دلالات عودة طالبان وأزمة الإسلام السياسي

في ورشة نقاشية عقدها معهد السياسة والمجتمع خبراء وباحثون يعاينون دلالات عودة طالبان وأزمة الإسلام السياسي في العالم العربي


عمان-  ناقشت حلقة علمية مشكلة من خبراء وباحثين متخصصين في العلاقات الدولية والإرهاب والإسلام السياسي النتائج والتداعيات المحتملة لتزامن عودة حركة طالبان إلى الحكم، بعد عشرين عاماً من العمل العسكري في مواجهة النظام الافغاني والدعم الأميركي العسكري والسياسي في مقابل إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، قرار تجميد الحياة البرلمانية، ما أدى إلى إنهاء ( إلى الآن) تجربة حركة النهضة الإسلامية في تونس، ولاحقاً الفشل الذريع للإسلاميين في الانتخابات النيابية الأخيرة في المغرب، وحصولهم على 13 مقعد فقط، بعدما أمسكوا بالحكومة لمدة تقارب العشرة أعوام.

طرح الباحثون أسئلة رئيسية ومهمة: ما دلالة تلك الأحداث؟ وكيف تفهم السياقات المحيطة بها؟ ثم هل ثمة روابط فيما بينها؟ وما هي النتائج والتداعيات والدلالات التي يمكن أن تكون قد وصلت إلى الشارع العربي مما حدث؟..

اتفق الباحثون على أنّ هنالك أزمة بنيوية تمرّ بها حركات الإسلام السياسي في العالم العربي اليوم، بخاصة بعد عقد من الربيع العربي، ناجمة عن الفشل أو الإفشال في السلطة السياسية، وعدم نجاحهم في تحقيق إنجازات تذكر، سواء كان ذلك في التجربة المصرية، ثم التونسية والمغربية، التي كان ينظر لها إلى عهد قريب بوصفها نموذج على الإسلام السياسي البراغماتي الناجح في العالم العربي، مقارنة بفشل التجارب المشرقية.

الخبراء رأوا أنّ هنالك أسئلة حقيقية مطروحة على مصير الإسلام السياسي اليوم، بعدما وصلت بعض الحركات الإسلامية إلى مرحلة متقدمة من التخلي عن الشعارات التي قامت عليها خلال العقود السابقة، وتوغلت في العمل السياسي، ووصلت إلى الحكم، لكنها لم تستطع أن تقدّم شيئاً جديداً للجماهير، وتبدى المشهد أنّ ا لوعود التي كانت تؤمل فيها الشارع العربي بعيدة المنال، بل وجد كثيرون فيها نسخة مكررة عن الأحزاب السياسية الأخرى، والنخب التي وصلت إلى الحكم قبلهم، ووفقاً لهذه القراءة فإنّ هنالك أزمة بنيوية حقيقية تعيش فيها أحزاب الإسلام السياسي في العالم العربي؛ فلا هي قادرة على العودة إلى وراء إلى مرحلة الشعارات البرّاقة والخطاب الهوياتي البسيط السهل الذي يحشد الجماهير، ولا هي استطاعت أن تجترح حلولاً نوعية تقنع الجماهير أنّها تملك بالفعل مفاتيح التغيير.

ورأى الباحثون أنّ هذه الحركات والأحزاب الإسلامية، سواء فشلت لعجزها عن تقديم حلول واقعية في الحكم أو أفشلت بسبب التواطؤ المحلي أو الدولي ضدها، فإنّها اليوم عالقة ومرتبكة في التعامل مع اللحظة التاريخية الراهنة، وعلى الأغلب ستكون أمام خيارين؛ بعضها سيفضل العودة إلى الخطاب الهوياتي الإحيائي التقليدي، وبعضها الآخر سيضاعف من حجم الواقعية والبراغماتية ويمضي مسارات أكبر في الطريق، حتى لو فقد قاعدته الشعبية التي كسبها خلال المعارضة والمرحلة الشعاراتية الاحتجاجية السابقة.

مع ذلك فهنالك إجماع بين الباحثين على أنّ ما حدث في تونس والمغرب مفيد – في بعض الجوانب والزوايا- لتجارب التحول الديمقراطي العربية، لأنّهما يثبتان حجم التهويل والتخويف المبالغ فيه الذي مارسته الأنظمة العربية خلال العقود السابقة ضد “البعبع الإسلامي”، إذ ثبت أن الإسلاميين قد ينجحون في الوصول إلى كرسي السلطة عبر صندوق الانتخابات، لكنهم من الممكن جداً أن يخسروا السلطة أيضاً عن طريق الصندوق، وأنّ المخاوف المرتبطة بالقاعدة التي رفعها البعض “صوت واحد لمرة واحدة” في حل وصول الإسلاميين ليست دقيقة، في أغلب الحالات، وبالتالي فالخبر الجيّد في هذه التجارب العربية أنّ الإسلاميين الذين خسروا السلطة سيتحولون إلى أحزاب سياسية برامجية واقعية، وسيتخلون عن الهالة العقائدية الدينية السابقة التي وظفوها للتعبئة الشعبية، وسنجد أنّ المخاوف المتبادلة بين الإسلاميين والعلمانيين ستتبدد.

في مقابل هذه  الرؤية المتفائلة – نوعاً ما- برزت رؤية أخرى في نقاشات الباحثين تخشى من أن فشل الإسلام السياسي الديمقراطي سيؤدي إلى ما يشبه حالة الفراغ في “اليمين الديني” في الشارع، وهو الأمر الذي ستسعى الحركات الجهادية والمحافظة والأقل براغماتية على ملئه، ومحاولة تجنيد الشباب واستقطابهم نحو العمل الجهادي والقتال المسلّح بوصفه الخيار الوحيد الممكن لإنقاذ المجتمعات العربية من الأوضاع التي وصلت إليها، وبوصفه بديلاً عن خيار الإسلاميين الديمقراطيين، الذين فشلوا في الوصول إلى تحقيق جزء من مطالب وأهداف المجتمعات العربية والمسلمة.

عند هذه النقطة يتقاطع ما حققته حركة طالبان عسكرياً مع ما حصل مع الإسلاميين في المغرب وتونس، إذ قد تكون الخلاصة أو النتيجة التي يصل إليها الشباب الإسلاميون المتحمسون أنّ تقديم التنازلات البراغماتية والسياسية والتمسك بالخيارات الواقعية لم يؤد إلى نتائج جيدة، بل إلى خسارات فادحة لحقة بالحركات الإسلامية، لذلك فإنّ البديل الحقيقي هو ما حدث مع التجارب المسلّحة، سواء مع تنظيم داعش الذي تمكّن من السيطرة على مساحة واسعة من الأراضي خلال فترة زمنية قصيرة، أو حركة طالبان التي تمكنت من الصمود العسكري والإمساك بالسلطة بعد عقدين من المواجهة القاسية مع التحالف الدولي.

إنّ أفضل من يستثمر في أزمة الإسلام السياسي (الذي ينخرط في العمل الديمقراطي) هي الحركات الإسلامية الراديكالية، التي تحوّل خطابها إلى نقد الاتجاه البراغماتي ووصفه بالتهاون والتخاذل وتحريف الإسلام، وتخاطب – أي الحركات الجهادية- العواطف لدى قاعدة الشباب المتحمس والقاعدة الشعبية المحافظة، التي قد لا تكون راضية عن التنازلات التي قدّمها الإسلاميون في السلطة في محاولة للانسجام والتناغم مع الشروط والمتطلبات الديمقراطية.

مما يعزز هذا السيناريو أو تلك القناعات لدى نسبة كبيرة من الشباب الإسلاميين الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الهشّة في كثير من الدول العربية، بخاصة مع تداعيات كورونا، ومع ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وعجز الأنظمة السياسية عن ترسيخ الآليات والتقاليد الديمقراطية والمشروعات التنموية، مما يجعل حالة شريحة اجتماعية واسعة أقرب إلى الغضب والإحباط والسخط على الأوضاع الراهنة، وهي المشاعر التي تستثمر فيها أيضاً الحركات الراديكالية، بخطاب تبسيطي صارخ في تكفير الأنظمة القائمة والدعوة إلى تغييرات جذرية.

  تونس استنساخ التجربة المصرية أم تصحيح مسار؟!

عودة على ما جرى في تونس منذ الربيع العربي (2011)، فإنّ اتجاهات الباحثين اختلفت في توصيف وتعريف ما حدث؛ بين من يرى في قرارات الرئيس بن سعيد تصحيحاً للمسار الديمقراطي وإنقاذ للبلاد مما وصلت إليه، ويرفض إسقاط ما حدث في مصر على تلك التجربة، ومن يرى في ذلك انقلاباً على الثورة وخروجاً عن المسار التونسي الاستثنائي بعيداً عن السياقات العربية المتدهورة.

رأى بعض الباحثين أنّ القوى الديمقراطية المدنية لعبت دورا كبيرا في ادارة المشهد السياسي في تونس، وقامت بالتصدي لأي محاولات كادت أن تؤدي الى انفجارات دموية داخلية داخل البلاد، وما زالت هذه الأحزاب فاعلة وموجودة في المشهد التونسي رغم محدودية تأثيرها في المجال العام بالفترة الأخيرة.

كان هنالك دور مهم للقوى المدنية وعلى راسها اتحاد الشغل التونسي الذي اتخذ موقفا واضحا مما حدث (التشاركية او الديكتاوتورية) ما وضع الرئيس سعيّد في مأزق.

ورأى مشاركون أنّ الحكومات التي استلمت الحكم بعد بن علي لم تأت بنظام اجتماعي واقتصادي بديل، لتفتح الطريق امام التحولات مع وجود حوامل سياسة وشعبية متوفرة، فبالرغم من  وجود القوى المدنية الفاعلة إلا أنها لم تحمل مشروعا واضحا؟

بين المغرب وافغانستان: العسكرة والديمقراطية   

على مقربة من تونس، فإنّ تجربة الاسلام السياسي في المغرب متمثلة بحزب العدالة والتنمية المغربي لم تكن أفضل حالا، فقد خسر الحزب شعبيته وسقط في الانتخابات (التشريعية) الأخيرة سقوطا مدويا رغم مرور عشر سنوات على تصدره المشهد السياسي في المغرب، انهيار الشعبية وخسارة الانتخابات وفقا للخبراء يعود لأسباب متعددة: من من رأى أن الحزب افتقد إلى البرنامج الاقتصادي والاجتماعي في تحقيق العدالة والمساواة والبعض أشار إلى تقديم تنازلات كبيرة من قبل رئيس الوزراء المغربي (اسعد الدين العثماني) باستضافة الرموز الاسرائيلية وعقد اتفاقات التطبيع مع اسرائيل مقابل اعتراف أمييكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وتصريحات عديدة ضد دول الجوار الجزائر وتونس.

أما المشهد الافغاني فقد فرضت حركة طالبان الأمر الواقع وأثبتت وجودها، رغم سيطرتها المسبقة على أفغانستان في فترة (1996-2001) ما قبل أحداث سبتمبر (2001) وتكرسيها للحكم (القمعي) للحريات العامة وإقامة دولة حاضنة لتنظيم القاعدة المصنف إرهابيا ودخولها في حرب طاحنة مع القوات الأمريكية والدولية مدة عقدين من الزمن إلا أنها استعادت زخمها وقوتها وعادت مجددا الى الساحة بقوة مع تقديم الضمانات للولايات المتحدة والمجتمع الدولي بتحقيق الاستقرار داخليا وحماية المصالح الغربية في أفغانستان وعدم السماح لمهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها من الأراضي الافغانية، فقايضت الحركة الإمساك بالسلطة بمواقف سياسية خارجية مطمئنة.

الموقف الأميركي

لم تكن هناك ردود فعل واضحة من جهة الولايات المتحدة والغرب حول ما حدث مؤخرا في تونس، ولا يوجد هناك دفاع جدي عن القيم الديمقراطية التي تتغنّى بها الولايات المتحدة، رغم أنّ حزب النهضة في تونس اندمج في السياسات السلطوية ودخل في اللعبة السياسية الديمقراطية، في المقابل فإنّ الولايات المتحدة اعترفت بطالبان وسيطرتها على الأراضي الأفغانية رغم تصنيفها على قائمة الإرهاب ودخولها في حرب طويلة ضد الولايات المتحدة لمدة عقدين، تلك رسالة خطيرة قد تلتقطها العديد من الحركات وفحواها أنّ الديمقراطية لا معنى لها في السياسة الخارجية الأميركية، والانخراط في العملية السياسية سلميا لا فائدة منه با، بل على النقيض من ذلك فإنّ الحركات المسلحة (حتى لو صنفت إرهابية) ستنال اعتراف الولايات المتحدة والعالم اذا فرضت نفسها بقوة السلاح!

قراءة مستقبلية

خرج الباحثون بجملة من الاستنتاجات الفردية في نهاية الحلقة البحثية، يمكن إجمال أبرزها على النحو التالي:

1- من الواضح أنّ هنالك ارتفاعاً في منسوب وعي الناس والشباب خاصة ببرامج الأحزاب وما تطبقه على أرض الواقع، فأصبح الهم الرئيس لشريحة اجتماعية واسعة هو ما يمكن أن تقدمه الحكومات من خدمات وحلول عملية للمشكلات الكبيرة التي تعاني منها، فتراجع تأثير الأيديولوجيات والخطابات الرنانة الكبرى التي كانت بسهولة تحرك الجماهير وتكسب تأييد المتعاطفين في صناديق الانتخابات.

2- كشفت التطورات الأخيرة في تونس والمغرب، بل عززت القناعة بأنّ الدولة العميقة في العالم العربي تغولت على باقي السلطات، وأصبحت هي التي تمسك في تلابيب السلطة، حتى لو كان الإسلاميون أو غيرهم في الحكم، فهنالك بنى سلطوية أقوى وأعمق ومتجذرة.

3- لا يوجد بديل عن الخيار الديمقراطي، فالبناء الديمقراطي خيار استراتيجي، كذلك على الإسلاميين التوافق مع التيارات الاخرى من اجل التمكين المجتمعي في المراحل القادمة
عدم التعويل على الدور الأمريكي في المنطقة فأولويات الولايات المتحدة تتجه نحو التنافس الدولي مع الصين وروسيا .

4- بناء الدولة يجب أن يكون على اسس موضوعية بهدف ادماج التيارات السياسية المختلفة لتحقيق التنمية والحد من الاتجاه نحو العنف خاصة بين فئة الشباب.

المشاركون في الحلقة البحثية

رشا فتيان- المديرة التنفيذية لمعهد السياسة والمجتمع
عبلة أبو علبة : الأمين العام لحزب الشعب الدميقراطي الأردني- نائب سابق.
حسام الغرايبة: اعلامي أردني – مقدم برناج صوتك حر على راديو حسنى.
حسن أبو هنية: كاتب أردني خبير بالحركات الإسلامية.
حسين الرواشدة: كاتب سياسي أردني.
عبادة العلي : ناشط سياسي وطبيب في مستشفى الملك المؤسس عبدالله الجامعي.
د. زيد النوايسة: محلل سياسي اردني.
د. بدر ماضي: استاذ العلوم السياسية بالجامعة الألمانية الاردنية.
د. محمد ابورمان: باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية الجامعة الاردنية
د. خالد سليم: باحث دكتوراة في مجالات السياسة والوقاية، خبير في تقييم وتطوير المؤسسات.
أحمد القضاة : مدير الإعلام والاتصال في معهد السياسة والمجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى