7 أكتوبر” وتبعاته الفلسطينية الداخلية
"طوفان" المقاومة و"صفرية" الفصائل
![](https://i0.wp.com/politicsociety.org/wp-content/uploads/2024/06/manar-03195960017144676234.jpg?fit=1600%2C918&ssl=1)
نُشر هذا المقال في العدد الأول من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع (JPS) والذي جاء ملفه تحت عنوان “التداعيات الإقليمية للحرب على غزة”.
لتحميل المجلة أنقر على الصورة أدناه
![](https://i0.wp.com/politicsociety.org/wp-content/uploads/2024/03/psi3.png?resize=1024%2C130&ssl=1)
استيقظ العالم يوم السابع من أكتوبر/تشرين أول 2023، على عملية عسكرية نوعية نفذتها كتائب عز الدين القسّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، من قطاع غزة الفلسطيني، ضد المعسكرات والقواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع. تتوالى تداعيات هذا الحدث، وما زالت متفاعلة، أثناء كتابة هذا المقال، بعد نحو سبعة أشهر من بدء الحرب. يختص هذا المقال، بمعنى هذا “الحدث” من حيث علاقة القوى الفلسطينية ببعضها، ومن حيث واقع المقاومة الفلسطينية وقدرة فصائلها على تشكيل قيادة فلسطينية تمثل الفلسطينيين وتقود حراكهم، ويجيب على سؤال هل ستتغير خريطة القوى والقيادة الفلسطينية؟
الأطروحة الأساسية في هذا المقال، أنّه بينما يؤدي واقع الاحتلال الضاغط ومخططات الاستيطان والإنكار لحقوق الفلسطينيين الوطنية إلى الوصول المتكرر لنقطة “الطوفان” حيث يصل الفلسطينيون إلى شن موجات مواجهة ومقاومة، فإنّ هناك حالة استقطاب بين الفصائل، وتحديدًا بين الفصيلين الأكبر؛ حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، و”حماس”، وكلاهما ينظر للآخر نظرة صفرية، أي لا يرى فرصة لحل وسط وللعمل معًا. لكن في الوقت ذاته لا يمتلك أي منهما القدرة أو فرصة ليكون في موقع القيادة الرسمية والفعلية في آن واحد، قريبًا.
للإجابة عن أسئلة معنى وتداعيات “7 أكتوبر” فلسطينيًّا، داخليًّا، يمكن الانطلاق من عدّة عناوين؛ الأول يتعلق بحتمية المقاومة مع تحليل مضمون لمعنى “الطوفان”، مع عرض الحالة الفريدة في غزة حيث “فائض معاناة شعبية حياتية”، و”فائض قوة” عند حركة “حماس”.
في العنوان الثاني، يتم الانطلاق من مقولة “البندقية التي تزرع والسياسة التي تحصد”، لتوضيح العلاقة بين الفعل المقاوم والميداني وآليات تحويل ذلك لمنجز سياسي، واستعصاء ذلك فلسطينيًّا. وفي العنوان الثالث (وحدانية السلاح.. “الدور والمكانة”)، يبحث المقال مصير القيادة الفلسطينية من حيث الدور والمكانة، ويخلص هذا الجزء إلى أنّه بينما تتراجع مكانة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح”، فإنّ حماس ليست قريبة من الحلول مكانهما، ومن تولي القيادة بديلًا عن “فتح”. في الجزء الرابع مثال على رؤية الفصيلين الأساسيين (فتح وحماس) للعلاقة بينهما باعتبارها علاقة صفرية لا مكان فيها للعمل المشترك، والخلاصة أنّ الحاجة الملّحة فلسطينيًّا هي الخروج من هذه الحالة الصفرية.
مصطلحات “الطوفان”: “فائض المعاناة” و”فائض القوة”
اختارت حركة “حماس”، اسم “طوفان الأقصى” تسميةً لعمليتها في السابع من أكتوبر، وقد يكون المقصود من هذه التسمية، الإشارة إلى ضخامة الفعل، وبحسب بيان محمد ضيف، القائد العسكري لحماس، الذي أدلى به بالتزامن مع تنقي العملية، جاءت العملية ردًّا على “الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المَسْجِدِ الأقصى المُبَارك واعتداء المُستوطنين الإسرائيليين على المُواطنين الفلسطينيين في القُدس والضّفّة والدّاخل المُحتَل”. إلا أنّ الأحداث والمؤشرات التي توضّح لماذا قامت حركة “حماس” بهذه العمليّة، بما في ذلك تصريحات قيادات حركة “حماس”، والبيانات الرسميّة للحركة توضح أنّ ما حدث يرتبط بشكل أساسي بحالة الاحتقان والحصار، في قطاع غزة، لذا يمكن القول إن هذه الحالة “فاضت” هذه الحالة حتى خرجت على شكل هذا الهجوم. هذا الاحتقان يتضمن عدا عن صعوبة الحياة اليومية في غزة، قضايا أخرى مثل قضية الأسرى الفلسطينيين، وتهديد المسجد الأقصى في القدس، والاستيطان في الضفة الغربية؛ لكن الوضع في قطاع غزة، يبدو أنّه العامل الضاغط بشكل أساسي. على أنّ فهم ما حدث يوم 7 أكتوبر يحتاج لأن يتم قراءة هذا الضغط الذي فاق الحد إلى درجة “الطوفان” بترابط مع مصطلح آخر هو “فائض القوة”.
لخص قائد حركة “حماس” في قطاع غزة، يحيى السنوار هذه الحالة (الأزمة الضاغطة وفائض القوة)، عقب مواجهة مايو/آيار 2021، التي سميت من قبل المقاومة باسم “سيف القدس”[1]. بعد تلك المواجهة قال السنوار، بشأن الوضع المعيشي في القطاع “سنحرق الأخضر واليابس” إذا لم يحل هذا الأمر. لكنه أوضح في الوقت ذاته أن حركته، وتحديدًا الجناح العسكري، لا تعاني ماديًّا، وتعتمد على جهاتٍ منها إيران وحزب الله، وقال في مؤتمر صحافي بثّه الإعلام “الشكر كل الشكر للجمهورية الإسلامية في إيران، التي لم تبخل علينا طيلة السنوات الماضية، ولا على فصائل المقاومة الأخرى، بالمال والسلاح والخبرات”، وفي تعليقه على تمويل إعادة قطاع غزة قال: “لن نطلب من واحد أن نأخذ منه، ولو قرش واحد لحماس أو للقسام، حماس والقسّام لديها مصادرها وإيراداتها، ولا يلزمها أن تأخذ من أموال المساعدات والمنح وأموال الإعمار”.
بهذا المعنى فإنّ ما حدث في أكتوبر 2023، هو نتيجة لحالة متناقضة، تجمع بين الكارثة الإنسانية المعيشية، التي وصلت حد التجويع في قطاع غزة،[2] يقابل ذلك حالة من الوفرة نسبية، والاكتفاء، لدى الجناح المسلّح في حركة “حماس” خصوصًا، ولدى الحركة عمومًا. هذه الحالة شكّلت مأزقًا بحد ذاتها، إذ أصبحت المقاومة تلام على أنّ قوتها في غزة لا تجدي سواء بوقف الاعتداءات في القدس والضفة الغربية، أو في فك الحصار المستمر منذ 17 عامًا في القطاع. وفي الوثيقة التي أطلقتها حركة “حماس” في يناير/كانون ثاني 2024، بعنوان “هذه روايتنا، لماذا طوفان الأقصى”، كان الحصار على قطاع غزة لمدة 17 عام، هو أول سبب مباشر ذكرته الحركة بعد الأسباب التي تتعلق بتاريخ القضية منذ (105 أعوام)، بل وذكرت الحركة الفشل في معالجة القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة، والمسيرة السلمية كسبب لما حدث.
لا شك أنّ بعض أهداف عملية “7 أكتوبر” المباشرة، هي أخذ أسرى من الجيش الإسرائيلي، ومبادلتها بالأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وهو ما أشارت له وثيقة “حماس”، لكن هدف أساسي آخر كان تغيير واقع القطاع.
في الواقع، إنّ العملية ونتائجها الكبيرة التي فاجأت “حماس” ذاتها، بقدر ما فاجأت العالم، نتيجة ما وصفته “حماس” في وثيقتها بأنّه “انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بشكل كامل وسريع” تطلبت إعادة ترتيب العلاقات الفلسطينية الداخلية حتى يتم لجم رد الفعل الإسرائيلي سريعًا، وحتى يتم ترجمة العمل العسكري إلى منتج سياسي، وهذا كان يفترض نوع من إعادة ترتيب العلاقة بين حركتي “فتح” و”حماس”.
الحصاد السياسي للفعل العسكري
بينما أخذت “حماس” زمام المبادرة في العمل العسكري في القطاع، فإنّ القيادة الرسمية المعترف بها عالميًّا، وقانونيًّا للشعب الفلسطيني، تتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية. ولقد عانت السلطة الفلسطينية تهميش وحصار كاملين، من قبل إسرائيل، واشترك في الحصار عليها أطراف دولية عديدة، وتوقفت في السنوات الأخيرة، منذ عهد إدارة دونالد ترامب (2017-2021) غالبية المساعدات الدولية والعربية للسلطة الفلسطينية، وقامت الحكومة الإسرائيلية بمصادرة ووقف عائدات الجمارك على البضائع التي يستوردها الفلسطينيون، وهي المصدر الرئيس لتمويل عمل السلطة في الضفة وغزة. وتابع العالم إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، وهو يعلن صراحةً في بداية عهده (2021) أنّ حل القضية الفلسطينية ليس ضمن أجندته الحالية، وليس أولوية.[3]
بدا أنّ عملية “7 أكتوبر”، فرصة تاريخية، حيث يمكن استغلال الحراك والخلط اللذان أدت لهما، لأن يتحدث عبّاس، ومنظمة التحرير الفلسطينية، باسم الفلسطينيين، ويكونا نوعًا من الوساطة مع المقاومة، وأن يقودا الرد على أطروحات إمكانية إخراج فلسطين من الأجندات الإقليمية والدوليّة. وبهذا تستعيد المنظمة موقعها في المستويين، الأول دوليًّا، متحدثًا فاعلًا مقبولًا كون العالم بحاجة ماسة لوسيط مقبول وممثل للفلسطينيين، وفي المستوى الثاني، مع حركة “حماس” التي بحاجة أيضًا لوسيط ومتحدث مقبول. وربما كان يمكن للقيادة الفلسطينية أن تفرض شروطًا، وتطالب بمطالب، من الجهتين؛ الدولي- الإسرائيلي، والفصائل في غزة.
لكن القيادة الفلسطينية لم تذهب في هذا الاتجاه، ورغم رفض إدانة العملية أو رفض الوقوف صراحة ضد فصائل المقاومة، إلا أنّ المستوى الرسمي الفلسطيني، تنصل من سياسات حركة “حماس”، وعلى سبيل المثال أكد الرئيس عباس في عدة محطّات، منها حديثه مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بعد أيام من بدء الحرب، أنّ سياسات حركة حماس وأفعالها لا تمثل الشعب الفلسطيني، وإن سياسات منظمّة التحرير الفلسطينية وبرامجها وقراراتها هي التي تمثله، بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة، موقفها أنّها لن تعود على ظهر دبابة إسرائيلية إلى قطاع غزة.[4] وقال رئيس الوزراء الفلسطيني، آنذاك، محمد اشتية، “أن تعود السلطة الوطنية إلى غزة وإدارة شؤونها بدون حل سياسي للضفة الغربية، وكأن السلطة تذهب على متن طائرة أف-16 أو دبابة إسرائيلية؟ لا أقبل بهذا، ورئيسنا (محمود عباس) لا يقبله، ولا أحد منا يقبله”. مضيفًا: “أعتقد أن ما نحتاجه هو رؤية شاملة وسلمية”، وأكد أن “الضفة الغربية بحاجة إلى حل، وبعد ذلك غزة ضمن إطار حل الدولتين”.[5]
مثل هذه التصريحات من رام الله، رغم أنها ترفض التساوق مع أفكار تتعلق باستبدال “حماس” في غزة دون حل سياسي شامل، إلا أنّها لم تتضمن أي إشارة إلى تنسيق مع “حماس”، أو رغبة في موقف موحد، بل هي تشترط لتكون في الترتيبات الجديدة، بعد الحرب، أن يكون ذلك ضمن إطار سياسي لمجمل الوضع الفلسطيني. وبهذا فإنّ الموقف الأساسي وإن تم رفض الحرب، فهو يتمسك بإطار سياسي لما بعد الحرب (وهو ما يمكن رؤيته بأنّه بعد حماس أيضًا). وعبرت “فتح” عن موقفها هذا ايضًا، بوضوح أكبر، عندما قام الرئيس الفلسطيني، بتكليف محمد مصطفى ليشكل حكومة فلسطينية جديدة، في شهر مارس/آذار 2024، حينها احتجت “حماس” وأصدرت مع فصائل فلسطينية أخرى هي “الجهاد الإسلامي”، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، و”المبادرة الوطنية الفلسطينية”، بيانًا تنتقد تشكيل الحكومة “دون توافق وطني، تعزيزًا لسياسة التفرد، وتعميقًا للانقسام، في لحظة تاريخية فارقة أحوج ما يكون فيها شعبنا وقضيته الوطنية إلى التوافق والوحدة”.
جاء رد “فتح” على بيان الفصائل، كاشفًا بوضوح لموقع الحركة من سؤال التنسيق مع “حماس”، بالقول في بيان صادر عن الحركة إنّ “من تسبّب في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، وتسبّب بوقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصًا في قطاع غزة، لا يحق له إملاء الأولويات الوطنية”. واعتبرت الحركة أن “المفصول الحقيقي عن الواقع وعن الشعب الفلسطيني هو قيادة حركة (حماس) التي لم تشعر حتى هذه اللحظة بحجم الكارثة التي يعيشها شعبنا المظلوم في قطاع غزة، وفي بقية الأراضي الفلسطينية”. وأعربت فتح عن “استغرابها واستهجانها” لكلام “حماس” عن “التفرد والانقسام”. وسألت: “هل شاورت (حماس) القيادة الفلسطينية أو أي طرف وطني فلسطيني عندما اتخذت قرارها القيام بمغامرة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والتي قادت إلى نكبة أكثر فداحة وقسوة من نكبة عام 1948؟”. وواصلت: “هل شاورت (حماس) القيادة الفلسطينية وهي تفاوض، الآن، إسرائيل وتقدم لها التنازلات تلو التنازلات، وأن لا هدف لها سوى أن تتلقى قيادتها ضمانات لأمنها الشخصي، ومحاولة الاتفاق مع نتنياهو مجددًا للإبقاء على دورها الانقسامي في غزة والساحة الفلسطينية؟”.
كانت هذه المواقف دليلًا واضحًا، أنّ مسألة التقاء القيادة السياسية ذات المكانة القانونية (المنظمة والسلطة) مع حركة “حماس” والبندقية في غزة غير مطروحتين. هذا رغم أنّ إسرائيل أيضًا رفضت أي دور للسلطة وواصلت حصارها في الضفة الغربية. لكن هذا الأمر طرح سؤالًا حول دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية مستقبلًا.
الدور والمكانة
فتحت هذه الحرب سؤالًا حول من يقرر الفعل الفلسطيني، ومن هو القائد الفعلي؟ في الماضي قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، كانت فصائل منظمة التحرير هي من يملك القرار، وكانت قادرة بواسطة المنظمة أو التنسيق الفصائلي، التوصل لاستراتيجيات مشتركة. بدأ هذا الأمر بالتراجع مع الانتفاضة الأولى، عندما تأسست حركة “حماس”، ولم تكن جزء من القيادة الوطنية الموحدة، للانتفاضة التي جمعت فصائل المنظمة الأساسية. لكن بقيت “فتح” العمود الفقري للعمل الفلسطيني، بحكم موقعها في قيادة المنظمة، وقوتها على الأرض، واتضح هذا بشكل أساسي، في انتفاضة الأقصى عام 2000، فحينها قادت “فتح” بالتنسيق مع “حماس”، وباقي الفصائل المقاومة في إطار الانتفاضة عبر مجموعة قيادات أبرزهم القائد الأسير، عضو اللجنة المركز لحركة “فتح”، مروان البرغوثي، الذي كان يشغل موقع رئيس اللجنة الحركية العليا، عندما وقعت الانتفاضة، والذي دخل الاسر منذ عام 2002. وحتى أسر البرغوثي ووفاة الرئيس ياسر عرفات، عام 2004، كانت “فتح” تملك الجزء الأكبر من قرار التهدئة والتصعيد، بما يفوق حتى حركة “حماس” التي كانت شعبيتها ودورها في الشارع يتعاظمان.
حصل تدريجيًّا انقسام في الشارع، من أهم معالمه سيطرة حركة “فتح” والسلطة الفلسطينية على الوضع في الضفة الغربية، مقابل سيطرة “حماس” بالقوة على قطاع غزة، بالقوة العسكرية، منذ عام 2007، بعد أن فازت بانتخابات المجلس التشريعي عام 2006، التي جرت بدورها بعد انسحاب إسرائيل منها عام 2005. عمليًّا نشأت حالة استقطاب داخل الساحة الفلسطينية. لكن أيًّا من الفصيلين لم يعد يستطيع تقرير استراتيجية فلسطينية متكاملة، لكل الفلسطينيين.
هناك شبه اتفاق على مقولة يرددها كثير من السياسيين والمراقبين، وهي أنّه “لا انتفاضة دون “فتح” ولا هدوء دون “حماس”.[6] ويقول الكاتب هاني المصري في أحد مقالاته “يقال لا حرب من دون “حماس”، ولا انتفاضة من دون “فتح”. المقصود بهذه المقولة أنّ حركة “فتح” تمتلك حضور بشري ضخم في الشارع، وإرث تنظيمي، ومؤسسات سلطة، تجعل فكرة الانتفاضة، أي المقاومة الشعبية الشاملة، (في الضفة الغربية) دون موافقتها، وقيادتها غير ممكنة. في المقابل باتت حماس تمتلك قرار المواجهة العسكرية في قطاع غزة، والقدرة، ولو بعمليات عسكرية محدودة التأثير بإيقاع الفعل السياسي في الضفة الغربية، ولكن دون أن يكون لديها القوة التمثيلية القانونية، أو القدرة الكافية على تحديد إيقاع أداء الشارع الفلسطينية. وبالتالي، بات هناك شعور أنّ “فتح” فقدت دورها السابق، الذي كان ياسر عرفات يصفه، أو يصف دور منظمة التحرير، باعتبارها ممثلًا للشعب الفلسطيني، بمصطلح “الرقم الصعب”، لكنها لم تفقده لطرف محدد، فحماس بعيدة عن امتلاك القدرة على تحريك الشارع الفلسطيني، وحيدة، أو امتلاك صفة تمثيلية مقبولة خارجيًّا. هذا أوجد أولًا مأزق الازدواجية في الشارع الفلسطيني، بين القدرة على الفعل الشعبي والتمثيل القانوني من جهة (الذي تملكه “فتح”)، والفعل العسكري من جهة ثانية الذي تقوده “حماس” و”الجهاد”. وأوجد مشكلة فراغ في الاستراتيجية الفلسطينية، من حيث عدم وجود حركة شعبية شاملة منظمة، وهو ما اتضحت معالمه بجلاء في غياب حركة تضامن أو مقاومة سلمية في الضفة الغربية توازي الحديث في غزة بعد 7 أكتوبر، ومن حيث عدم وجود قيادة سياسية مقبولة للحديث باسم كل الفلسطينيين بما في ذلك البندقية في غزة.
في الضفة الغربية ذاتها فإنّ مجموعات مسلحة متعددة ظهرت خصوصًا في شمال الضفة الغربية، في مخيم جنين، وطولكرم، والبلدة القديمة في نابلس، بين عامي 2021- 2024، والسلطة الفلسطينية، باتت إما في موقع المشاهد للمواجهة بين المجموعات وإسرائيل (الجيش الإسرائيلي والمستوطنين)، أو في موضع المتهم بالعمل ضد هذه المجموعات.[7]
إذا كان من الطبيعي أن دور أي سلطة في العالم، هو حماية شعبها وقيادته في مواجهة أي خطر أمني، وتلبية حاجاتها المعيشية، وتمثيله سياسيًّا، فإنّ منظمة التحرير الفلسطينية، فقدت هذا الدور، وتحديدًا في سياق التصدي على الأرض للعدوان الخارجي، أو امتلاك قرار المواجهة والتهدئة، وهذا يستحضر للأذهان أنّ “من لا يقوم بدوره يفقد مكانته”. هذا ينطبق على قيادة المنظمة وحركة “فتح”، التي لم تعد تملك قدرة أو خطة لوحدة الأرض الفلسطينية، أو وحدة الفصائل الفلسطينية، أو لصد الاعتداءات الإسرائيلية اليومية، أو بدء وتهدئة المواجهة مع الاحتلال. فالمنظمة التي نادرًا ما تجتمع هيئاتها القيادية والتمثيلية (مثل المجلس الوطني الفلسطيني الذي لم ينعقد منذ عام 1991 في جلسة نظامية حقيقية سوى مرة واحدة (عام 2018))، وبالتالي باتت المنظمة تفقد تدريجيًّا تفقد دور القائد الفعلي للفعل الفلسطيني، وباتت المفاوضات مع حركة “حماس” تتجاوز حركة “فتح” و”المنظمة”.
في المقابل لا تملك حركة “حماس” قوة التمثيل القانوني، أو قرار ضبط إيقاع حركة الشارع في الضفة الغربية والقدس، وإذا كان يمكنها أن تكون سلطة أمر واقع في قطاع غزة، فإنّ القطاع وسلطتها فيه، تبقى محاصرة، مهددة، لا تلبي الاحتياجات اليومية للشعب.
بالتالي، يفتقد الفلسطينيون لسلطة فاعلة وشرعية في آن معًا، ويتحمل وزر هذا ثلاثة عناصر؛ أولها الاحتلال، وثانيها الانقسام الداخلي، والثالث، مرتبط بالانقسام وهو العقلية الصفرية، التي لا ترى ولا تقبل الآخر الوطني، أو تخاف منه.
صفرية العلاقات الداخلية مقابل البرغماتية الخارجية
إذا كانت القيادة الفلسطينية لم تبد أو تقدم أي خطط لتعبئة الصف الفلسطيني، من نوع الدعوة إلى عقد المجلس الوطني الفلسطيني، أو ترتيب اجتماع لمجمل الفصائل والقوى الفلسطينية، من داخل وخارج منظمة التحرير، وإذا كانت أوضحت (كما ظهر في بيان “فتح” أعلاه) أنّ انفراد حماس بقرار المواجهة يتبعه عدم مشاورتها في الشأن السياسي الداخلي، فإنّ هذا في واقع الأمر يعبر عن موقف رافض للتنسيق مع حركة “حماس”. ولكن موقف الأخيرة لا يبدو في جوهره مختلفًا، فحماس أيضًا لديها حساسية عالية من دور للسلطة.
هناك ما يشير إلى رؤية الطرفين للعلاقة بينهما على أنّه لعبة صفرية، بمعنى أنّ أي مكسب سياسي يحققه طرف يبدو خسارة للآخر، والعكس صحيح، كل خسارة مكسب للآخر، هذا مع استثناءات، مثل رفض منظمة التحرير الفلسطينية السماح بتمرير قرارات في الأمم المتحدة تتهم حماس بالإرهاب، وبعض اللقاءات التشاورية.
أبدت حركة “حماس” مرونة وانفتاح على مختلف الأطراف العربية والدولية، مقابل تشدد في قبول أي دور للسلطة الفلسطينية وأجهزتها في قطاع غزة، باستثناء الأمور المقدمة عادة من خدمات تقدمها وزارة الصحة الفلسطينية، أو سلطة المياه، وما إلى ذلك. ولعل مثالًا يوضح هذا الموضوع، وتحديد عملية توصيل المساعدات أثناء الحرب إلى القطاع، فحماس لم تبد معارضة، أو موقف صريح من مشروع أمريكي لإقامة ميناء جديد في قطاع غزة (رصيف بحري) لإيصال المساعدات، وقال القيادي في الحركة، محمد نزال، في لقاء مع قناة الجزيرة الفضائية، إنّ الميناء “مشروع غامض، ما يدعونا لعدم تحديد موقف نهائي إزاء هذا المشروع”، وقال إنّ الموقف يتحدد عند الإجابة عن أسئلة مثل، موقع الميناء، ومن سيديره، ومن سيستلم المساعدات، ولماذا أقيم…إلخ. هذا في الوقت الذي أبدت “حماس” توترًا شديدًا إزاء قيام السلطة الفلسطينية، وتحديدًا جهاز المخابرات الفلسطينية، بقيادة رئيسه ماجد فرج، الإشراف على إيصال مساعدات غذائية على غزة.
أعلنت حماس في مطلع إبريل/نيسان في بيان صادر عن وزارة الداخلية، “تسلل إلى منطقة شمال غزة عدة ضباط وجنود يتبعون لجهاز المخابرات العامة في رام الله، في مهمة رسمية بأوامر مباشرة من ماجد فرج، بهدف إحداث حالة من البلبلة والفوضى في صفوف الجبهة الداخلية، وبتأمين من جهاز الشاباك الإسرائيلي وجيش العدو، وذلك بعد اتفاق تم بين الطرفين في اجتماع لهم في إحدى العواصم العربية الأسبوع الماضي”. وهو ما نفته مصادر السلطة الفلسطينية (التي ينتسب آلاف العناصر للأجهزة الأمنية فيها ويعيشون في قطاع غزة منذ ما قبل الانقسام عامي 2006-2007). واتضح أنّ المقصود توصيل مساعدات غذائية إلى غزة، من عناصر عاملة أصلا في غزة.[8]
أصدرت السلطة الفلسطينية في رام الله بيانًا، قالت فيه إنّ “بيان ما يسمى بوزارة داخلية حماس حول دخول المساعدات إلى قطاع غزة أمس لا أساس له من الصحة وسنستمر في تقديم كل ما يلزم لإغاثة شعبنا”. في الواقع أنّ “حماس” في بيانها بشأن هذه الحادثة، أوضحت المبدأ الذي تعمل عبره، وهو ” أن رجال الأمن ومقاتلي الفصائل المسلحة تلقوا تعليمات بمعاملة أي قوات تدخل قطاع غزة دون تنسيق معهم على أنها “قوات احتلال”. بطبيعة الحالة تدخل مساعدات كثيرة لقطاع غزة من جهات دولية عديدة، من المستبعد أنها تنسق مع حركة “حماس”، لكن الحادثة تكشف صفرية العلاقة. فلا الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية سعت للتنسيق مع “حماس” لإيصال مساعدات القطاع في أمس حاجة لها في ظل عملية تجويع، ولا “حماس” مستعدة لإبداء أي تقبل لدور للسلطة في غزة لا يمر عبرها.
خاتمة
ليس صحيحًا أن أي طرف من الأطراف الفلسطينية، مؤهل لقيادة الشارع الفلسطيني رسميًّا وعمليًّا، وليس صحيحًا أن “حماس” على طريق قيادة الشعب الفلسطيني، على غرار ما فعلته “فتح” بعد العام 1967 وقيادتها العمل الفدائي، عندما تخلى أحمد الشقيري عن موقعه. في الوقت الحالي لا يوجد آلية لتداول أو إعادة توزيع الأدوار القيادية، أو المؤسسات الشعبية ويوجد تنظيم ضخم لحركة “فتح”، وهيئات ومنظمات تابعة لها، مقبولة دوليًّا، هذا رغم حالة الضعف التي تعيشها هذه المنظمات والهيئات في ظل أزمات داخلية فيها، وعدم تفعيلها وتجديدها، وفي ظل حصار إسرائيلي عليها.
في الوقت ذاته، فإنّ استمرار الاحتلال يعني استمرار المقاومة ويجعل ظهور “أمواج” من الحركات النضالية والهبات، على غرار هبة عام 2015-2016، أو مجموعات كتائب جنين وطولكرم ونابلس، وعملية 7 أكتوبر، أمرًا حتميًّا. هذه المقاومة الحتمية تفتقر للقيادة الفلسطينية الموحدة، أو الجبهة الائتلافية الجامعة بين الفصائل، الأمر الذي يجعل قدرات الحركة السياسة الفلسطينية على ترجمة المقاومة إلى منجز سياسي أقل.
من هنا فإنّ المهمة الأولى ربما لتغيير واقع العمل الفلسطيني باتجاه إنهاء صفرية العلاقة بين الفصائل، والاتفاق على آلية تجعل قاعدة “المقاومة تزرع والسياسة تحصد” ممكنة، مع الاتفاق على نوع المقاومة، وآلياتها، وخطاب العالم بصوت موحد، والاتفاق على أسس جديدة لنظام سياسي فلسطيني، وأسس للعمل الفلسطيني، وإصلاح مؤسسات هذا العمل. حيث إنه في المدى المنظور، لا يبدو أن الانقسام الفلسطيني مرشح للانتهاء. فحركة “حماس” باقية في قطاع غزة، حتى لو أدت الحرب لضعف قوتها العسكرية وسلطتها هناك، وفي المقابل لا يبدو أن السلطة الفلسطينية في المدى المنظور لديها تصور لتحقيق الوحدة، بحيث يكون هناك قيادة موحدة فلسطينية. قد لا يستمر هذا الوضع للأبدـ خصوصًا مع فعالية الأجيال الفلسطينية الجديدة في فلسطين والشتات، لكن التغيير لا يبدو في المدى القريب.
[1] بدأت تلك المواجهة بسبب حالة التوتر في القدس، على خلفية التحركات الإسرائيلية لمصادرة منازل من حي تاريخي فلسطيني في القدس الشرقية (الشيخ جراح)، والانتهاكات المستمرة من قبل المستوطنين للمسجد الأقصى، حيث بادرت المقاومة في قطاع غزة لهجوم صاروخي تبعه رد بقصف إسرائيلي واعتداءات على القطاع.
[2] بشأن حالة الضيق المعيشي في قطاع غزة، والتجويع الإسرائيلي، الممنهج، هناك الكثير من المصادر الدولية والعربية التي توثق هذا، منها برنامج وثائقي، بثّه التلفزيون العربي، في لوسيل، في قطر، بعنوان “حرب التجويع.. خطوط إسرائيل الحمراء في غزة”، يوم 15 مايو 2024، وتضمن توثيق لخطط التجويع على مدى نحو ربع قرن.
[3] Hesham Youssef, 10 Things to Know: Biden’s Approach to the Israeli-Palestinian Conflict, United States institute for Peace, 10 June 2021.
[4] كفاح زبون، مسؤول يؤكد ان الحل في غزة سياسي وليس امنيّاً.. واشتية يرفض المقاصة، الشرق الأوسط، 6 نوفمبر 2023.
[5] السلطة لن تعود إلى غزة على ظهر دبابة إسرائيلية، الغد (الأردنية)، 30 أكتوبر 2024.
[6] من المقالات والكتابات التي تبنت هذه المقولة:
ناصر اللحام، لا انتفاضة من دون فتح ولا هدوء من دون حماس، وكالة أنباء معاً، 16 ديسمبر 2018. وهاني المصري، لا تحملوا عرين الأسود فوق طاقتها، مركز “مسارات”، 25 أكتوبر 2022.
[7] لمزيد من المعلومات أنظر: أحمد جميل عزم، كتيبة جنين وعرين الأسود: الفدائيون الجدد، العربي الجديد، 24 أغسطس 2022.
[8] أنظر: استشهاد ضابطين من جهاز المخابرات أثناء مهمة تأمين المساعدات شمال غزة، دنيا الوطن، 1 إبريل 20024.
https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2024/04/01/1538995.html