو على الأقل الإقليمي، لأن ذلك سيدفعها إلى تقديم تنازلات ومن ضمنها كبح جماح المقاتلين الآخرين.
ب‌. على المستوى الاقتصادي تنتظر أفغانستان أوضاعا اقتصادية صعبة ، وهذه من العوامل الضاغطة لكي تسعى طالبان للحصول على اعتراف المجتمع الدولي بها من أجل الحصول على المساعدات، ودعم المجتمع الدولي والإقليمي لشرعيتهم ودولتهم، ومن متطلبات ذلك أن تحافظ على الجهاز البيروقراطي الذي كان يعمل مع حكومة غني المنهارة، وقوات الأمن الداخلي أيضا.
ت‌. من المرجح استمرار حالة التعاون بين طالبان والقاعدة لأسباب تتعلق بالتقارب الآيدولوجي بينهم، رغم نص اتفاق الدوحة على فك الاشتباك بين طالبان والقاعدة.
ث‌. تقل أو تزداد احتمالات دخول أفغانستان في حرب أهلية عرقية (غير مستبعدة)، بسبب وجود العديد من الطوائف الشيعية في هرات ومزار الشريف والطاجيكية والتركمستانية في الحدود الشمالية، أو وجود الجماعات المتطرفة كتنظيم داعش (ولاية خراسان)، ويعتمد ذلك على كيفية تعامل طالبان مع الوضع الداخلي، سواء عبر الحفاظ على جوانب البيروقراطية الحالية أو تقديم تنازلات سياسية للقادة المحليين .
إن التركيبة المجتمعية لأفغانستان تشير إلى أنه مجتمع عرقي وقبلي معقد له مصالح متباينة ومختلفة، وهذا يتطلب للسيطرة عليه، على المدى الطويل، نفوذا كبيرا وقدرة عالية على استخدام القوة لضمان الردع للطوائف والمكونات المتنازعة، مع ضرورة تحويل الانتصار إلى استقرار، لا مجرد تغيير مؤقت في موازين القوى.
ج‌. أما تنظيم خراسان، فقد يدخل في صراع مع طالبان في أفغانستان لأنه يريد الحفاظ على “ولاية خراسان” لانطلاق للتنظيم في منطقة جنوب ووسط آسيا، وقد يندحر التنظيم على يد طالبان؛ بسبب اختلال موازين القوى الكبير لصالح طالبان، وهذا قد يدفعه إلى مغادرة أفغانستان، وهناك احتمالية سعي القوى الدولية والإقليمية مثل الصين، الولايات المتحدة، إيران، روسيا، الهند، وتركيا، لتوظيف هذه الأوراق في صراعاتها سواء مع طالبان أو فيما بينها.
ح‌. ربما تغيرت طالبان كثيرا على مدى العقدين الماضيين، فالمعرفة بالعلوم الشرعية لن تكون كافية في الحكم، وهو ما عاشته في تجربتها الأولى، ويبدو أن تعامل طالبان مع الحاضنة الاجتماعية قد تغير كثيرا، وربما تشهد وتتكشف التحولات الجذرية في سلوكها الداخلي بشكل أكبر مع مرور الوقت، كذلك العالم تغير أيضا، وإلا فإن البديل أمام طالبان هو تكرار التجربة السابقة في الحكم.

ثالثا: الآثار المترتبة على الانسحاب الأميركي بالنسبة لروسيا وإيران

كانت روسيا وإيران داعمتان قويتان لطالبان؛ سواء على المستوى المالي أو التسليحي في حربها ضد الولايات المتحدة ، واعترافا بالجميل تجاه الدولتين، فإنه من المستبعد الدخول في حروب بينهما، على الأقل في الأمد القصير أو الدخول في تحالف ضدهما.
يمثل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مصلحة لروسيا، فالأميركيون ابتعدوا عن الخاصرة الجنوبية لروسيا، رغم أن بقاء الأميركيين في أفغانستان يعني استمرار استنزافهم هناك، ويعني ذلك استمرار انشغال الولايات المتحدة عن مواجهة روسيا في أوكرانيا وشرق أوروبا، وهذا ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات مرة “نشكر الولايات المتحدة وقوات الناتو على أخذهم (تحملهم) عبء مكافحة الإرهاب في أفغانستان، ونتمنى أن يواصلوا ذلك إلى النهاية “، هذا من جهة، لكن من جهة أخرى، فإن سيطرة طالبان على أفغانستان سيظهر تحديات جديدة لروسيا، خصوصا مع إصرار بوتين على إخضاع دول آسيا الوسطى للنفوذ الروسي، والتي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق.
أما إيران، فترى برحيل الأميركيين فرصة لتخفيف الضغط عليها؛ سواء ما يتعلق بخاصرتها الشرقية أو بسياسة الاحتواء التي فرضتها الولايات المتحدة عليها في البر والبحر، على الرغم أن هناك تباينا كبيرا بين النظام الديني في إيران وفي أفغانستان.

وستفرض ضرورات الجغرافيا السياسية التعايش بينهما، على الأقل في المدى القصير، كذلك لأن لدى الطرفين مصلحة في الارتباط بعلاقة قوية مع الصين وباكستان، وهذا يغذي سياسة التعايش بينهما، ويجعل البيئة الإستراتيجية المحيطة بهما تدفع باتجاه التعايش الثنائي، ونود أن نشير للمحددات الآتية:

أ‌. إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان سيتيح المجال لقوى إقليمية تتطلع للعب دور أكبر، مثل الهند وباكستان والصين وروسيا التي لها مصالحها الاستراتيجية الخاصة، والتي تستطيع رعايتها وتحقيقها بشكل أفضل مع غياب الولايات المتحدة عن المشهد الأفغاني.
ب‌. هناك فرصة للتنسيق والتعاون الهندي-الإيراني في أفغانستان، وخاصة مع وجود مصالح إيرانية-هندية مشتركة في تطوير ميناء تشابهار الإيراني وربطه بأفغانستان عبر الطرق البرية وخطوط السكك الحديدية كوسيلة لوصول الهند إلى أفغانستان وآسيا الوسطى بدون المرور بالمسار الباكستاني، وهذا التنسيق قد يشمل روسيا لاحقا.

ولقد حققت إيران في أفغانستان نجاحا في العقد الأخير، حيث طورت تواجدها معتمدة على عدة أمور :
1. علاقاتها التاريخية بما كان يسمى تحالف الشمال، وعلى وجه الخصوص الطاجيك وقبائل الشيعة الهزارة وقيزلباش والفرسيوان والسيدز، وهناك علاقات مع قيادات المجتمع المحلي والقيادات الحزبية، وقد قدمت مساعدات للحكومة الأفغانية التي انهارت أمام طالبان بأكثر من 500 مليون دولار.
2. استخدمت إيران الأداة الثقافية بنجاح، حيث بنت المدارس والمراكز الثقافية، ومنها جامعة خاتم النبيين الإسلامية.

رابعا: الآثار المتوقعة للانسحاب الأميركي على الصين

بانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يتراجع الضغط على الصين، وينصرف الأميركيون عن حدود الصين البرية الغربية، وتصبح الصين أكثر استعدادا لمواجهة الولايات المتحدة في مجالها البحري، وعلى وجه الخصوص في بحر الصين الجنوبي.
وتقدم الصين إشارات على الرغبة بالتواصل مع طالبان، وفقا للمتحدث الرسمي باسم الخارجية الصينية تشاو لي جيان ، وعلى أكثر من صعيد فإن التواصل الصيني مستمر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي أهداف الصين؟.
وفقا لمعهد جنوب آسيا، التابع لمعهد الصين للعلاقات الدولية الحديثة، فإن تطورات الوضع في أفغانستان سيكون لها تأثير غير مباشر في آسيا الوسطى وباكستان والشرق الأوسط، مما يعني ضمنا أنها ستؤثر على استقرار حدود الصين وبناء الحزام والمنطقة والعالم، وعليه فإن مشاركة الصين حيوية في عملية إعادة إعمار أفغانستان لمسألة تتعلق بتثبيت الاستقرار في المنطقة ككل .
وتهدف الصين إلى التأثير في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن؛ بهدف تعزيز المصالحة والاستقرار في أفغانستان.

أولا: في المجال الاقتصادي
أ‌. تهدف الصين إلى جعل أفغانستان ممرا اقتصاديا مع باكستان، وهو ما يفيد أفغانستان منه في النهاية.
ب‌. تدرك طالبان أهمية وضرورة الاستثمارات الصينية في أفغانستان في البنية التحتية وفي إعادة الإعمار، وكذلك وجود الشركات الصينية، ونظرا لحاجة أفغانستان الملحة لهذه الاستثمارات، تعد هذه ورقة رابحة بيد الصين، وقد تشكل الاستثمارات الصينية جزءا من منافع متبادلة مع أفغانستان، لاسيما وأن أفغانستان جزء من مشروع الحزام أو المنطقة.
ت‌. تزايدت المصلحة الصينية في أفغانستان، والتي تمثلت في العمل على دمجها ضمن الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، وهذا سيؤدي إلى توسيع النفوذ الصيني في أفغانستان وفي إقليم جنوب آسيا، وكذلك تعزيز ارتباطها بباكستان، بعيدا عن النفوذ الهندي.
ث‌. إن سياسة ربط أفغانستان بـ “الحزام والطريق” تطورت في الفترة الأخيرة، حيث تم ربطها بخط سكك حديدية بين هيمان في شرق الصين وهيراتان في ولاية بالك الأفغانية، ومنذ عام 2016 وصلت القطارات الصينية هناك، وتم إتباع أفغانستان بطريق الحرير الرقمي من خلال ممر وخان وممر الصين باكستان للألياف البصرية أيضا.
ببساطة أكثر، قد تبدأ الصين فعليا بالتخطيط لجعل أفغانستان بثرواتها الطبيعية جزءا من امتدادها الاقتصادي غربا، وهذا الامتداد يتجلى في البنية التحتية الهائلة التي يتم تأسيسها حاليا في باكستان وسواحلها، وفي دول وسط آسيا بشكل عام أيضا.

ثانيا: المجال الأمني والسياسي
أ‌. تهدف الصين إلى تعزيز مكافحة الإرهاب، وعدم السماح باستخدام أراضي أفغانستان للقيام بأعمال تهدد الأمن الصيني، وخاصة منطقة شينغيانغ الإويغورية ذات الحكم الذاتي التي لديها حدود برية مباشرة مع أفغانستان، وتشترط الصين على طالبان عدم إيواء المسلحين الإيغور وحماية المصالح التجارية والبينية التحتية الصينية، ومحاربة العناصر المتشددة التي تنتشر على الحدود وفي مناطق وسط وجنوب آسيا؛ لضمان عدم عرقلة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ولذلك تدرك طالبان أهمية دور الصين، خاصة بعد سحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، وهي تعلن أنها لن تتدخل في قضية الإويغور .
ب‌. تضع الصين حدودا وخطوطا حمراء في علاقتها مع طالبان، وخاصة ما يتعلق بهواجسها تجاه منظمة تركستان الشرقية، وهنا يعد الأمن الصيني حجر الزاوية، إذ تخشى الصين تحديدا من منظمة تركستان الشرقية التي ترى الصين فيها منظمة تسعى لفصل شينغيانغ عن الصين، سيما أن هذه المنظمة نشأت وترعرعت في أفغانستان، وتتحسب الصين من إمكانية أن تكون أفغانستان ملاذا لهذه المنظمة مرة أخرى.
ت‌. وقد تعترف بكين بـ”طالبان” مخالفة بذلك رغبة القوى الغربية، كما سبق للصين الاعتراف بالقيادة العسكرية الجديدة في ميانمار، حيث قبلت فعليا الجيش كحكومة شرعية.
ث‌. إضعاف المساعي الهندية التي تهدف لتعميق نفوذها في أفغانستان على حساب باكستان ومصالحها.

خامسا: الآثار المترتبة على باكستان وتركيا

– بالنسبة لباكستان
رعت باكستان حركة طالبان منذ البدايات الأولى، وستبقى أفغانستان ضمن البوصلة الباكستانية في حركتها السياسية والاستراتيجية في المستقبل، حيث تشكل أفغانستان عمقا استراتيجيا لباكستان، وإسلام أباد حاليا لديها علاقات قوية مع طهران وأنقرة وبكين، وهذا يؤشر إلى أين ستتجه حركة طالبان في علاقاتها الخارجية.
أ‌. كانت باكستان قلقة من تنامي نفوذ منافستها الهند في أفغانستان منذ تدخل الولايات المتحدة، حيث تقاربت الحكومات الأفغانية، التي كانت تحت الرعاية الأميركية خلال العقدين الأخيرين، كثيرا من الهند، وانحازت بشكل واضح ضد باكستان لصالح غريمها التاريخي الهند، بهدف التقرب من الولايات المتحدة.
ب‌. ولذلك فإن باكستان ترى في الانسحاب الأميركي من أفغانستان تبديدا للقلق لديها، وقد سهلت باكستان اتفاق الولايات المتحدة وطالبان لعام 2020، ولولا الدعم الباكستاني لم يكن من السهل التوصل للاتفاق، وبالتالي علاقة باكستان القوية مع طالبان هي من دفعت الأخيرة للجلوس على طاولة المفاوضات، حيث لها نفوذ كبير على حركة طالبان، بل أكثر من ذلك، فسيطرة طالبان على الحكم مرة أخرى يخدم باكستان، ويعطيها الفرصة لترسيخ نفوذها الإقليمي في آسيا الوسطى، وتوثيق تحالفها الإستراتيجي مع الصين.
ت‌. إن سيطرة طالبان على أفغانستان قد ترتب تحديات على باكستان إذا ما اتجهت طالبان لدعم التنظيمات المتطرفة وتبني الفهم المتطرف للدين، وبالتالي فإن دعم باكستان للتنظيمات المتطرفة قد تشكل مخاطر على باكستان، خاصة إذا سُمح لتنظيمات إرهابية بالعمل من أفغانستان باتجاه باكستان، وإذا ما حدث هكذا تغير، فإن باكستان لديها خبرات تاريخية في التعامل مع هكذا ملف ومنها العلاقات العرقية أيضا مع أفغانستان، وربما تحويل هذا الخطر باتجاه الهند، وجعله فرصة لإضعاف الدور الهندي في المنطقة.
ث‌. قد تلعب باكستان دورا في التقارب بين حركة طالبان وكل من روسيا والصين وتركيا، وحتى مع إيران، وفعليا لقد طورت الصين وروسيا منهجا في التعامل مع طالبان في العقد الأخير.
ج‌. ستسعى باكستان لتعزيز التجارة مع أفغانستان، والقيام بالمشاريع التنموية في حالة حدوث اعتراف سواء بشكل أحادي الجانب أو جماعي.
ح‌. حتى لو لم يتم الاعتراف الدبلوماسي الرسمي من قبل باكستان، فإنها مضطرة هي والدول المجاورة لأفغانستان للتعامل مع طالبان، لأن تشابك الحدود وغياب الأمن سيدفع هذه الدول للتنسيق مع طالبان بوصفها الحركة التي تحكم سيطرتها على أفغانستان.

– بالنسبة لتركيا
رغم عدم وجود حدود مباشرة مع أفغانستان، فإن تركيا قد تشارك في ملء الفراغ في أفغانستان، وخاصة أنها في العقد الأخير أظهرت اهتماما في إحياء روابطها القومية والتاريخية مع شعوب وسط آسيا ذات الجذور التركية، من الأذريين، والأوزبك، والقرغيز، والكازاخ، وغيرها، ولدى تكريا توجها ثابتا في سياستها الخارجية، وهو توثيق العلاقات مع الشعوب الإسلامية، وتعد أفغانستان بمثابة بوابة لها للعبور إلى دول آسيا الوسطى، ويعزز ذلك أن علاقات تركيا مع باكستان تطورت في الفترة الأخيرة إلى ما يشبه التحالف، كذلك قد تضطلع تركيا بدور في إعادة الإعمار في أفغانستان.

سادسًا: التأثيرات المتوقعة على الحركات المتطرفة

منح انتصار طالبان زخما جديدا للحركات المتطرفة من جديد، خاصة مع الفراغ الأمني الكبير وحالة الفوضى التي تعيشها بعض الدول العربية، فانتصار حركة طالبان يعكس تمكنها من فرض سيطرتها وشروطها على القوى الإقليمية والدولية فيما يتعلق بانجاز أهدافها السياسية.

وهناك اتجاه بين المنظرين يرى أن إحكام طالبان السيطرة على أفغانستان، سيؤدي إلى إعادة هندسة خارطة التنظيمات المتطرفة؛ سواء القاعدة أو داعش، وحتى قادة الحركة أنفسهم المتأثرين بالفكر التقليدي لتنظيم القاعدة، ويمكن إبراز التوقعات الآتية:

أ‌. ستعيد هذه التنظيمات تنظيم سرديتها بأنها انتصرت على أقوى جيش في العالم، أي الولايات المتحدة، وأن الإيمان ينتصر على الكفر وفق سردية الحق والباطل، وأن الحق انتصر على الباطل بإمكانيات محدودة.
ب‌. الخطاب السابق سيعيد بناء امتدادات هذه الجماعات في العالم، وقد ينتقل إلى مرحلة دولة وهوية يسعى لنشرها لتجنيد المتعاطفين معه، وبخطاب انتصار الحق ورفع الظلم، وتطبيق شرع الإسلام وفق فهمها.
ت‌. تظهر المؤشرات أن الأوضاع في أفغانستان قد تكون تحدياً حقيقيا للدول المجاورة للأراضي الأفغانية ومنطقة آسيا الوسطى، كما أن للمنطقة العربية ارتباطها التاريخي بأفغانستان، فقد كان خروج الاتحاد السوفييتي من أفغانستان عام 1989، إيذانا بعودة ما عرف باسم ظاهرة الأفغان العرب إلى الدول العربية بعد قتالهم في أفغانستان الذي امتد لـ 10سنوات، وقد استخدموا العنف في تسعينيات القرن الماضي في بعض الدول العربية، وبالتالي ثمة مخاوف من تكرار المشهد.
ث‌. إن التعاون والتنسيق بين حركتي طالبان والقاعدة لم يتوقف بعد، لأن حركة طالبان لم تعلن انتهاء علاقتها بالقاعدة، حسب تقديرات وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون، التي تذهب تقديراتها إلى أن هناك ارتباطا مشتركا، فالقاعدة باركت انتصار طالبان، ودعت إلى اتخاذ حركة طالبان قدوة في الانتصار في 20 آذار 2020 .
ج‌. تتجسد المخاوف الأميركية من احتمالية تحول أفغانستان تحت حكم طالبان إلى ملاذ آمن للجماعات المتطرفة، وبالتالي شن الهجمات ضد الولايات المتحدة، ووفقا لتصريحات رئيس هيئة الأركان الأميركية مارك ميلي أمام الكونغرس فإن تشكيل جماعات متطرفة سيتسارع بشكل غير مسبوق مع إعلان طالبان الإفراج عن سجناء القاعدة وتنظيم داعش، وكان توقع قبل أن تسيطر طالبان على أفغانستان أن تبدأ الجماعات المتطرفة بعد 24 شهرا.
ح‌. هذه التطورات تجبر الدول العربية على مراقبة المعابر والمطارات للذاهبين والعائدين من دول قد تكون مفتوحة على أفغانستان، وسيحتاج هذا الخطر العابر للحدود إلى تعاون الدول العربية فيما بينها أيضا.

سابعًا: السيناريوهات أمام طالبان

إن المعطيات والمشاهد على الساحة الأفغانية اليوم، توصلنا لسيناريوهين يتعلقان بالتوجّه المستقبلي لسياسات طالبان في أفغانستان، وفي العلاقة مع الخارج، وهما:

• السيناريو الأول: التفاعل مع المجتمع الدولي من أجل الحصول على الاعتراف والمساعدات وإعادة بناء أفغانستان التي دمرتها الحروب، ويتضمن هذا السيناريو إقامة علاقات بين الولايات المتحدة وطالبان، وإعادة تغيير دورها سياسياً وعسكرياً وأمنياً من قبل الولايات المتحدة، ووفق هذا السيناريو من المتوقع أن تتبنى طالبان نظاما سياسيا مشابها لنظام الحكم الإيراني، ويعزز هذا السيناريو ما يأتي:
أ‌. أن هناك دولا تتواصل مع طالبان، منها بشكل خاص قطر وباكستان، لإقناعها بأن الفوائد من التعامل مع المجتمع الدولي أكثر بكثير من معاداته أو العزلة عنه، كذلك الأمم المتحدة وشركاء آخرين، بما يساعد في تحقيق الأمن والاستقرار والتطور للشعب الأفغاني.
ب‌. إن “طالبان” بحاجة لإضفاء الطابع الرسمي على سيطرتها على أفغانستان، وتسعى إلى شرعية محلية ودولية.
ت‌. إن المشاكل الداخلية في أفغانستان لا تحل بالقوة وإنما عبر تسوية سياسية شاملة لا تستبعد أحدا، وبهذا المعنى أفغانستان ليست لتنظيم محدد وليست لعرقية معينة، والأصل أن كل الأفغانيين لهم الحق في الانخراط بعملية سياسية شاملة تجمع الأفغان على مبدأ المشاركة وسيادة القانون والعدالة والمساواة.
ث‌. من المتوقع أن تختلف طالبان 2021 عن طالبان التسعينيات من القرن الماضي، بسبب عظم وحجم التجارب التي واجهتها، كذلك فإن قادتها تقدموا بالعمر، وأصبحت نظرتهم أكثر عمقا وشمولية للأفكار والمواقف السياسية.
من المتوقع أن يحدث تنسيقا بين باكستان وتركيا وقطر لإقناع أفغانسان بضرورة التعاون مع المجتمع الدولي لتغيير صورتها عالميا، وللحصول على الاعتراف والمساعدات والتنمية، وقد تكون هذه الدول وسيطا مع طالبان، وبشكل خاص فيما يتعلق بالولايات المتحدة والدول الغربية، ولنجاح ذلك، قد تروج هذه الدول لفكرة تغيير سلوك طالبان عن السابق إذا اتخذت الحركة مجموعة من السياسات تذهب بهذا الاتجاه، وهذا النموذج من السياسات نرى تطبيقه في المفاوضات التي رعتها قطر بين الولايات المتحدة وطالبان.

ربما الأهم، في إمكانية تحقق هذا السيناريو هو سيناريو تشكل قاعدة مصالح صينية تركية إيرانية أفغانية باكستانية، على النحو الآتي:
نظرا لأهمية إيران وأفغانستان وتركيا وباكستان على مسارات “الحزام والطريق” سواء مسرب أو ممر الصين باكستان أو ممر الصين غرب آسيا، الذي يربط الصين بالاتحاد الأوروبي من خلال وسط آسيا وإيران وتركيا، ويضاف على الممر الأخير مشروع خط سكك حديدية يربط بين الصين وإيران، مرورا بقيرغزستان وطاجكستان وأفغانستان، انطلاقا من مدينة كشغر شمالي غرب الصين وحتى مدينتي مشهد وطهران الإيرانيتين، وميزة هذا الخط أنه يربط أفغانستان بالميناء البحري الإيراني بندر عباس، تشابهار.
وإذا ما تحققت المصالح المشتركة بين الدول التي ذكرناها آنفا، فإنه من المتوقع أن يشمل هذا التعاون البنية التحتية والطاقة، وهذا سيدفع الصين وإيران وتركيا وباكستان إلى أن تتعاون في إيجاد بيئة مستقرة وآمنة في أفغانستان، ويعني ضمنا دفع التعاون مع طالبان قدما وبما يضمن تشكيل مؤسسات قوية ومستقرة تتقبل فكرة التعاون الإقليمي، وتنبذ التعاون مع التنظيمات المتطرفة التي تشكل خطرا على دول الجوار، وهناك أمران فيما يتعلق بهذا السيناريو:
أ‌. هناك صعوبة في إمكانية التحاق الهند بالصين أو باكستان لأسباب تتعلق بالنزاعات الحدودية بين الصين والهند، وعلى إقليم جامو وكشمير بين الهند وباكستان.
ب‌. إن حكومة طالبان بسبب حاجتها لأشكال الدعم المالي والاقتصادي والعسكري كافة، بالإضافة لإعداد القيادات والكوادر والاستشارات، وبالتالي ستضطر إلى التواصل مع هذا المحور، وخاصة مع توقف الدعم الأميركي والأوروبي، وسيعتمد الأمر في الاستجابة لطلبات حكومة طالبان أيضاً على طريقة إدارة الحكومة الأفغانية لعلاقاتها مع هذه الدول، وعلى السياسات التي تنتهجها.

• السيناريو الثاني: هذا سيناريو سيجعل أفغانستان هي القاعدة للانطلاق، وسيشكل تحالفا بين الحركة والقاعدة، وكذلك مكانا لتمركز الكثير من الجماعات المتطرفة؛ مثل داعش بعد انحسار وجودها في سوريا والعراق، وقد يكون الهدف الذي يجمع الجميع إحياء فكرة الدولة الإسلامية في أفغانستان، وسيكون نظام الحكم شبيه بنظام حكم طالبان الذي طبقته في تسعينيات القرن الماضي، حيث ستعتمد تفسيرا ضيقا للشريعة وستعارض الحداثة في كل صورها، وتمنع تعليم وعمل النساء.
ووفق هذا السيناريو، فإن انتشار الجماعات المتطرفة في أفغانستان سيكون في مناطق ذات حزام أمني ضعيف.
ومن المتوقع دخول المنطقة المحيطة بأفغانستان في دوامة العنف وتصديره للدول المجاورة؛ مثل الصين وروسيا وإيران، وللسيناريو هذا محاذيره وقيوده، إذ أنه قد ينهي حكم طالبان مرة أخرى، وأما العوامل التي تضعف حدوث هذا السيناريو فهو أن أفغانستان الآن أسوأ بكثير على المستويات الاقتصادية والتعليمية والصحية، حيث تعيش دمارا على مستوى البنية التحتية، نتيجة الحروب المستمرة منذ عقود، وبالتالي هي بلد منهك ويحتاج إلى وقت للتعافي.
وإذا ما سارت طالبان في هذا المسار، فإنها ستوظف الجماعات المتطرفة لخدمة أهدافها الاستراتيجية والعسكرية وفق خطة مرسومة، وإذا ما تم ذلك أيضا، فسنكون أمام مزيد من العنف والدمار، الذي قد يدفع قوى إقليمية ودولية لإعادة التدخل لضبط المشهد، خاصة عندما يصبح أمنها مهددا.

زر الذهاب إلى الأعلى