رسالة الملك إلى مدير المخابرات..دلالات وأبعاد
السياق والتوقيت
أكّد الملك أكثر من مرّة أنّ الرسالة تأتي في سياق الدخول في المئوية الثانية للدولة الأردنية التي تشير مقابلات الملك ورسائله المختلفة ولقاءاته إلى أنّ العنوان الرئيس لها هو المراجعة والإصلاح والتطوير، وقد بدأت عملية المراجعة في دوائر القرار منذ أعوام لتحديد المسارات التي من الضروري أن يتم فيها تطوير وإصلاح، واستخراج الفجوات ونقاط الضعف والاستدراك على بعض السياسات التي كانت تتواءم مع مراحل تاريخية معينة، لكنّها لن تكون مجدية، بل ربما مضّرة، فيما لو نظرنا إلى الآفاق المستقبلية والتحولات الجذرية التي تحدث في العالم والمنطقة.
إنّ السياق الرئيس والجوهري للرسالة يدخل في الإرادة الملكية الحاسمة بدخول الدولة المئوية الجديدة وهي تملك مشروعاً واضحاً جلياً في الإصلاح والتطوير وتحديث بنية الدولة ومؤسساتها، لذلك كان توجيه الملك –قبل هذه الرسالة بأسابيع قليلة- للحكومة بضرورة مراجعة التشريعات الناظمة للعمل السياسي والمضي قدماً في الإصلاح الإداري.
من يقرأ توجهات الملك وتوجيهاته خلال الأعوام القليلة الماضية يلاحظ تركيزه الرئيس على إصلاح الجهاز الإداري في الدولة وتأهيل المؤسسات العامة، بخاصة المؤسسات العسكرية والأمنية لتكون متطورة ومحدّثة وجاهزة ثقافياً وفنياً ومهارياً للتعامل مع التحولات التي تحدث على صعيد التحديات، وقد سبقت هذه الرسالة عمليات مراجعة وتطوير في القوات المسلحة الأردنية والقوات الأمنية وإعادة هيكلة لها لتكون من حيث البنية (الهياكل والتشريعات والأنظمة) والوظيفة كما كانت تاريخياً حصناً منيعاً للأردن، ولديها إمكانيات التكيّف والتأقلم مع المتغيرات والتحولات والتحديات الجديدة.
جهاز المخابرات العامة: من التاريخ إلى المستقبل
الرسالة وجّهت إلى مدير دائرة المخابرات العامة بوصفه قائداً لمؤسسة وطنية قامت بأدوار تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية والقوة، وكانت حصناً منيعاً من حصون الوطن، وحمت الأمن الوطني داخلياً وخارجياً من أخطار كبيرة وتحديات عاصفة، كانت في بعض الأحيان ذات طابع وجودي.
كما أشار الملك في رسالته أن المخابرات قد حملت عبئاً كبيراً وأخذت أدواراً عديدة وواسعة خارج السياق الأمني الاحترافي، وذلك يعود لأكثر من سبب منها ما يرتبط بطبيعة الجغرافيا السياسية الأردنية التي ارتبطت بتحديات وتهديدات أمنية غير تقليدية، خلال العقود الماضية، ما فرض دوراً بنيوياً رئيسياً لجهاز المخابرات في حماية الأمن الوطني في أكثر من جانب، وقد مرّت فترات كانت فيها أجندات داخلية وخارجية لا تريد أن ترى هذا الكيان قائماً ولا مستقراً.
لم يختلف الأمر في عهد الملك عبدالله الثاني؛ فبعد قرابة عامين على استلامه مقاليد الحكم وقعت أحداث أيلول 2001، التي مثّلت عنواناً عريضاً من عناوين عولمة الإرهاب، ثم جاءت الحرب على العراق 2003، واستقبل الأردن خلال ذلك مئات الآلاف من الأشقاء العراقيين، كما وتعرض الأردن لهجمات إرهابية غير مسبوقة في عمّان في التاسع من تشرين الأول من عام 2005م، ودخلت المنطقة في مرحلة من الاضطراب والأزمات المتتالية، هذا كلّه بالإضافة إلى المعطى التاريخي المعروف وهو جوارنا للقضية الفلسطينية التي تمثل قضية رئيسية على مستوى العالم والمنطقة، وبؤرة الصراع العربي- الإسرائيلي التي شهدت انهيار العملية السلمية وتعمق الانشقاق الفلسطيني.
ثم جاءت الاحتجاجات العربية 2011 التي أدت إلى تغييرات كبرى في المنطقة وانهارت نظم ودخلت دول في حروب داخلية وأهلية، وعصفت الأزمات في المنطقة، من العراق إلى سوريا واليمن وليبيا، فضلاً عن ظهور تنظيم “داعش” المتطرف الذي شكل خلال ثلاثة أعوام كياناً خطيراً بالقرب من الحدود الأردنية، وقام أنصاره بعمليات إرهابية خطيرة على الأراضي الأردنية (أحداث الكرك، وإربد، ومخيم البقعة، والسلط، والحدود الأردنية – السورية)، بالإضافة إلى تدفق مئات الآلاف من الأشقاء السوريين إلى الأردن وإغلاق حدود الأردن مع سوريا والعراق للتجارة والنقل.
مثل هذه الظروف الإقليمية الاستثنائية الخطيرة التي شكّلت تحدياً وفي أحيان أخرى مصدراً مباشراً لتهديد الأمن الوطني كان على الأجهزة العسكرية، وجهاز المخابرات مسؤولية كبيرة في حماية الأمن الوطني والاستقرار الداخلي من الأخطار الخارجية والداخلية، التي لم تكن أمنية بحتة، بل أخذت أبعاداً متعددة ومتنوعة؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً ومجتمعياً.
لقد دخل جهاز المخابرات في مربعات الاستثمار ومكافحة الفساد لما يمتلكه من قدرات تفوق مؤسسات أخرى، لم تكن جاهزة ولا مهيأة تشريعياً ولا رقابياً لمواجهة التحديات الجديدة، ولارتباط مصادر الإرهاب والخطر في أحيان كثيرة، مثل غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وغيرها بجوانب أمنية ومعلوماتية واستخباراتية، ما جعل المهمة على عاتق الجهاز كبيرة واشتباكه مع ملفات معقدة وعديدة خلال الأعوام السابقة.
اليوم وفي منطوق الرسالة الملكية الواضح ثمة ضرورة لإعادة هيكلة الأدوار والمهمات وترسيم الحدود الفاصلة بين الجوانب الأمنية الاحترافية من جهة والأدوار الرئيسية للمؤسسات الأخرى من جهةٍ ثانية، لأنّ الحالة التي شهدت تمدد أدوار الجهاز هي استثنائية مرتبطة بضرورات وطنية وبمعايير الأمن الوطني، والأصل أن تقوم المؤسسات بعملها وأن تسدّ هي الثغرات في ضوء التوجيه الملكي المكرر للحكومات بالإصلاح الإداري والمؤسسي، وإذا كان هنالك عجز وضعف في دور أي مؤسسة فمن الضروري أن يتم إصلاحه ومراجعته وأن لا يتم تحميله للأجهزة الأمنية والعسكرية فتتحمل مسؤولية ضعف المؤسسات الأخرى، التي ستركن بدورها إلى أن الأجهزة الأخرى تقوم بالأدوار عنها!.
خلال الأعوام الماضية تم تطوير مؤسسات الاستثمار وتشجيعه وتحسين التشريعات والإجراءات المرتبطة به، وكذلك الحال على صعيد مكافحة الفساد وغسيل الأموال، فأنشئت هيئة النزاهة ومكافحة الفساد وتم تطوير القوانين المهمة في هذا الإطار، ووضع مدونات سلوك في داخل مؤسسات الدولة، وتطوير المنظومة القضائية للتعامل مع ذلك، ما يلغي أي مبرر أو عذر لهذه المؤسسات لعدم القيام بمهماتها المؤسسية المطلوبة.
فوق هذا وذاك ليس سرّاً أنّ قيام الأجهزة الأمنية بالمهمات الأخرى له نواح سلبية متعددة أيضاً، فالمستثمرون والاقتصاديون يفضلون التعامل مع مؤسسات مدنية وتسهيل عملية الاستثمار والتخفيف من الإجراءات والشروط المرتبطة به، واقتصار دور الأجهزة الأمنية على مكامن الخطر والتهديد، والحال كذلك بالنسبة للشأن السياسي والعلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وعمل المؤسسات الأخرى، فليس منطقياً ولا مقبولاً أن تقوم المخابرات العامة والأجهزة الأمنية بدور “الإطفائي” لمواجهة الحرائق والأزمات المترتبة على اختلال في المعادلات الأخرى، فمسؤولية الحكومة إدارة البلاد بصورة محترفة وأن تكون مسؤولة عن العلاقة مع مجلس النواب، والتعامل مع الملفات السياسية والاقتصادية المختلفة.
إلى ذلك، فإن على أبواب مئوية الدولة ثمة ضرورتين ملحتين؛ الأولى مرتبطة بالتحولات الكبرى في مصادر التهديد الأمني ودخول أنماط ومصادر خطيرة جديدة تقتضي تفرغ الأجهزة الأمنية لمهماتها الاحترافية وتطوير عملها في مجالات رئيسية كالتعامل مع تطور الإرهاب والتحدي السيبراني وتقديم المعلومات والتقاير الاستخباراتية المهنية والمحترفة والمتطورة في رصد التحديات والتهديدات والأخطار لصانع القرار، وهي مهمة عظيمة ذكر الملك أنّه كلّف مدير الجهاز الحالي، اللواء أحمد حسني، بها منذ توليه المسؤولية قبل عامين، وأنّه أنهى جزءاً جيداً منها، وهنالك خطوات أخرى ما تزال مطلوبة لتطوير عمل الجهاز ليكون على أعلى مستوى عالمي استخباراتي.
الثانية ترسيم الحدود الفاصلة بين الأمني والاقتصادي والسياسي ما يؤدي إلى تطوير عمل المؤسسات واستقلاليتها وقيامها بالمسؤوليات المطلوبة منها، فلا مجال بعد اليوم للتراخي والاختباء وراء الأعذار، وفقاً لمضمون الرسالة الملكية، المطلوب قيام كل مؤسسة وطنية بعملها، والحكومة مسؤولة بصورة كاملة عن عمل المؤسسات التابعة لها.
ما بعد الرسالة الملكية
من الضروري طرح سؤال رئيس وهو: لماذا جاءت الرسالة الملكية معلنة واضحة وصريحة، ولم تكن داخلية موجهة لمدير دائرة المخابرات العامة؟! الجواب أنّ الملك تعمّد ذلك لتكون رسالة عامة أمام الجميع وليس للمدير أو الجهاز وحده، فتفرغ الدائرة للمهمات الأمنية وإعادة ترسيم الحدود بين الأمني وغير الأمني، يضع المؤسسات الحكومية والأطراف الأخرى أمام مسؤولياتها، الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، التي عليها أن تبدأ منذ الآن بترتيب أمورها والاهتمام أكثر بجوانب التطوير والحوكمة، وملء الفراغ الذي سيحدث نتيجة لذلك.
بالضرورة يدخل الجانب السياسي في مضمون الرسالة ويتزامن مع توجيه الملك بمراجعة تشريعات الإصلاح السياسي، وتأكيده في الآونة الأخيرة على ضرورة إدماج الشباب في الحياة العامة، لكن ذلك يدفع بالقوى السياسية المختلفة إلى بناء مقاربة موازية لكيفية تطوير العمل السياسي والتأكيد على أن يكون ذلك في إطار المصالح الوطنية والأمن الوطني والقيم والهوية الوطنية، وألا يصدر هنا أو هناك خطاب أو تحرك يدفع إلى القلق على الاستقرار الداخلي والأمن الوطني، فعلنية الرسالة ووضوحها يتطلبان وضوحاً مقابلاً ورسالة نوايا من القوى السياسية، بخاصة المعارضة، بأنّ الكلَّ يسيرون في الاتجاه نفسه ويقرؤون من كتاب الوطن وهدفهم المضي في مسيرة الإصلاح وتطوير برنامج هادئ عقلانيّ منهجي قابل للقياس والمراجعة لتطوير الدولة والمؤسسات والمجتمع على أعتاب المئوية الجديدة للدولة.