الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية والأمن القومي الأردني

نُشرت هذه المادة، في العدد الثاني من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع JPS.

أثارت الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية العديد من التساؤلات حول الأهداف التي تطمح لتحقيقها في الشرق الأوسط، وهل هي أهداف تتعلق برؤية إيران للمنطقة، أم أهداف تتعلق بمواجهة الخصوم والأعداء، وبغض النظر عن طبيعة هذه الأهداف، فإن الثابت هو إن إيران وعبر الأدوار التي مارستها في المنطقة، وتحديداً بعد عام 1979، أدت بشكل أو آخر إلى إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، وبطريقة جعلت دول المنطقة تبحث عن خيارات بديلة، تارة عبر تحالفات إقليمية آنية، وتارةً أخرى عبر ترتيبات دولية مصلحية، الهدف منها تهذيب إيران وإستراتيجيتها في المنطقة، خصوصاً وإن هذه الإستراتيجية قائمة بالأساس على تشكيل مشروع إستراتيجي إيراني يمتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط.

نحاول في هذا المقال تسليط الضوء على الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية بالمرحلة الراهنة، وموقع الأردن في سياق هذه الإستراتيجية، وكذلك البحث في تأثيرات هذه الإستراتيجية على الأمن الوطني الأردني، وما هي متطلبات الأردن للتعامل مع هذه الإستراتيجية في المرحلة المقبلة.

البعد التحليلي للإستراتيجية الإقليمية الإيرانية

إن تحليل الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية انطلاقًا من عمقها الجيوسياسي، حاز على أهمية كبيرة في مدركات صناع القرار على المستويين الإقليمي والدولي، خصوصًا فيما يتعلق بأسلوب إدارتها للملفات المعقدة في المنطقة من جهة، وأسلوب انتقائها للحلفاء والأصدقاء من جهة أخرى، فهي أثبتت التزام إستراتيجي فيما يتعلق بدعم حلفائها دولاً وجماعات، الأمر الذي جعلها رقماً صعباً في المعادلة الإستراتيجية في المنطقة، كونها نجحت أولاً في تسخير إستراتيجيتها الإقليمية في خدمة مشروعها الجيوسياسي، وثانياً في توظيف أطراف إقليمية غير دولتية في خدمة هذا المشروع، وبالشكل الذي جعل إيران دولة مؤثرة في المنطقة، تتحكم بمسارات التهدئة والتصعيد، والأهم تطرح نفسها بشكل يوازي الدور الأمريكي في المنطقة.

اليوم وبعد أربعة عقود من قيام الجمهورية الإسلامية، تأثرت إستراتيجيتها الإقليمية خلال هذه الفترات بالتطورات الإقليمية والدولية الكبيرة، وتحديداً وإن المنطقة مقبلة على التعايش مع التوازنات الإستراتيجية التي ستنشأ بعد سقوط نظام (بشار الأسد) في سوريا، وعودة جديدة للرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) للبيت الأبيض، وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى تطورات دولية تؤثر بشكل مركب على التوجهات الإستراتيجية الإيرانية، لذلك فإن تحليل وشرح إستراتيجية إيران الإقليمية يخضع بطبيعة الحال لتحليل منهجي، لأن التفاعلات الخارجية للحكومات الإيرانية منذ عام 1979 وحتى الآن، تتأثر بالتطورات في النظامين الإقليمي والدولي تبعاً لذلك، والحديث هنا ليس عن الفاعلين فقط في إستراتيجية إيران الإقليمية، ولكن أيضاً المتغيرات المؤثرة في هذه الإستراتيجية.

 وبالنظر إلى الوضع الجيوسياسي الراهن لإيران، يمكن القول بأنه إذا ما ظل النظام السياسي الإيراني مغلقاً ولم يتغير، في الوقت الذي تشهد فيه بيئته الداخلية والدولية تغيراً مستمراً، فسوف يصبح تدريجياً في حالة فجوة كبيرة مع محيطه الإقليمي، إذ إن بقاءها في حالة لا حرب ولا سلام، سوف يجعل إمكانيات التنمية في إيران، والقدرات الدبلوماسية والإستراتيجية الإيرانية أمام تحديات صعبة، خصوصاً مع تواصل العقوبات الدولية المفروضة عليها بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، وكذلك تراكم الإخفاقات الإستراتيجية بعد اغتيال (قاسم سليماني) في يناير/كانون الثاني 2020، والتي وصلت إلى حد الانتكاسات الكبيرة التي واجهها أطراف (محور المقاومة) في الوقت الراهن، وتحديداً في غزة ولبنان وسوريا، واحتمالية انتقال هذه الانتكاسة إلى العراق واليمن بالمرحلة المقبلة.

إجمالاً، إيران اليوم أمام وضع إستراتيجي صعب للغاية، خصوصاً وأنها تبحث عن مخرج استراتيجي يعيد التوازن لدورها الإقليمي ما بعد سقوط نظام الأسد، بالتزامن مع صعود أدوار إقليمية أخرى، وتحديداً تركيا التي تعد اليوم لاعباً مهماً في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية الجديدة ما بعد الأسد، وبالتالي فإن إيران تبحث عن مخرجات إستراتيجية تجعلها قادرة على الإبقاء على دورها في المنطقة، بذات الفاعلية والتأثير، بالنظر لرؤيتها المركزية في المنطقة، والتي تنطلق من فكرة مفادها؛ بأن لديها من المبررات التاريخية والجغرافية والبشرية والعقائدية والسياسية، ما يؤهلها لأداء دور القائد فيها، إدراكاً منها لقوتها الذاتية وإمكاناتها الطبيعية، واستقرار الاعتقاد بامتلاكها هذه المبررات، هي التي حددت طبيعة علاقاتها مع دول المنطقة وما زالت، ومنها الأردن، التي تعد أحد أبرز التفاعلات الإقليمية العاكسة بوضوح لطموحها في ممارسة دور إقليمي بارز، ومفهومها لحدود هذا الدور وكيفية صناعته.

الإصلاحيون ودور إيران الإقليمي

إن قدرة الرئيس الإيراني (مسعود بزشيكيان) على إنتاج علاقات مستقرة مع الولايات المتحدة في المنطقة، ستشكل إلى حدً بعيد ملامح الدور الإيراني في المرحلة المقبلة، إذ إن عملية التداخل المعقد بين الأدوار الإيرانية والأمريكية في المنطقة، أنتج حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، كما إن الاستثمار الإيراني في دعم وتمويل الحلفاء في العراق ولبنان واليمن، قابله رد فعل أمريكي متشدد وغير متوقع في العديد من المناسبات، كما إن طريقة تفاعل البلدين في غزة ولبنان وسوريا، تظهر بما لا يقبل الشك الفجوة الكبيرة في تصورات كل من إيران والولايات المتحدة حول الأمن والاستقرار في المنطقة.

إن وجود بزشكيان كرئيس لإيران قد يوفر فرصة ضئيلة لطهران للتخلص من نهجها السابق، وإيجاد تغيير في سياساتها المناهضة للغرب، والتعامل بواقعية في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، إذ إن الأهم بالنسبة لبزشيكيان سيكون في مدى قدرته على إحداث توازن بين الخارجية والحرس الثوري، وذلك سيتوقف إلى حدٍّ بعيد على الدور الذي سيلعبه وزير الخارجية الإيراني (عباس عراقجي)، إذ إن وجود عراقجي على رأس الخارجية الإيرانية، يمكن أن يساعد بزشيكيان على تحقيق مثل هذا الهدف، فهو على الرغم من عمله كنائب لوزير الخارجية في حكومة روحاني، وكان أحد أبرز الشخصيات الإيرانية التي أدارت المفاوضات النووية مع القوى الكبرى، إلا إنه شخصية متشددة وملتزمة بتأمين وترسيخ رؤية الحرس الثوري على الصعيد الخارجي، ولعل مثل هذه الشخصية المركبة، هي ما ستساعد بزشيكيان على إدارة هذا التوازن بأقل الخسائر.

ومن ثم يمكن القول بأن ملف الدور الإقليمي الإيراني سيكون بنسبة كبيرة تحت وصاية الحرس الثوري، بالنظر للظروف الإقليمية الحالية التي تمر بها إيران، وتحديداً بعد سقوط نظام الأسد، إذ سيحاول الحرس الثوري عبر عراقجي دعم جهوده في العراق واليمن أولاً، ويوازن تعثر قائد قوة القدس الجنرال (إسماعيل قاآني) ثانياً، وإعادة ترتيب الأوراق الإيرانية المبعثرة في لبنان وسوريا ثالثاً، بالشكل الذي يعيد الفاعلية للدور الإقليمي الإيراني.

إن ضعف العلاقات التي تربط بزشيكيان بحلفاء إيران في المنطقة، وتحديداً “محور المقاومة”، ستجعله خاضع لتأثير الحرس الثوري بنسبة كبيرة، وتحديداً في القضايا المصيرية المتعلقة بنفوذ الجمهورية الإسلامية ومستقبل حلفائها، فهناك اليوم العديد من الضرورات السياسية والإستراتيجية التي تحيط بإيران، وتتطلب من بزشيكيان التعامل معها، وهو الأمر الذي سيدفع خامنئي لوضع كل آماله على هذا الرئيس، والفريق الذي سيرافقه في عملية إدارة الجمهورية الإسلامية داخلياً وخارجياً في المرحلة القادمة.

إيران والأردن ومعضلة بناء الثقة

تمثل العلاقات الإيرانية – الأردنية أحد أبرز نتاجات الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية في المنطقة، خصوصاً وإنها علاقات بنيت بالأساس على مبدأ (معضلة بناء الثقة) بين الطرفين، ففي مقابل (إستراتيجية التمدد) التي تبنتها إيران حيال دول المنطقة، تبنت الأردن في مقابل ذلك (إستراتيجية الصد والاحتواء) من أجل تقليل آثار الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية.

إن هذا الارتباك في العلاقات الإيرانية – الأردنية لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج سنوات من التوتر بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، والتي رفعت شعار تصدير الثورة، والانقلاب على الأنظمة الملكية في المنطقة، والأهم دور الأردن الداعم للعراق في حربه مع إيران 1980 – 1988، وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، أصبح الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة أكثر وضوحاً، إذ كانت نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق، على عكس توقعات إدارة (جورج دبليو بوش)، فقد أدى هذا الاحتلال إلى زيادة النفوذ الإقليمي الإيراني، لذلك اتخذت الولايات المتحدة وإسرائيل والحكومات العربية آنذاك، خطوات للسيطرة على قوة إيران المتنامية في المنطقة، وفي الواقع سعت إدارة بوش إلى توحيد الدول العربية وإسرائيل، للحد من النفوذ الإيراني في العراق، وحماية إسرائيل، والحفاظ على الاستقرار في المنطقة، وتأمين إمدادات الطاقة. 

إن من أبرز النتائج التي افرزها عالم ما بعد 11 سبتمبر/أيلول في الشرق الأوسط، هو ظهور ما يسمى بـ”الهلال الشيعي”، وتحديداً بعد احتلال العراق عام 2003، كوصول الشيعة إلى السلطة في العراق عام 2003، وفوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006، وصعود حزب الله اللبناني كقوة عسكرية بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وهي كلها حقائق غيرت الوضع الجيوبوليتيكي في الشرق الأوسط، ما دعا ملك الأردن عبدالله الثاني، إلى القول بأن النتيجة الرئيسة للحرب على العراق هي تشكيل جغرافيا شيعية تحت السيطرة الإيرانية، متمثلة بـ “الهلال الشيعي”، رغم إنه عاد للتأكيد في مرحلة لاحقة، بأنه كان يقصد الهلال الإيراني.

إن تصريح الملك عبدالله الثاني حيال الصعود الإيراني آنذاك لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة صورة نمطية مرسومة لإيران في ذهنية صانع القرار السياسي الأردني، من طبيعة الأدوار التي مارستها إيران في المنطقة، والتي جعلت الأردن أحد أبرز الدول المستهدفة من إستراتيجية إيران الإقليمية بعد عام 2003، وذلك كان واضحاً من الارتباك الذي شاب العلاقات الإيرانية – الأردنية بعد احتلال العراق.

تنظر إيران للأردن من زاوية معقدة للغاية، ولعل هذا ما عرقل عملية التوافق الإيراني – الأردني حتى الآن، فإيران ترى الأردن على أنه جزء من “محور التطبيع” المعادي لـ “محور المقاومة” في المنطقة، كما إن الوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية في القدس، أفقد خطاب “تحرير القدس” الذي يتبناه الحرس الثوري شرعيته الكاملة، والأهم من كل ذلك، ما زالت الأردن تمثل الخاصرة الرخوة في الجسر الإقليمي الإيراني نحو البحر الأبيض المتوسط.

ولذلك تحاول إيران خلق مسار يخدم هذه الرؤية، فرغم كل محاولات التواصل الإيراني مع الأردن، سواءً عبر تنشيط العلاقات الدبلوماسية، أو استغلال الورقة الاقتصادية، أو تفعيل الزيارات الدينية، أو توظيف الوساطات الإقليمية، وتحديداً السعودية والعراقية، إلاّ إن الأردن لا يزال متردد في الانفتاح عليها، بانتظار مبادرة إيرانية جادة تتضمن المخاوف الأردنية، وإن مثل هذا التردد، نابع بالأساس من أدوار إيران غير المباشرة حيال الأردن، سواءً على مستوى انتشار الجماعات المسلحة الموالية لها في غرب العراق، أو عمليات تجارة المخدرات التي تديرها إيران في المنطقة، والأهم محاولة إيران زعزعة الأمن والاستقرار في الأردن، عبر صراعها الحالي مع إسرائيل.

لقد أدت عملية التصعيد الإيراني الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى تعزيز حالة عدم الثقة الأردنية بنوايا إيران الإقليمية، خصوصاً مع التحذيرات الإيرانية الموجهة للأردن في عدم اعتراض أي هجوم إيراني على إسرائيل، ورغم إعلان الأردن بأن هذا التدخل إن حدث فإنه سيكون من أجل حماية سيادة الأردن، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في زيارته لطهران في أغسطس/آب 2024، إلاّ أن إيران وحلفائها في المنطقة، وتحديداً الجماعات العراقية، نظموا حملة إعلامية ضد الأردن، ودورها في إسقاط بعض الصواريخ الإيرانية المتجهة لإسرائيل من فوق الأجواء الأردنية في أبريل/نيسان 2024.

لم تكن أدوار إيران وحدها من أنتج حالة عدم الثقة مع الأردن، بل إن الأنشطة التي يقوم بها وكلاء إيران حيال الأردن، شكلت مصدر إزعاج للمملكة الهاشمية، لكن هذه الأنشطة خلفت تأثيراً أكثر مباشرة، فإغلاق باب المندب وتعطيل الشحن التجاري في البحر الأحمر من قبل الحوثيين، على سبيل المثال، كان له تأثير ضار على ميناء الأردن الوحيد على البحر الأحمر أي (ميناء العقبة)، وفي الوقت نفسه، ارتفعت صادرات المخدرات غير المشروعة إلى الأردن من سوريا، إذ شهدت مرحلة ما قبل سقوط نظام الأسد في 27 ديسمبر/كانون الأول 2024، ارتفاعاً كبيراً في عدد الشحنات المحظورة من “الكبتاغون” المهربة عبر الحدود الشمالية للمملكة، وقام الجيش الأردني على نحو متزايد بإسقاط طائرات مسيرة تنقل المخدرات من سوريا، وينخرط في تبادل لإطلاق النار مع عصابات المخدرات على طول الحدود، ما يشير لدوره لحجم الأدوار المقلقة التي تمارسها إيران حيال الأردن، خصوصاً وإن الأمر يتجاوز موضوع تجارة المخدرات، إلى تهريب الأسلحة، بما فيها الأسلحة الخفيفة والأسلحة المضادة للدبابات وقاذفات الصواريخ والمتفجرات والألغام المضادة للأفراد، وفي حين أن بعض هذه الأسلحة، التي نقلها عملاء تابعون لإيران، سيبقى في المملكة، إلاّ أن الغالبية العظمى منها تمر عبر الأردن متجهة إلى الضفة الغربية، التي تسعى طهران أيضاً إلى إغراقها بالأسلحة على أمل تقويض الأمن الإسرائيلي.[1]

متطلبات الأمن الوطني الأردني في سياق الدور الإيراني

مما لا شك فيه أن الأردن يواجه اليوم واقع إقليمي صعب للغاية، خصوصاً بعد سقوط نظام الأسد، والوضع غير واضح المعالم في سوريا الجديدة، بعد سيطرة جماعات جهادية/معارضة على الحكم في سوريا، فالأردن محاط اليوم بمحيط جغرافي يشهد صراعات مسلحة، حرب في غزة، واتفاق وقف إطلاق نار هش في لبنان، وتصاعد الاحتمالات بانتقال الصراع إلى العراق واليمن، والعلاقة المعقدة بين إيران وترامب، وهو ما يفرض على الأردن اعتماد إستراتيجيات أمنية وقائية لإدارة المخاطر، وتقليل التداعيات الأمنية الإقليمية على الداخل الأردني.

ورغم إن الإجراءات التي اعتمدها الأردن حيال إيران، سواءً على مستوى الخطاب المعتدل للقيادة الأردنية، أو جهود التهدئة التي تقودها الخارجية الأردنية بالوقت الراهن، للتقليل من التداعيات الإستراتيجية التي من الممكن أن يفرزها سقوط نظام الأسد على الوضع الإقليمي، وذلك عبر استضافة اجتماع إقليمي ودولي في مدينة العقبة يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2024، لمناقشة الوضع في سوريا، وإدارة المرحلة الإنتقالية ما بعد سقوط نظام الأسد، إلاّ إن مثل هذه الجهود من المتوقع أن تبقى ذات أثر إستراتيجي قصير المدى، خصوصاً مع عودة الرئيس (دونالد ترامب) لإدارة البيت الأبيض، وكذلك عدم مشاركة إيران في هذا الاجتماع، ما يعني بأن المنطقة بشكل عام، والأردن بشكل خاص، قد يكون مقبل على موجة جديدة من التصعيد، تستدعي اعتماد إستراتيجيات وقائية في المرحلة المقبلة.

إن إمكانية التعاطي مع الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية تبقى مسألة نسبية وليست مطلقة، خصوصاً وإن إيران تتحرك في المنطقة عبر أكثر من وسيلة وأداة، وفي ما يتعلق بالأردن، فإن إيران مارست كل الأدوار التي من الممكن أن تحقق اختراقاً للداخل الأردني، بدايةً من الجانب السياسي، وانتهاءً بالجانب الديني، وعلى المستوى الرسمي وغير الرسمي، وفي ظل مثل هذا الواقع، يمكن القول بأن الأردن أمام إشكالية إستراتيجية في كيفية تهذيب السلوك الإيراني، ورغم إن الظروف الإقليمية الحالية قد تشكل فرصة لإعادة تشكيل الدور الإيراني حيال الأردن، بعد تقلص قابلية التأثير الإيراني على الأردن، وتحديداً في سوريا ولبنان، إلاّ إن مسألة تحرر الأردن من بعض التزاماته الإقليمية، تبقى مسألة يمكن أن تحكم على مدى نجاح أو فشل هذه الفرصة.

وفي هذا السياق، فإن نظرة بسيطة لطبيعة التعاطي الأردني مع إيران خلال الفترة الماضية، أظهرت بشكل واضح ارتباك أردني واضح في كيفية اعتماد سياسة واضحة وصريحة حيال إيران، وسبب ذلك لا يعود إلى قصور في صنع القرار السياسي الأردني، بل بالتأثيرات الموازية على الأردن، وتحديداً من دول الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة، التي أثرت بشكل أو آخر على الخيارات الوطنية الأردنية حيال إيران، ومن ثم فإن التحرر من هذه الضغوط الثلاثة، قد توفر فرصة للأردن في تدارك المخاطر الإستراتيجية التي تقف خلف الدور الإيراني، وتساهم بشكل أو آخر في تهذيب سلوك وكلاء إيران حيال الأردن.

إذ إن دبلوماسية الانفتاح الأردني على العراق، وبناء جسور للتفاهم مع حلفاء إيران في العراق، وتحديداً (قوى الإطار التنسيقي)، يمكن أن يشكل نهجاً واضحاً في إنتاج استدارة إستراتيجية لإعادة تشكل مجمل الدور الأردني حيال إيران.

إن نجاح الأردن في توظيف التراجعات الإستراتيجية الإيرانية الحالية في المنطقة، وكذلك استغلال عودة الرئيس (دونالد ترامب) للبيت الأبيض، يمكن أن تشكل فرصة لبناء إستراتيجية أردنية واضحة حيال إيران، عبر تبني دبلوماسية توازن بين حاجات إيران لتأمين وضعها الإقليمي، وحاجات الأردن بتأمين وضعه الداخلي، من خلال دفع إيران لإعادة تشكيل دور حلفائها في الدول المحيطة بالأردن، مقابل قيام الأردن بدبلوماسية إقليمية تقلل من مخاطر استدامة التصعيد الإقليمي، عبر الاستثمار بـ (دبلوماسية أردنية عابرة للصراعات الإقليمية).

إن عدم امتلاك الأردن لتاريخ صراعي واضح مع إيران، يجعلها أكثر الأطراف العربية القادرة على تبني مثل هذه المبادرات، عبر الانتقال بالعلاقات الإقليمية من المعادلة الصفرية إلى معادلة غير صفرية، وجعل مسألة التغيير في سلوك إيران الإقليمي هي مسألة داخلية، تتحكم فيها التطورات الداخلية الإيرانية، خصوصاً مع رغبة القوى الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة في استدامة هذا النظام، مع محاولات تغيير سلوكه، وبالتالي فإن تبني خيارات المواجهة مع إيران تبدو خيارات غير واقعية، في ظل سعي بعض الدول الإقليمية والدولية للحوار مع هذا النظام، ولذلك فإن المصلحة الوطنية وليست الإقليمية ينبغي أن تكون هي المحرك الأساس لأي دبلوماسية أردنية حيال إيران في المرحلة المقبلة.

خاتمة

ساهمت العديد من المتغيرات الداخلية والخارجية في تشكيل العلاقات الإيرانية الأردنية بعد عام 1979، إذ شهدت العلاقات بين البلدين العديد من التقلبات، ما بين إنفتاح حذر وتوتر مستمر، ومع ذلك فإن الأردن اليوم، ومع سقوط نظام الأسد، بحاجة لخلق هامش مناورة سياسية وتنويع المنافع الاقتصادية وتقليل للمخاوف الأمنية القادمة من إيران.

وعلى الرغم من أجواء التفاؤل التي تحيط بالعلاقة بين الطرفين، إلاّ إن هذه العلاقة ما زالت في مرحلة اختبار النوايا، وذلك بفعل تعدد المتغيرات الداخلية والخارجية المحيطة بها، إلى جانب كونها علاقات محكومة بملفات معقدة، ما يجعلها مرشحة للاهتزاز بأي لحظة، إذ أظهر السلوك الأردني حيال إيران حتى اللحظة، بأنه لا يحمل تحفظات كبيرة في مسألة التفاعل الإيجابي معها، وأن الأمر يتوقف على أداء إيران، وتحديداً في مسألة عدم تبني إيران لأي سلوكيات تزعزع إستقرار المملكة، وهو أمر سيجعل العلاقة بين إيران والأردن أمام اختبارات حقيقية في المرحلة المقبلة.


[1] David Schenker, Iran Targets Jordan: The Kingdom Joins the Theocracy’s List of Enemies, The Washington Institute, Jun 5, 2024. https://shorturl.at/E6Qvu.

زر الذهاب إلى الأعلى