تصعيد غير مسبوق: قراءة في مشهد يوم “توحيد القدس”
لأول مرة يقوم المستوطنون باستباحة باب الناظر “المجلس”،[1] على شكل مجموعات كبيرة مع توشح بعضهم بأعلام دولة الاحتلال، الأمر الذي يُعد تطورًا على انتهاكات “الوضع القائم” الذي يُعمل به منذ أن شهد عام 2003 استئناف الاقتحامات، حيث يستخدم المستوطنون خلال اقتحامهم بابين فقط، وهما؛ باب المغاربة للدخول وباب السلسلة للخروج.
جرى ذلك في مسيرة الأعلام أو ما يسمى يوم “توحيد القدس”، الأسبوع الماضي، حيث تعد هذه المسيرة إحدى الفعاليات المركزية التي تنظمها الجماعات الاستيطانية واليهود المتدينين، وتحمل طابعًا استفزازيًا في القدس، إضافةً إلى ذلك عمد إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي وعدد من أعضاء الكنيست إلى اقتحام المسجد في هذا اليوم، ودعا المستوطنين لأداء الصلاة وممارسة طقوسهم، كما ألقى خطابًا أمام حشد من المستوطنين وأشار إلى أنه “يصلي من أجل النصر في حرب إسرائيل على حماس، وعودة جميع الأسرى المحتجزين في غزة، ونجاح رئيس الشاباك الجديد دافيد زيني”.[2]
نقاط مفتاحية:
- شهد يوم “توحيد القدس” ازدياد أعداد المقتحمين للمسجد الأقصى بشكل غير مسبوق حيث وصل العدد إلى 2092 مستوطن.
- في تصعيد متطور في سلوك انتهاك الوضع القائم، خرجت مجموعات المستوطنين من باب الناظر “المجلس”، إلى جانب أداء طقس صلاة “بركة الكهنة”.
- تجاوز المستوطنون عدد ساعات الاقتحامات، مما أدى إلى تأخر إغلاق باب المغاربة في وجه الاقتحامات وتأخر خروجهم أيضًا من باب السلسلة مما يشير إلى تكريس واقع التقسيم الزماني.
تصعيد غير مسبوق في الأقصى
يمثل “يوم توحيد القدس” فصلًا من فصول التهويد ومحاولة لإضفاء الطابع اليهودي للقدس، يترافق ذلك مع سلسلة من الانتهاكات التي تستهدف الطابع الإسلامي للقدس وخاصة المسجد الاقصى، وخلال هذا اليوم تُمارس طقوس احتفالية استفزازية داخل المسجد تشمل الرقص والغناء وترتكز في المنطقة الشرقية منه، وفي المسار الممتد من باب المغاربة مرورًا من باب القطانين حتى باب السلسلة على طول الجدار الغربي حيث تنتهي الجولات الاقتحامية عادةً، هذا إلى جانب التضييقات التي تمارس على الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى المسجد.
سجلت عملية الاقتحام هذه المرة أرقامًا غير مسبوقة على صعيد عدد المقتحمين حيث وصل عدد المقتحمين إلى 2092، في خطوة تعد الأخطر وتمثل استباحة للمسجد، وفي زيادة لافتة لم يشهدها المسجد الأقصى سابقًا، في حين وصلت أعداد المقتحمين سنة 2024 إلى 1601 بحسب ما سجلته وزارة الأوقاف الإسلامية،[3] وقيامهم بالعديد من الانتهاكات في باحات المسجد تمثلت في الرقص والغناء داخله، والانبطاح الجماعي “السجود الملحمي”، بالإضافة إلى رفع الأعلام الاسرائيلية بكثرة والتلويح بها، إلى جانب ارتداء ملابس تحمل صور الهيكل المزعوم.
لا ينفصل ذلك عن كون جماعات الهيكل السبب في زيادة عدد المقتحمين، حيث حشّدت وأطلقت دعواتها إلى اقتحام المسجد الاقصى بشكل واسع قبل وقت الحدث، إذ نشرت مدرسة جبل الهيكل دعوة عامة للمستوطنين لأداء الطقوس التوراتية العلنية داخل المسجد، وأطلقت منظمة “بيدينو” دعوتها إلى اقتحام المسجد.[4]
كما قام اتحاد منظمات الهيكل بنشر مقطع تحريضي يضم عددًا من الحاخامات الصهيونية وهم يدعون المستوطنين إلى اقتحام المسجد الأقصى بكثافة، وتظهر صراحةً تلك الدعوات عبر الحاخامات الذين ظهروا في المقطع، والذين يمثلون قادة أبرز المدارس الصهيونية الدينية مثل؛ “دوف ليئور حاخام كريات أربع” و “يعقوب حدان حاخام مدرسة هار عتصيون”.[1]
ولعلًّ ما يكون خطيرًا أيضًا، هو عدم الاكتفاء بخرق الوضع القائم والخروج من باب المجلس بل تجاوز ذلك إلى خرق عدد ساعات الاقتحامات حيث يغلق باب المغاربة على الساعة 3:00 عصرًا ولكن في يوم “توحيد القدس” تجاوز الوقت المسموح به للاقتحام، حيث تم العمل على التلاعب بالتوقيتات المعمول بها للدخول إلى المسجد وحاولت أيضًا أن تعمل على زيادة عدد ساعات الاقتحام خلال الأعياد تحت ذريعة تنظيم الزيارات الدينية وتسهيل وصول الزوار، ويؤدي ذلك بشكل متواصل وعلى امتداد الزمن إلى محاولة فرض واقع جديد بطريقة غير مباشرة، ومن خلال خطوات تدريجية تهدف إلى تغيير الوضع القائم للمكان وفرض سيطرة على التوقيتات بحجة التنظيم والإدارة.
تزامن ذلك مع القيام بمنع الفلسطينيين من الدخول إلى المسجد الاقصى خصوصًا في فترات الاقتحام بالإضافة الى عمليات القمع والاعتقال التي طالتهم في البلدة القديمة، إلى جانب الاعتداء على عدد من الحراس وإبعادهم عن باحات المسجد.[2]
في تطبيق الطقوس التوراتية داخل الأقصى ومحاولة شرعنتها
مثّل أداء طقس “بركة الكهنة” داخل المسجد الأقصى خلال ذلك اليوم سابقة،[3] حيث يعتبر هذا الطقس من أهم وأبرز الطقوس في الديانة اليهودية، وهو عبارة عن طقس توراتي يقام أمام الهيكل يحاكي كهنة “الهيكل” المزعوم، حيث يقوم الحاخام خلالها بمرافقة تلاميذه ويرفعون أيديهم ويبسطونها فوق رؤوسهم، مع تلاوة فقرات من “سفر العدد”، يعد هذا الطقس انتهاكًا ونقطة فارقة تمهد لتشريع مثل هذه الطقوس داخل المسجد، ومنح المستوطنين تفويضًا لتأدية طقوسهم داخل المسجد بشكل علني.
بالإضافة الى ذلك، تكررت محاولات إدخال أدوات توراتية إلى المسجد الأقصى حيث أدخل المقتحمون شال “الطاليت” وهو ما يرتديه اليهود أثناء أدائهم للصلاة، والتفلين أو اللفائف السوداء وهي عبارة عن لفائف توراتية تستخدم أثناء الصلاة وتتكون من صندوقين صغيرين باللون الاسود يربط أحدهم على الرأس والآخر على الذراع ويوضع داخل الصناديق السوداء نصوص توراتية.
إلى جانب العديد من الاعتداءات التي حدثت خارج المسجد، أجبرت الشرطة الإسرائيلية التجار على إغلاق محالهم التجارية لتأمين مسيرة المستوطنين واحتفالاتهم، وقام المستوطنون بالاعتداء على التجار وإلصاق عبارات وملصقات تحريضية على أبواب المحال التجارية، بالإضافة إلى العبارات التحريضية والعنصرية مثل “الموت للعرب”،[4] كما تسلح المستوطنون بالرشاشات والمسدسات وشاركوا في رقصة الأعلام تحت حماية الشرطة الإسرائيلية، حتى تحول باب العامود إلى ساحة احتفالية من غناء ورقص في ظل رفع الأعلام الاسرائيلية.
تفكيك تدريجي للوضع القائم عبر سياسة “التدرج البطيء”
يمكن القول إن ما جرى في يوم “توحيد القدس”، لا ينفصل عن كونه نمط تتبعه جماعات الهيكل والاحتلال الاسرائيلي بهدف تفكيك وتغيير الوضع القائم تدريجيًا ووضعه وفق رؤية دينية يهودية، عبر ما يمكن تسميته بسياسة “التدرج البطيء”، وهي عبارة عن سياسة ذات بعد استراتيجي تُستخدم لإحداث تغيير جذري في الوضع القائم لكن عبر خطوات صغيرة و تدريجية على المدى الطويل بحيث يتم تجنب إثارة ردود فعل عكسية قوية أو تقليل احتمالات المواجهة أو التصدي، ويُكسب الطرف المنفذ شرعية الأمر الواقع مع مرور الزمن، مما يخلق واقع جديد دون إعلان رسمي، ويستخدم أيضًا في أحداث مؤقتة مثل الأعياد والمناسبات كذرائع لاختبار خطوات التغيير.
برزت هذه السياسة بشكل واضح خلال السنوات الاخيرة في المسجد الأقصى وعبر عدد من الطرق، تتمثل في:
- التقسيم الزماني: بدأ ذلك مع تحديد ساعات اقتحام محددة للمستوطنين، ثم بدأت تمتد هذه الساعات تدريجيًا خاصة في الأعياد، والآن عقد الكنيست جلسة عن “حق اليهود في أوقات صلاة خاصة”، وهو ما يُشير إلى خلق واقع جديد يشرعن وجودًا زمانيًا دائمًا داخل الاقصى.
- التقسيم المكاني: اقتصر مسار الاقتحامات سابقًا على المنطقة الغربية من المسجد، حيث كان مسار الاقتحام بين باب المغاربة والسلسلة، غير أنه بدأ يمتد شرقًا عبر استخدام باب الناظر “المجلس” للخروج، هذا إلى جانب العمل على طرد وإخراج الفلسطينيين من المسجد بهدف تسهيل عملية الاقتحام أو إفراغ المجال أمام المقتحمين، والذي يُعد تطورًا خطيرًا في هذا السياق.
- التدرج في أداء الطقوس التوراتية: بدأت الاقتحامات مع وقوف المستوطنين بصمت، ثم بدأ التدرج عبر التهامس بالصلوات، ليتطور الأمر لاحقًا إلى أداء “السجود الملحمي” بشكل فردي قبل أن يُؤدى بشكل جماعي، وبلغ هذا الأمر ذروته مؤخرًا في إدخال رموز توراتية مثل الطاليت والتفلين واداء طقس بركة الكهنة علنا، كما جرى مؤخرًا.
كما برز خلال هذا العام شرعنة سياسية مؤسساتية تمثلت بدور المسؤولين السياسيين في ممارسات بعض الممارسات، إذ ظهر عضو الكنيست “تسفي سوكوت” خلال الاقتحام وهو يرفع العلم الإسرائيلي داخل الاقصى وظهر في مقطع مصور وهو يقول “كانوا يقولون سابقًا إن دخول يهودي وصلاة واحدة في المسجد الأقصى كفيلة بإشعال الشرق الأوسط، أما اليوم فآلاف اليهود يصلّون ويرقصون داخل المسجد، ورفعوا الأعلام هناك، ولم يحدث شيء”. [5]
يعد هذا التصريح، محاولة لفرض الرواية الصهيونية بأن الواقع الجديد بات مقبولًا وغير مكلف سياسيًا، بل ويستحق التوسّع، وما يؤكد خطورة هذه المشاركة أن الكنيست بدأ بعد يومين من الحدث في النظر “بالسماح بأداء الصلوات التوراتية وحرية العبادة داخل الأقصى”.[6]
الخاتمة
تظهر مجريات هذا اليوم حجم التصعيد الذي تمارسه جماعات الهيكل بالتنسيق مع الشرطة، من خلال تكثيف الاقتحامات وتوسيع مظاهر التهويد داخل المسجد الأقصى ومحيطه في إطار سياسة ممنهجة تستهدف تغيير الوضع الديني والتاريخي للمدينة، هذا إلى جانب تضييق واسع وممنهج على الفلسطينيين وفرض واقع قائم على الاعتداء والإبعاد، ما يعكس تحول يوم توحيد القدس إلى أداة تهويدية مركزية ضمن المشروع الاستيطاني في القدس.
[1] القدس البوصلة . فيديو:” مقطع دعائي يدعو الى اقتحام المسجد الاقصى في يوم توحيد القدس”. فيسبوك ريل، 26 مايو/أيار 2025. https://www.facebook.com/reel/3922882284693073.
[2] الجزيرة. “اقتحامات الأقصى في يوم توحيد القدس.” الجزيرة نت, 26 مايو/أيار 2025. https://www.aljazeera.net/politics/2025/5/26/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D8%B5%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3.
[3] القدس البوصلة. “صلاة بركة الكهنة بمشاركة بن غفير”. إنستغرام ريل، تاريخ النشر، 28 مايو/أيار 2025 https://www.instagram.com/reel/DKMRZMFMf2y/?utm_source=ig_web_copy_link.
[4]تايمز أوف إسرائيل بالعربية. “هتافات الموت للعرب ولتحترق قريتكم في الناصرة.” تايمز أوف إسرائيل بالعربية, 26 مايو/أيار 2025. https://ar.timesofisrael.com/%d9%87%d8%aa%d8%a7%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%aa-%d9%84%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8-%d9%88%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%aa%d8%b1%d9%82-%d9%82%d8%b1%d9%8a%d8%aa%d9%83%d9%85-%d9%81%d9%8a/.
[5] شبكة قدس الإخبارية. “قالوا بأن صلاة يهـودي واحد في الأقصى ستُشعل الشرق الأوسط.. واليوم نصلي هناك كل يوم، ولم يحدث شيء.” منصة X (تويتر)، 28 مايو/أيار 2025. https://x.com/qudsn/status/1927742508861137118.
[6] الجزيرة نت. “الكنيست يناقش تهويد الأقصى: القدس خط أحمر للفلسطينيين.” موقع الجزيرة الإخباري، 28 مايو/أيار 2025. https://www.aljazeera.net/news/2025/5/28/الكنيست–يناقش–تهويد–الأقصى–القدس.
[1] القدس البوصلة. اقتحامات المستوطنين لباب المجلس في يوم “توحيد القدس”. فيسبوك فيديو، 28 مايو/أيار 2025. https://www.facebook.com/share/p/16HbGgg16X/?mibextid=wwXIfr.
[2]Jerusalem Post. “Ben-Gvir bucks status-quo, announces prayer permitted on Temple Mount.” Jerusalem Post, May 28, 2025. https://www.jpost.com/breaking-news/article-855460.
[3] الجزيرة. “اقتحامات الأقصى في يوم توحيد القدس.” الجزيرة نت, 26 مايو/أيار 2025. https://www.aljazeera.net/politics/2025/5/26/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D8%B5%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3.
[4] Beyadenu – Returning to the Temple Mount. 28 may 2025,
أنظر https://www.facebook.com/share/p/1BxrbXqPAK/