الأردن والتحولات الجيو استراتيجية المحيطة؛ مقاربة متحفظة أم وقائية؟!

لم يعد ملف واحد خطير أمام “مطبخ القرار” في عمان، في الجوار الإقليمي، بل هنالك العديد من الملفات المهمة والمشتبكة مع الأمن القومي والدور الإقليمي الأردني، وجيمعها على درجة عالية من الأهمية، ففي غزة ما يزال القلق الشديد من خطة ترامب بتهجير الفلسطينيين ومدى نجاح الخطة العربية (التي من المتوقع إقرارها اليوم في القاهرة) في إقناع ترامب بتغيير موقفه، ومن المفترض ان تصل الموجة الأولى من الأطفال الفلسطينيين المصابين بالسرطان (من ضمن 2000 طفل فلسطيني قال الملك خلال لقائه مع ترامب أنّ الأردن سيعالجهم) إلى الأردن قريباً، ولكن تبقى العين الأردنية على الضفة الغربية والتطورات الخطيرة التي تحدث هناك، بخاصة مع عملية السور الحديدي للجيش الإسرائيلي، وإقرار الحكومة الإسرائيلية لخطة القدس الكبرى، وجميع هذه السياسات الإسرائيلية ستؤدي في النهاية إلى خنق الفلسطينيين هناك وإلغاء أي إمكانية لإقامة الدولة الفلسطينية، والاستيلاء على أغلب الأراضي هناك!
يدرك المسؤولون الأردنيون خطورة هذا الوضع في الضفة وما يمكن أن يؤول إليه من تهجير طوعي أو قسري أو حتى الضغط مستقبلاً من قبل الإدارة الأميركية لقيام الأردن بدور بديل في المدن الفلسطينية (وهو ما يسمى الخيار الأردني) في حال انهارات أو قضت إسرائيل على مبررات بقاء السلطة الفلسطينية؛ لكن في المقابل يجد المسؤولو الأردنيون صعوبة بالغة في الجواب على السؤال المتعلّق بالموقف الأردني؛ وما هي الأوراق التي في يد الأردن لمواجهة مثل هذا السيناريو؟!
بعض المسؤولين يصرون على أنّ الأردن مطالب بتخفيف حدة المواجهة بينه وبين إسرائيل وعدم الدخول في مواجهة مع اليمين الإسرائيلي بخاصة في حقبة الرئيس ترامب، وعلينا الاكتفاء بالشجب والتنديد وإعلان رفض سيناريو ضم الضفة أو ما يحدث في القدس، مثل أي دولة عربية أخرى، البعض الآخر يدعو إلى تصعيد في حدة الخطاب الدبلوماسي الأردني والتلويح بمعاهدة السلام مع إسرائيل، لكن في كل هذه الخيارات يبدو أنّ الأردن لا يملك أوراق ضغط حقيقية على إسرائيل، وأنّ الزمن الذي كانت تراعي فيه الحكومات الإسرائيلية الموقف الأردني واعتبارات الأردن السياسية والاستراتيجية قد انتهى، وأنّ ما يريده نتيناهو سيفعله بمباركة من الإدارة الأميركية.
لا يقل خطر السلوك الإسرائيلي في سورية على الأمن القومي الأردني عما يحدث في الضفة الغربية والقدس، فبات واضحاً أن بنيامين نتنياهو وحكومته يسعون إلى إقامة دولة درزية أو إمارة في الجنوب السوري، وربما ربطها بالسويداء، وقد توغلت القوات الإسرائيلية إلى جنوب سورية وسيطرت على جبل الشيخ ومساحة واسعة من القرى السورية القريبة من الحدود، وقد أعلن نتنياهو أنّه لن يسمح بتواجد قوات الحكومة السورية في الجنوب السوري، مما يعني أنّ هنالك خطراً كبيراً من حالة الفوضى والتمزق الداخلي السوري أو السيطرة العسكرية الإسرائيلية على المناطق الجنوبية بما يعني أنّ إسرائيل ستكون أيضاً على حدود الأردن الشمالية.
السؤال المطروح في أروقة القرار الأردني؛ ما العمل؟! هل سيقف الأردن متفرجاً على الأحداث الخطيرة على حدوده الشمالية أم يحاول أن يقوم بخطوات وقائية، ربما بالتنسيق مع السعودية وتركيا والحكومة السورية، لإجهاض مشروع نتنياهو من خلال وجود قوات أردنية في المناطق الجنوبية وعلى الحدود مع إسرائيل ما يجعل من حجج نتنياهو غير قوية، ويكون هنالك ضغط غربي وأميركي عليه للانسحاب من هناك!
الاتجاه السياسي المحافظ الأردني يريد تجنب أي انخراط في الحالة السورية، فضلاً عن إرسال قوات أردنية، ويرى أصحاب هذا الرأي أنّنا لسنا معنيين بالدخول في صراعات ودوامات داخلية في سورية بخاصة أنّ هنالك حالة ضبابية في المشهد السياسي هناك، بينما يرى اتجاه آخر أنّ وقوف عمان مكتوفة اليدين متفرجة على ما يحدث في سورية سيكون موقفاً سلبياً أمام مصادر تهديد خطيرة وحقيقية على الواجهة الشمالية الممتدة للمملكة.
أمام المشهد العراقي وتعقيداته ومشكلاته؛ يدعو عدد من السياسيين السنة العراقيين الأردن، بخاصة أن عدداً كبيراً منهم يقيم في عمان، إلى القيام بدور أكبر في تشكيل مظلة للسنة العراقيين ومساعدة حتى القوى السياسية الأخرى على إيجاد حلول سياسية لتجنب ضربة أميركية أو الدخول في مواجهة أميركية- إيرانية، بينما يرى سياسيون آخرون أنّ قدرات الأردن وإمكانياته محدودة من زاوية، وأنّ الوقوف مع السنة العراقيين سيؤدي إلى مفاقمة الخلاف مع القوى السياسية الأخرى ويجر الأردن إلى أزمة دبلوماسية واستعادة أجواء العداء بعد انهيار نظام صدام 2003 وتشكل النظام السياسي العراقي الجديد، فالأفضل الابتعاد عن التوترات العراقية وتداعياتها السلبية.
في المحصلة ثمة قناعة لدى نخبة سياسية أردنية أنّ هنالك تغيرات إقليمية تعصف بالوجه الحالي للشرق الأوسط، وتعيد تشكيل المنطقة والحدود بين الدول، وهي حالة تحمل الكثير من عدم اليقين حول المستقبل وستعصف بدول وتشكّل دولاً أو دويلات أخرى، ربما ما يفضل بعض المحللين أن يطلق عليه مصطلح سايكس بيكو 2.
في المقابل هنالك اتجاهان رئيسيان في النخب الأردنية؛
الاتجاه الأول وهو محافظ يريد التأكد من حماية الدولة وحدودها والحفاظ على الاستقرار السياسي وتجنب هذه العاصفة الإقليمية، فهذا بحدّ ذاته إنجاز كبير لدولة بحجم الأردن الصغير وإمكانياته المحدودة في بيئة عاصفة وخطيرة وجوار جغرافي يتفكك، فلا مجال إلاّ حماية الذات والتركيز على الحدود وعدم التورط بأي مشكلة في الخارج.
أما الاتجاه الثاني فيرى أنّ حماية الأمن القومي الأردني والدور الإقليمي للبلاد يتمثل بمقاربة منفتحة جريئة وليست مقاربة متقوقعة وخائفة، فلن نحمي الحدود الشمالية إلا بدور أكبر في الجنوب السوري، ولن نستطيع مواجهة مشروع ضم الضفة الغربية إلاّ بتعزيز الأوراق الأردنية في الضفة والتفاعل المباشر مع السكان هناك وإفشال خطة إسرائيل بضم القدس، بخاصة أنّ هذا الوضع الإقليمي يؤثر أيضاً على المعادلة الداخلية الديمغرافية الأردنية، فنحن لا نستطيع أن ننفصل عما يدور حولنا أو أن نعزل أنفسنا عن هذه المخاطر، بل المطلوب أن يكون هنالك خطط وسيناريوهات واستعداد أردني للتفاعل بقوة مع كل ما يحدث حوله..