مفاوضات مسقط: الدوافع والمسارات

على بُعد ساعات قليلة، تُعقد في العاصمة العمانية، مسقط، مفاوضات بين الولايات المتحدة بقيادة مبعوثها إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، وإيران التي يمثلها وزير خارجيتها عباس عراقجي، في فرصة قد تكون حاسمة لمستقبل العلاقة بين الجانبين ولمستقبل الخارطة السياسية للمنطقة ككل، في وقت يشهد فيه البلدان تباينات داخليّة، قد ترقى إلى انقسام، حول جدوى وإمكانية التفاوض بين كل من واشنطن وطهران.

يمكن القول إن أهمية هذه المفاوضات تكمن في رغبة الطرفين -كما يظهر أمريكيًّا حتى الآن- بتحقيق إنجاز واختراق دبلوماسي في ظرف حساس، لضرورات واعتبارات داخلية وخارجية، لكن تبقى الإشكالية الرئيسية التي تطغى على هذه المفاوضات هي انعدام الثقة بين الطرفين، وغياب طرف ضامن حقيقي يمنع العودة إلى المربع الأول في حال حصول أي اتفاق، وبالتالي فإن السؤال الأهم يتمحور حول إذا ما كان للجانبين إرادة سياسية حقيقية لإجراء حوارات ونقاشات جادة وفعالة؟

منذ ولايته الأولى، وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، سهام النقد الحادة لخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) التي وقعت عليها إدارة الرئيس الديمقراطي السابق، باراك أوباما، ورأى بأنها فشلت فشلًا ذريعًا في كبح جماح إيران وسياستها في المنطقة ودفعت في المحصلة إلى أن ترفع إيران من نسبة تخصيب اليورانيوم ومولت من خلالها الحرس الثوري ووكلائها، الأمر الذي دفعه إلى الانسحاب في مايو/أيار عام 2018، واستخدام سلسلة من العقوبات والإجراءات التي كانت كفيلة بإنهاك إيران من الداخل وتحديدًا على المستوى الاقتصادي.

وفي الوقت الذي قام فيه بالتوقيع على تنفيذ العقوبات القصوى على إيران في فبراير/شباط الماضي، فإنه عمد اليوم إلى الجمع بين سياسة العقوبات الاقتصادية والتهديدات العسكرية المتكررة بالمسار الدبلوماسي، ليضعها على طاولة المفاوضات في مسقط، وفق ما قد يُعتبر “دبلوماسيةً قسرية”.

يتمحور السؤال الأساسي اليوم، حول ما تسعى إليه واشنطن من هذه المفاوضات؛ إذ تشير العديد من التقارير إلى وجود انقسام داخل الإدارة الأمريكية في سياسة التعامل مع إيران، بين معسكر ويتكوف الذي يعد مناصرًا للخيار الدبلوماسي، والذي من المفترض أنه يتماشى مع رغبة ترمب الذي يسعى -وفقًا لتصريحاته- للوصول إلى اتفاق بدلًا من اللجوء إلى الحرب والذي يقضي بالوصول إلى فرض ضوابط أكثر صرامة من تلك التي وقعت عام 2015 تتعهد فيه إيران بعدم امتلاك سلاح نووي، بمعنى احتواء المشروع، وبين معسكر آخر يجد في الحل العسكري خيارًا مجديًا أكثر، مثل مايك والتز مستشار الأمن القومي، ووزير الخارجية ماركو روبيو، والذي يجد ضرورة في تفكيك البرنامج النووي بالكامل، وضرورة عدم الدخول في دوامة المفاوضات كما فعل الديمقراطيون.

لكن إجمالًا، فإن الطرف الأميركي يجد نفسه بأنه يميل إلى محادثات مباشرة من شأنها أن تمنع إيران من كسب مزيد من الوقت، ولأنه يرى أنها قد تكون الطريق الأسلم لإنجاز اتفاق سريع يستجيب للشروط  والضغوط الأمريكية.

إيرانيًّا، يجد عباس عراقجي، وزير الخارجية الذي يقود ملف التفاوض ويتمتع بخبرة سابقة وواسعة، نفسه أمام منعطف حرج، بعد ما حدد الرئيس الأمريكي النطاق الزمني للمفاوضات بشهرين، الأمر الذي تجده طهران غير واقعي، إلا أنها قد تكون مضطرة للتعاطي معه في ظل المأزق الاستراتيجي الذي تعيشه إيران اليوم، بعد خساراتها الفادحة في السنوات الأخيرة على مختلف الأصعدة داخليًّا وخارجيًّا.

لربما أكثر ما يخشاه النظام السياسي في إيران، هو الصورة الداخلية، وتحديدًا لدى الشارع الإيراني الساخط على أوضاعه الاقتصادية المريرة والذي يشهد نسبة تضخم مرتفعة وانهيار مستمر في العملة ومزيد من الضغوطات بفعل العقوبات، وبالتالي عدا أن سياسة الإصلاحيين لطالما كانت تميل إلى الحوار مع الغرب، إلا أن الإدارة الإيرانية تدرك حجم خطورة ما تستشعره على الأرض، مما يعني أن الحوار مع الولايات المتحدة قد يشكل فرصة للحديث عن رفع أو تخفيف للعقوبات الاقتصادية، عدا عن المخاوف المتعلقة بالضربة العسكرية في حال نفذت الولايات المتحدة وعودها وتهديداتها.

لكن ورغم شدة الأزمة التي تعيشها إيران، فليس من الضرورة بمكان الحديث عن تجاوب مع المطالب الأمريكية سواء الرامية إلى تفكيك المشروع النووي، أو المشروع الصاروخي، أو الدور الإقليمي، بل إن إيران قد تلجأ إلى الخيارات الأشد صعوبة بالنسبة لها مقابل عدم المس بخطوطها الحمراء، وبالتالي فإنها -وبحسب عدد من التقارير- قد تسعى إلى المضي نحو اتفاق مؤقت قبل مواصلة المفاوضات انطلاقًا من أن التوصل إلى اتفاق نووي معقد خلال شهرين أمر يكاد يستحيل تقنيًّا، ورغبةً إيرانية لشراء مزيد من الوقت لتجنب التصعيد. إلى جانب ذلك، فإن الجانب الإيراني يسعى إلى التعاطي مع فرصة التفاوض وإرسال رسائل إيجابية إلى الولايات المتحدة -مع التأكيد على رفض لغة التهديدات- من خلال إظهار إيران على أنها فرصة استثمارية من الممكن للشركات الأمريكية من منطلق أن ذلك قد يتناسب مع خلفية وعقلية ترمب الاقتصادية.

يمكن القول إن ما تسعى إليه إيران اليوم هو خوض مفاوضات تحقق إنجازات وإن كانت مرحلية تستطيع من خلالها إلغاء بعض العقوبات التي تحفزها اقتصاديًّا وتجنب أي تهديد عسكري أمريكي أو إسرائيلي خلال المرحلة المقبلة، من خلال إرسالها رسائل إلى الداخل والخارج بأنها منفتحة على الحوار، مع تأكيد رفضها لأي سيناريو يقضي بتكرار ما حدث في ليبيا في بدايات الألفية الجديدة، أو ما حدث في العراق في ثمانينيات القرن الماضي، واللذان أديا في النهاية إلى سقوط أنظمتهما.   

على صعيد السيناريوهات، فإن معادلتي النجاح والفشل متساويتان في ظل الشروط الأمريكية الصعبة التي تجد إيران في بعضها بمثابة تهديد وجودي لها والمسار الدبلوماسي الذي سلكه ترمب والذي بدا مصحوبًا بالتهديدات العسكرية، وفي ظل المخاوف الأمريكية من قدرة إيران على إنتاج أسلحة نووية مع التقديرات التي تشير إلى أنها تمتلك حوالي 274 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، ويمكنها إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المخصب بنسبة 90% في غضون أسبوعين فقط، وبالتالي قد لا يعدو دخول الطرفين في المفاوضات سوى رغبةً لتبرير نفاد المحاولات غير العسكرية أو مساعي الطرف الآخر لكسب مزيد من الوقت لاتخاذ الإجراءات اللازمة. إلا أن الوصول إلى صيغة اتفاق مؤقت توافق فيه إيران على تقليص أنشطة نووية معينة مقابل حوافز اقتصادية تعود منافعها للولايات المتحدة، هي فرصة حاضرة وفقًا لديناميكية يستطيع من خلالها الرئيس الأمريكي ترويجها داخليًّا، كما يرى الباحث علي هاشم، خاصة وأن ترمب كان قد برر التوقيع على انسحاب بلاده من الاتفاق النووي عام 2018 بالقول إن الولايات المتحدة لم تربح شيئًا منه، بينما جنت أوروبا المنافع الاقتصادية.

زر الذهاب إلى الأعلى