“الدور الإقليمي الأردني” في المرحلة القادمة.. مقاربة أوليّة
![](https://i0.wp.com/politicsociety.org/wp-content/uploads/2025/02/%D9%83%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86%D9%8A.jpg?fit=1120%2C630&ssl=1)
نُشرت هذه المادة، في العدد الثاني من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع JPS.
يتزاوج مفهوم الدور الوطني أو الدور الإقليمي في تحليل السياسة الخارجية لأي دولة مع مفاهيم محورية أخرى ورئيسية، مثل مفهوم “المكانة” و”مصادر القوة”، والتوجهات العامة للسياسة الخارجية، ومفاهيم المصالح الوطنية والأمن القومي ومصادر التهديد والتحالفات والصراعات.. لذلك فمن الضروري أن يتأسس الاقتراب من تعريف مفهوم “الدور الإقليمي” للأردن على إطار تحليلي أوسع يأخذ العديد من العوامل والمتغيرات بعين الاعتبار من زاوية، والتحولات الدولية والإقليمية من زاويةٍ ثانية، وهي مهمة تتطلب أكثر من مقال بل من جهدٍ فردي، وتدفع بالفعل إلى وجود حلقات بحثية ونقاشية على صعيد الأكاديميين والخبراء تتجاوز السجالات الإعلامية والنقاشات الانطباعية إلى بناء إطار تحليلي واسع يساعد صانع القرار على وضع المتغيرات والعوامل المختلفة والتمييز بينها في مصفوفات واضحة محددة، تقوم على التمييز بين الأسباب والسياقات والأهداف ومصادر القوة والقدرات التي تمتلكها الدولة.
لا تزعم هذه المقالة إذاً تطوير أو بناء الإطار التحليلي المنشود، لكنّها مساهمة أولية في محاولة الاقتراب بصورة علمية وتحليلية من تعريف مفهوم الدور الإقليمي الأردني ومحدداته وتحولاته ومنعرجاته التاريخية وصولاً إلى تعريف الإمكانيات والمجالات والمساحات التي يمكن أن تكون مجالاً لهذا الدور خلال المرحلة القادمة، وتحديداً في العام 2025، الذي يمثّل مرحلة جديدة على صعيد “السياسات الإقليمية”، لما شهده العامان الأخيران من تغيرات جوهرية في المنطقة، سواء ما يتعلّق بالحرب على غزة، أو انهيار النظام السوري، وتغيّر الإدارة الأميركية وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مع فريق جديد يوصف بميول صهيونية – يمينية، ويحمل أجندة من الأهداف والسياسات التي قد تشكّل عاملاً من عوامل التغيير القادمة في النظام أو الحالة الإقليمية عموماً ومستقبلها.
نظرية الدور الإقليمي.. إطار التحليلي
يُعتبر كال هولستي Kal Holsti (1970) أحد أبرز منظّري مفهوم الدور الوطني أو الإقليمي في تحليل السياسة الخارجية، وقدّم في مقالة مشهورة له تصورات معمّقة للعوامل والمتغيرات التي تمثّل مصدراً لهذا الدور، والأسئلة المطروحة لتعريف هذا الدور، وما يهمنا هنا أنّه عرّف الدور الوطني بأنّه الأنماط المكررة من المواقف والسياسات والالتزامات التي تقوم بها الحكومة على صعيد السياسة الخارجية، وميّز ما بين إدراك أو تصور الدور من جهة وأداء الدور من جهةٍ أخرى، كما ميّز بين مسألتين في غاية الأهمية في فهم وتحليل الدور، الأولى ما يتعلّق بالتصورات والإدراكات التي يحملها صنّاع القرار لمكانة الدولة ودورها ومهماتها في السياسة الخارجية، ولمكانة وأدوار الدول الأخرى، والثانية التوقعات أو الوصفات التي تحملها القوى الأخرى تجاه الدولة ودورها وأهميتها ومكانتها في المسرح الإقليمي أو الدولي.
بالضرورة مثل هذه التصورات الذاتية لصانع القرار أو “الوصفات الخارجية” للفاعلين الآخرين لهذه الدولة، لا تقوم على فراغ أو بلا أساس قوي من تعريف مصادر قوة الدولة وقدراتها، المعروفة في العلاقات الدولية، مثل المصادر الطبيعية والتقنية ومساحة الدولة وموقعها الجغرافي وقدرتها العسكرية والاقتصادية وموقف القوى الاجتماعية والسياسية من السياسة الخارجية. ويمكن إجمال هذه المصفوفة من المتغيرات والعوامل المؤثرة في ترسيم وتأطير الدور الإقليمي للدولة وفقاً للمخطط التالي (الذي وضعه هولستي)
![](https://i0.wp.com/politicsociety.org/wp-content/uploads/2025/02/image.png?resize=621%2C630&ssl=1)
وميّز هولستي بين 8 أدوار رئيسية يمكن أن تقوم بها الدولة على الصعيد الخارجي؛ بينما ميّزت ورقة سوفيان سيكري Sofiane Sekhri (2009) بين 13 نمط من أنماط الأدوار الخارجية للدولة، منها (داعم للحرية، قائد إقليمي، فاعل مستقل، محارب للإمبريالة، وسيط، مدافع عن الإيمان، نموذج، صانع السلام، رجل أمن، حليف وفي، محارب للإرهاب،.. )، وبالطبع فإنّ هنالك متغيرات تساهم أكثر من متغيرات أخرى في تعريف “مكانة الدولة”، وبالتالي وزنها ودورها الخارجي أو الإقليمي، ولعلّ أحد أبرز العوامل، التي يمكن أن تكون مهمة في تعريف الدور الإقليمي في الحالة الأردنية، حجم الدولة (كبيرة أم صغيرة)، جوار الدولة (مستقر – مضطرب، صديق – عدو، صراع – تعاون).
تأسيسًا على ما سبق، يمكن هنا إدراج جملة من الأسئلة المفتاحية التي تساعد على تأطير وتحليل تحولات الدور الخارجي – الإقليمي للأردن، خلال العقود الماضية، وفي ترسيم معالم المرحلة القادمة:
- ما هي تصوّرات صانع القرار في الأردن (منذ الملك عبدالله الأول إلى الملك عبدالله الثاني) لمكانة الأردن الاستراتيجية ومعالم الدور الخارجي المطلوب؟ هل هو دور قائد إقليمي أم حليف دولي – إقليمي أم دور وسيط أم دور محايد وهل هو دور توسّعي أم دور دفاعي؟ هل هو القوة العسكرية هي الأساس أم الديبلوماسية.. الخ؟
- كيف أثّرت السياقات الدولية والإقليمية على تغير الدور الإقليمي الأردني Role Shifting من منظور صانع القرار السياسي؟
- ما هي مصادر الدور الإقليمي الأردني؛ القوة الاقتصادية أم العسكرية، الموقع الجيو استراتيجي، التقاليد السياسية، الرأي العام الداخلي، التحالفات الدولية أو الإقليمية؟
- ما هي الأولويات التي هيمنت على السياسة الخارجية الأردنية خلال العقود الماضية؟
الدور الإقليمي الأردني في مرحلة الحرب الباردة
بالعودة قليلاً إلى وراء خلال مرحلة الحرب الباردة وحكم الملك الحسين بن طلال؛ فقد كان الدور الأردني في مرحلة الحرب الباردة مؤطراً من خلال سياسات واضحة؛ التحالف مع العالم الغربي والولايات المتحدة عالميًّا، في مواجهة القطب الشيوعي، وهو ما انعكس من خلال محاولة الدخول الفاشلة (في حلف بغداد 1955)، وانهيار حكومة حزبية وحيدة في تاريخ المملكة 1956-1957 (جزئياً بسبب الخلافات بين تصورات الملك الحسين ورئيس الحكومة حينها حول التحالفات الدولية والإقليمية).
أمّا على الصعيد الإقليمي فإنّ الدور الأردني كان أكثر تعقيداً، ويمكن هنا استنطاق أربعة أبعاد رئيسية له؛ الأول يتمثّل بالتموضع ضمن ما يسمّى بـ”دول الطوق” في الصراع العسكري والاستراتيجي مع إسرائيل والدخول في صراعات عسكرية معها (مثال حرب الـ67 التي خسر فيها الأردن جزءاً رئيساً من المملكة)، والثاني عضوية (غير رسمية) في نادي “الممالك المحافظة العربية” من جهةٍ ثانية، ضمن عملية استقطاب إقليمي، انتقلت في بعض أجزائها الخطيرة إلى السياسات الداخلية، وأدّت إلى حالات من عدم الاستقرار السياسي ومحاولات تغيير النظام في العديد من الأحيان (مثال على ذلك محاولة الانقلاب العسكري في العام 1957، والأبعاد الإقليمية لأحداث سبتمبر/أيلول في العام 1970)، والبعد الثالث هو التنافس مع الفصائل الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، على تمثيل الضفة الغربية، وهي مسألة داخلية – إقليمية في الوقت نفسه، نظرًا لطبيعة التركيبة الديمغرافية الأردنية، والبُعد الرابع يتمثّل في مفهوم “الدولة الساعية للسلام”، وهو دور تزاوجت فيه الديبلوماسية السرية والعلنية، خلال الحقب السابقة، ويعكس إدراكاً مغايراً لصانع القرار الأردني (الملك عبدالله الأول والملك الحسين بن طلال) للقوى العربية والعديد من القوى المحلية خلال تلك الفترة الطويلة.
في نظرية “الدور الإقليمي” يؤكّد العديد من منظّرين السياسة الخارجية، وفي مقدمتهم كاي هولستي K.j. Holsty على أنّه قد لا يكون هنالك دور واحد للدولة في النظام الدولي، بل يمكن أن تقوم بأدوار متعددة، وهو أمر ينطبق بوضوح على “النموذج الأردني” الذي تغيّرت الأدوار الإقليمية السابقة بحسب المرحلة السياسية وطبيعة اللحظة التي تفاعل معها الأردن، لكن يمكن أن نلاحظ تحولاً أكبر منذ العام 1978، أي توقيع مصر لمعاهد السلام مع إسرائيل، وتشكّل نظام شرق أوسطي جديد، كما يرى مارتن أنديك (في كتابه المهم سيد اللعبة: هنري كسنجر وفن الديبلوماسية في الشرق الأوسط)، إذ لم تعد فكرة الحرب مع إسرائيل قائمة، كما كانت الحال سابقاً، وتغيّرت اتجاهات الدول الإقليمية المحيطة، وتبدّلت تحالفات الأردن بصورة ملحوظة، ليصبح “العراق- نظام صدام حسين” خلال عقد الثمانينيات حليفاً رئيسياً، ودخل الأردن في تحالف إقليمي جديد مؤقت ومحدود، في العام 1988، مع كل من العراق ومصر (التي كانت قد عادت للتو من تجميد العلاقات العربية معها) واليمن، لكن الرياح الإقليمية ما لبثت أن تغيّرت ودفع الأردن ثمناً كبيراً لموقفه في حرب الخليج الأولى 1990-1991، وعاد للانخراط في جهود السلام للوصول إلى توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في العام 1994، بعد أن وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو، وبعد أن وقّع الملك الحسين على قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية في العام 1988، وهو القرار الذي كان يعني رسمياً تخلّي الأردن عن الضفة الغربية كجزء من مملكته (منذ قرار الوحدة في العام 1950).
يفترض كاتب هذه السطور أنّ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل بمثابة تحول كبير في تصوّر الأردن لدوره الإقليمي Role- Shifting، تزاوج في حقبة التسعينيات مع انتهاء القطبية الثنائية على المستوى العالمي، وخروج العراق من حيّز القوى الإقليمية المنافسة، بالتزاوج مع تغير كبير في علاقة الأردن مع العراق، وانتهاء ضمني لمفهوم “دول الطوق” ولمفهوم “العمق الاستراتيجي” وهي المفاهيم التي شكّلت خلال حقبة الصراع العربي – الإسرائيلي مصادر مهمة في فهم الدور الإقليمي الأردني، وانعكس ذلك على الاقتصاد الوطني ومكانة الأردن الاستراتيجية في المنطقة، سواء على صعيد العلاقة مع القوى العظمى والصراع العالمي، بوصفه -أي الأردن- عضواً في العالم الغربي، أم على صعيد الدعم المالي الكبير الذي كان يتلقاه الأردن من العراق ودول الخليج لسبب مزدوج، الأول موقع الأردن الجغرافي في الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى التخوم الشمالية لدول الخليج العربي والثاني بوصفه “نظاماً صديقاً” للخليج العربي ومصدراً من مصادر العمالة المدرّبة والاستقرار الإقليمي من منظور تلك الدول.
تحولات الدور في المملكة الرابعة
إذا تجاوزنا تلك المرحلة إلى عهد الملك عبدالله الثاني مع بداية الألفية الجديدة، فهنالك مفاهيم رئيسية، كما يرى كاتب هذه السطور، ساهمت في صوغ تصوّر صانع القرار الأردني لمفهوم الدور الوطني، إقليمياً ودولياً، ويمكن الإشارة هنا إلى مفاهيم رئيسية؛
المفهوم الأول يتمثّل بـ”الأردن أولاً” الذي أطلقه الملك الشاب الجديد، والذي أفصح عن رؤيته التي تمثّل قطيعة مع إرث والده وجده في التفكير بتوسيع جغرافية المملكة (الملك عبدالله الأول كان يفكّر قبيل اغتياله بالوحدة مع سورية، والملك الحسين دخل في اتحاد مع العراق 1958، وبقي متمسكاً لفترة طويلة بالضفة الغربية بالرغم من الأزمات الداخلية والإقليمية العديدة التي ارتبطت بهذه العلاقة) كامتداد لإرث الهاشميين وأحلامهم منذ الثورة العربية الكبرى، وعلى النقيض من ذلك كان خطاب الملك واضحاً بالتركيز على الملفات الداخلية والاقتصادية، وعلى إعادة تعريف المصالح الاستراتيجية الأردنية في الموقف من إقامة دولة فلسطينية بوصفها مصلحة استراتيجية أردنية، والخطر هو في عدم إقامتها، على النقيض من تصوّرات والده لذلك، ويمكن القول بأنّ فك الارتباط مع الضفة الغربية كان بالنسبة للملك الحسين بمثابة تجرّع دواء مرّ لا يرغب به، ولا يعكس قناعاته وتصوراته، بينما لدى الملك عبدالله الثاني مثّل هذا القرار قناعة استراتيجية وذهنية راسخة.
المفهوم الثاني يتمثّل بـ”مكافحة الإرهاب”؛ إذ تزامن تولي الملك للعرش مع بروز التنظيمات الجهادية على الساحة الدولية والإقليمية، وحتى الداخلية الأردنية، مما انعكس على انخراط الأردن بدور حيوي وفاعل في جهود دولية وإقليمية لمكافحة الإرهب، وأعاد الأردن تعريف دوره بوصفه دولة “محاربة للإرهاب”، وأصبحت هذه المهمة لصيقة (حتى اليوم) بالدور الأردني، سواء على صعيد تصدير الخبرة الأمنية الأردنية أو تمتين العلاقة مع القوى الغربية في الحرب العالمية على القاعدة وداعش لاحقاً، أو حتى تمثّل دور “النموذج الإسلامي المعتدل” عالمياً، وقد تجلّى ذلك من خلال التركيز على دور الأردن –كنموذج- في التعايش والحوار الديني، وانبثقت عن هذه التصورات والإدراكات لدى صانع القرار العديد من التوجهات السياسية الداخلية والخارجية (ومثّلت رسالة عمان 2004 تكريساً لهذه المهمة بوصفها معلماً رئيسياً من معالم الدور الوطني الأردني).
المفهوم الثالث “وسيط السلام”؛ إذ تعزّزت علاقة الأردن بالولايات المتحدة الأميركية وبالاتحاد الأوروبي وبالعديد من الدول الغربية، وأصبح ينظر إلى دوره بوصفه جسراً بين العالم العربي والإسلام والغرب، ويمتلك علاقات جيدة بالأطراف المختلفة، وأصبحت التسوية السلمية عاموداً رئيسياً من أعمدة الديبلوماسية الأردنية، وتموضع الأردن في مربع صنع السلام والتسوية والاستقرار الإقليمي، والدفع نحو التسوية السلمية، ومواجهة السياسات الإسرائيلية والراديكالية في المنطقة، على السواء، التي تسعى إلى تحطيم آمال السلام، وبوصف الأردن حليف موثوق في الغرب بدأ ينظر إلى دوره بوصفه قادراً على مواجهة الرواية الإسرائيلية والترويج لسلام عربي – إسرائيلي استناداً إلى مبادرة السلام العربية (التي أطلقتها السعودية في العام 2002، وكان للأردن مساهمة بارزة في صياغتها وتصديرها).
انعكست هذه المفاهيم على التحالفات الإقليمية أيضاً، فقد أصبح الأردن منذ العام 2006 جزءاً من التحالف العربي المعتدل (وهو تحالف غير رسمي ولكنه عملياً قائم على التنسيق بين الدول العربية المعتدلة: الأردن ومصر والسعودية والإمارات والبحرين)، في مواجهة ما بات يعرف بحلف الممانعة أو المقاومة الذي تقوده إيران (وكان يضمّ طهران ودمشق وحزب الله والقوى الشيعية في المنطقة وحركة حماس في الضفة الغربية)، وشكّل هذا التحالف مصدراً مهماً من مصادر فهم الدور الإقليمي الأردن بوصفه داعماً وصديقاً لدول عربية ومتحالف معها في مواجهة دول إقليمية أخرى، ويلتقي على الصعيد العالمي مع السياسات الغربية، عموماً، في المنطقة.
منذ مرحلة الربيع العربي 2011 أصبحت علاقة الأردن بهذا التحالف أكثر رسوخاً، لكن في مواجهة تحالف جديد آخر ظهر على الساحة الإقليمية، ويتمثّل بالمحور التركي – القطري الداعم لحركات الإسلام السياسي، التي تمثّل لإدراك “دوائر القرار” في عمان مصدراً للتحديات الداخلية والخارجية على السواء، ويمثّل هذا التحالف الإقليمي معلماً رئيسياً من معالم الدور الإقليمي الأردني حتى العام 2018، أي مرحلة وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض في فترته الأولى، التي شهدت تحولات جديدة على الصعيد الدولي والإقليمي على السواء، بما يمثّل أيضاً، كما يفترض كاتب هذه السطور، منعرجاً آخر من منعرجات تعريف الدور الإقليمي الأردني..
يمكن القول أنّه منذ العام 2018 تضافرت جملة من التحولات الدولية والإقليمية مثّلت متغيراً مهماً ومؤثراً على تصوّرات صناع القرار الأردني للدور الإقليمي:
المتغير الأول؛ يتمثّل بتصاعد القناعة لدى صانع القرار الأردني بالابتعاد عن خيار “حل الدولتين”، وما يفرضه ذلك من استحقاقات على تعريف الأمن الوطني الأردني، والاقتراب أكثر من أسئلة ملحّة عالقة على صعيد الدور الأردني في القضية الفلسطينية وعودة اليمين الأميركية والإسرائيلي للحديث في الغرف المغلقة عن “الخيار الأردني”، من جهة، وما يفرضه ذلك من أسئلة على المعادلة الداخلية الأردنية من جهةٍ ثانية.
المتغيّر الثاني؛ تغيرات جذرية في البيئة العربية، تتمثّل بتغير أوزان الدول العربية في المسرح الإقليمي، فمصر مشغولة بأزماتها الاقتصادية الداخلية، والعراق وسورية في مرمى الأزمات الداخلية وتحت رحمة النفوذ الإقليمي والدولي، بينما بدأت تصعد قوة السعودية بصورة ملحوظة مع ولي العهد السعودي الجديد محمد بن سلمان، وهو سلوك غير معتاد من قبل الجار الجنوبي للأردن، ويحمل في طياته سؤال إعادة تصميم وترسيم العلاقة بين الدولتين على قواعد جديدة، تقوم على منح دول أكبر للسعودية في قيادة دول عربية حليفة، وهو أمر يعني –في المقابل- تراجع “مكانة الأردن الاستراتيجية” في سلّم السياسات الدولية من جهة، وفي الملف الفلسطيني من جهةٍ ثانية، وفي محاولة أوّلية (لكاتب السطور) في تعريف منظور القرار الأردني للدور السعودي المتصاعد بأنّه منظور مركّب ومعقد، فمن جهة الأردن يريد دولة إقليمية قوية تأخذ الموقف العربي إلى مرحلة الفعل والجلوس على الطاولة، وتتوافق رؤيتها في العديد من الملفات مع الموقف الأردني ومن جهةٍ ثانية لا يقبل الأردن -تاريخياً- بالقبول بهيمنة دولة عربية أو محاولتها فرض رؤيتها على الدول الأخرى، فلطالما نظر الأردن إلى دوره ومكانته الاستراتيجية أنّه يمثّل نموذجاً على الدولة المعتدلة والمهمة في المنطقة وذات السياسات المميّزة في التحالف مع الدول الغربية ووسيطاً في التسوية السلمية وفاعلاً في صنع السلام الإقليمي، ومثل هذه الميزات يمكن أن تتراجع وتذوي في ضوء هذه المعادلة الجديدة مع السعودية!
طوفان الأقصى.. معالم المنعرج الجديد
شكّل العام 2023 وما بعده منعرجاً آخر في السياسات الإقليمية وحتى الدولية في المنطقة، فللمرة الأولى تدخل إيران ومعها قوى “حلف الممانعة” في حرب مباشرة مع إسرائيل، وينهار النظام السوري، الذي مثّل حلقة جيو استراتيجية رئيسية في هذا الحلف، ويتم وقف إطلاق النار في لبنان على قاعدة قرار مجلس الأمن 1701، الذي يتضمن تحديداً كبيراً لنشاط حزب الله العسكري على الحدود الشمالية، ومن الواضح أنّ هنالك نوايا إسرائيلية وأميركية داعمة لها لضرب محور الممانعة في مختلف المناطق، وإنهاء تهديده لأمن إسرائيل الاستراتيجي، وتشي التصريحات التي قام بها مستشار رئيس الوزراء العراقي، إبراهيم الصميدعي، بأنّ هنالك مفاوضات في السرّ لإنهاء الدور العسكري للميليشيات المسلحة بطلب أميركي، وتهديدات إسرائيلية باستهدافها، بالتزامن مع عمليات عسكرية إسرائيلية ضد الحوثيين.
تأتي هذه التطورات الإقليمية بالتزامن مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، والتوقعات (المرتبطة بطبيعة فريقه الجديد) بأجندة أميركية أكثر انحيازاً لإسرائيل، بل اليمين الإسرائيلي، وهنالك مخاوف أكبر من مشروع إسرائيلي لتوسيع الاستيطان بدرجة أكبر في الضفة الغربية، وبإعادة الزخم لمفهوم “السلام الإقليمي” الذي يقوم على إدماج إسرائيل في المنطقة وتحالفاتها الإقليمية، والدفع نحو توقيع المملكة العربية السعودية على اتفاقيات تطبيع وتعاون مع إسرائيل.
أهمية، وربما خطورة، هذه التحولات على الدور الإقليمي الأردني في العام 2025 أنّها تعني جملة من السياسات الدولية والإقليمية..
بدايةً على صعيد القضية الفلسطينية؛ إذ تمثّل أحد أهم أعمدة الدور الإقليمي الأردني، لما لهذه القضية من أبعاد تاريخية واستراتيجية متعلقة بالموقع الجيو استراتيجي الأردني، كما أنّها على تماس مع مجموعة من القضايا والقيم الأساسية، مثل اللاجئين وحق العودة، موضوع القدس والرعاية الهاشمية وما يحمله ذلك من رمزية وعبء في الوقت نفسه، الحدود والجغرافيا، والمعادلة الداخلية الأردنية وسؤال الهوية السياسية والمكونات الاجتماعية، وأخيراً مكانة الأردن الإقليمية التي شكّلت القضية الفلسطينية تاريخياً جزءاً منها.
على صعيد السياسات الإقليمية، يلاحظ أنّ الأردن متمسك بتحالفاته العربية، ويقوم بدور كبير في تنسيق الموقف العربي، لكن في الوقت نفسه، يأخذ في كثير من الملفات دوراً ثانوياً على “المسرح السياسي”، ويتنحى جانباً تاركاً المجال لمواقف عربية أخرى لتكون في المقدمة، مثلما هي الحال في ملف الحرب على غزة، فبالرغم من الدور النشيط للديبلوماسية الأردنية في مواجهة العدوان الإسرائيلي، إلاّ أنّ الأردن لم يكن طرفاً في مبادرات التسوية والوساطة بين حماس وإسرائيل، ويمكن القول هنا أنّ الأردن يفضل دور “الحليف المخلص” على دور الوساطة في كثير من الملفات الخارجية.
سيكون الدور الإقليمي الأردني على المحك في الانخراط في مشروعات السلام الإقليمي، والاتفاقيات الاقتصادية الإبراهيمية، التي ستكون غالباً أحد مفاتيح النظام الإقليمي الجديد، مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإذا كان خيار الأردن التمسّك بموقفه المتحفظ على هذه المشروعات والتوافقات الإقليمية فإنّ ذلك يعني “تهميش الأردن” وإضعاف حضوره الإقليمي، وربما التعرض لضغوط اقتصادية وسياسية، لكن من زاوية أخرى فإنّ الموافقة على الانخراط في هذه المشروعات سيؤدي إلى تهميش وإضعاف مكانة القضية الفلسطينية، وربما تدهور الوضع في الضفة الغربية، سواء بسبب الاستيطان أو ضم مساحات من الضفة، والخشية من أجندة اليمين الإسرائيلي في القدس وتهويدها، وذلك كلّه يخلق ضغوطاً شديدة سياسياً داخلياً على النظام السياسي من زاوية، ويحجم أهمية الأردن ومكانته الإقليمية من زاوية ثانية، لما للقضية الفلسطينية من أهمية في قيمة الديبلوماسية الأردنية ومكانة الأردن الإقليمية.
على صعيد العلاقة مع سورية والعراق فإنّ الأردن سيكون أمامه خيارات واضحة؛ إما الاكتفاء بدور ثانوي، بوصفه جزءاً من محور إقليمي، أو أن يتولى زمام المبادرة بالاقتراب الاقتصادي والسياسي أكثر واتخاذ خطوات ديبلوماسية وسياسية تعطي الأردن دوراً أكبر في العلاقة مع هذه الحكومات.
على الطرف المقابل، فإنّ تمتع الأردن بحالة من الاستقرار السياسي وسط بيئة إقليمية مضطربة يعطيه ميزة مهمة على مستوى المنطقة، تتمثل في أنّه أصبح مركزاً إقليمياً للعديد من المؤسسات الدولية والإقليمية من جهة، ولديه تعاون عسكري وقواعد عسكرية للعديد من الدول الغربية، وهنالك أفكار ومخططات لتطوير بعض الصناعات والخدمات اللوجستية العسكرية لخدمة هذه المؤسسات والقواعد، بما يمثّله ذلك من ملامح لدور إقليمي جديد وبما يوفره من فرص اقتصادية مختلفة.
الخلاصة؛ الأسئلة المستقبلية
بالعودة إلى أنماط السياسة الخارجية الأردنية، فيلاحظ أنّ الأفكار التوسعية، بصيغها المتعددة تراجعت لدى صانع القرار الأردني، منذ مرحلة الإمارة وصولاً إلى المملكة الرابعة، وهنالك استقرار واضح في تعريف الجغرافيا السياسية وتأطير لمحاولات الوحدة مع دول عربية أخرى، ففي مرحلة الأمير عبدالله الأول كان طموح التوسع الجغرافي – السياسي واضحاً في تصوراته للدور الإقليمي الأردني، ثم في عهد الملك الحسين تراجع نحو جدلية العلاقة مع الضفة الغربية، ثم في الانسحاب سياسياً من ملف العلاقة مع الضفة، وفي عهد الملك عبدالله الثاني كان شعار “الأردن أولاً” إطاراً مهماً للتعبير عن أفكاره ومشروعاته.
خلال الحرب السورية الممتدة من زاوية، والعروض الأميركية لدور أردني في الضفة من زاوية ثانية، كان واضحاً أنّ هنالك نزعة محافظة تجاه التوسع لدى “صانع القرار” الأردني، ورسم الأردن مصالحه الاستراتيجية بوضوح ضمن حدوده الوطنية – الجغرافية الحالية، لكن ذلك لا ينفي أن تكون هنالك شروط جديدة في بيئة إقليمية مضطربة قد تدفع صانع القرار إلى مراجعة هذا المفهوم من جديد، لو فرضنا حالة من الفوضى والتقسيم في سوريا، إذا فشلت عملية الانتقال السلمي، أو حدثت ظروف معينة في الضفة الغربية، فالأردن لما يتمتع به من سمعة في مجال الاستقرار السياسي وشبكة تحالفاته الدولية والإقليمية يمكن أن تكون له أدوار متعلقة بما يحدث في الجوار، ومثل هذا السيناريو مرتبط بالضرورة بسيناريوهات الوضع الإقليمي.
الدور الإقليمي الأردني مرتبط بصورة عضوية بتحالفات الأردن الدولية، ومن الواضح أنّه منذ تأسيس المملكة أنّ الأردن اختار الانحياز للمعسكر الغربي، سواء العلاقة مع بريطانيا في مرحلة الإمارة ثم الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة إلى اليوم، ويمكن ملاحظة تطور ملحوظ على تقوية علاقة الأردن بالعديد من الدول الأوروبية، ويمكن الاستثمار في هذه العلاقات مع هذه الدول، مثل ألمانيا وبريطانيا والدول الاسكندنافية واسبانيا واليابان وغيرها، ويمكن أن يكون الأردن مركزاً إقليمياً للعديد من المؤسسات الدولية والإقليمية.
استناداً على ما سبق فإنّ أحد الأدوار المهمة للأردن، في المرحلة القادمة، يتمثّل في الجانب اللوجستي والخدماتي والتكنولوجي على صعيد الجوار الجغرافي، بخاصة في مجال إعادة الإعمار في سورية والعلاقات الاقتصادية مع العراق، والإنخراط في مجال الإغاثة والعمل الخيري على الصعيد الإقليمي.
وربما هذا وذاك يقودنا إلى سؤال مهم متعلّق بالقوة الناعمة الأردنية Soft Power، المتعلقة بفكرة “النموذج”؛ أحد أركان هذا النموذج تاريخياً تمثّل بالعبارة الشهيرة التي أطلقها الملك الحسين “الإنسان أغلى ما نملك”، وتقوم على الاستثمار في التعليم والموارد البشرية، وكان يطلق بعض السياسيين العرب على الأردن “هارفارد الشرق العربي”، وبالرغم من أنّ العمالة الأردنية الماهرة المدربة ما تزال علامة مسجلة للأردن، بخاصة في دول الخليج، إلاّ أنّ التنمية التي تحدث هناك واتجاه الحكومات هناك أكثر إلى تطوير التعليم الجامعي والتنمية البشرية يدفع الأردن إلى مراجعة مصادر القوة الناعمة والاتجاهات المستقبلية الأردنية في المرحلة القادمة، وأحد هذه الاتجاهات المهمة السمعة الأردنية في مجال الاستقرار الإقليمي والتسامح والتعددية والخبرة في مجال اللاجئين والموقع الجغرافي في مجال إعادة الإعمار، وتقديم خدمات لدول الجوار، مثل الربط الكهربائي وقطاع النقل البري والبحري والخدمات الطبية.. الخ. يتمثّل أحد الأسئلة الرئيسية في المرحلة القادمة في صوغ علاقة الأردن بالسعودية، وهي كما قلنا تتسم بطابع مركب ومعقد، ويبدو هنالك اهتمام كبير أميركي وأوروبي بدور السعودية بوصفها قوة إقليمية في المرحلة القادمة، وعلى الأردن أن يحدد موقعه في هذا المجال؛ دور الحليف الوثيق مع السعودية، أم المحايد أم الموازن في علاقتها بالقوى الإقليمية الأخرى، لكن من الضروري الإشارة إلى أنّ الدور الإقليمي الأردني ارتبط تاريخياً بشبكة من التحالفات وبمفهوم “الشقيق الأكبر”، سواء مع جمال عبد الناصر، بالرغم من مراحل الشقاق والنزاع معه، ومع صدام حسين، وهو السؤال المطروح في طبيعة العلاقة وسماتها مع السعودية في المرحلة القادمة، التي بدورها تغيّرت رؤيتها لذاتها وللعالم ولدورها بوصفها قوة إقليمية مهيمنة وليس فقط دولة عربية داعمة لغيرها من الدول العربية..