خطوط الانسحاب وهندسة السيادة: قراءة في خرائط السيطرة بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

خطوط الانسحاب في غزة لم تُرسم كحدود جغرافية مؤقتة، بل كبنية سيادية جديدة تُعيد تعريف السيطرة في اليوم التالي للحرب

دخل قطاع غزّة مرحلة الانسحاب التدريجي للانتشار العسكري الإسرائيلي مع بدء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، وفق ما يعرف بخريطة خطوط الانسحاب التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كجزء من خطته[1]، والتي تحدد مراحل انسحاب القوات الإسرائيلية وشروطها كما ورطت في بنود  الاتفاق، غير أن تعقيدات التنفيذ تسمح بقراءتها بما يتجاوز كونها مجرد حدود جغرافية وترتيبات سكرية. ومنه تُقدم هذه الورقة قراءة لخطوط الانسحاب كبنية سياسية-سيادية جديدة، في ضوء التساؤل عن كيفية قراءتها وفق دلالاتها الاستراتيجية الأبعد من مؤشر الانسحاب، وعمّا إذا كانت تسهم في تحقيق أهداف إسرائيل المتعلقة بقضايا الحكم والسيطرة الأمنية والإنسانية داخل القطاع.

من الانسحاب الرمزي إلى إعادة تنظيم السيطرة

يمثل الخط الأصفر حدّ الانسحاب الإسرائيلي في المرحلة الأولى، الذي سمح بإعادة ترتيب الوضع لتسليم الأسرى ومنح مساحة للإغاثة، مع استمرار السيطرة على نحو 58% من مناطق ما بعد خط الانسحاب[2]. وهو رسم سياسي يُسوّق له على أنه حد للتراجع الإسرائيلي ووقف العمليات العسكرية في حين أنه واقعيًا لم يغير مظاهر السيطرة، سواء في استمرار السيطرة الجوية-النارية والهيمنة الاستخبارتية أو في بقاء اليات التحكم والمراقبة من استطلاع ومعابر وإدارة الحدود البرية والبحرية. وهو ما قد يحوّل السيادة الكاملة التي كانت خلال الحرب إلى سيطرة وظيفية في مرحلة التفاوض، بما يشبه نموذج الاحتلال غير المباشر في وصاية سيادية قد تتجاوز ما كانت عليه مرحلة الحصار الإسرائيلي على القطاع منذ 2007، في ظل استمرار الوجود العسكري البرّي للقوات.

الخط الأصفر ليس انسحابًا فعليًا بل إعادة إنتاج للهيمنة عبر سيطرة وظيفية تُدار عن بُعد

كما تُظهر حوادث إطلاق النار قرب الخط عند محاولة عبوره ومنع عودة النازحين إلى مناطقهم[3]، هشاشة الخط الأصفر عمليًا، وتحيلنا للتساؤل عمّا إذا كان هذا الخط يُقارب نموذج كافة الخطوط الحدودية والعازلة، وخطوط الفصل الإسرائيلية كالخط الأخضر مثلًا، بما يفتح الباب أمام احتمال تحوله لخط تقسيم للقطاع وليس مجرد تعبير على الانسحاب. ومن ناحية أخرى؛ يشكّل الجدل القائم حول مصير مقاتلين كتائب “القسّام” لحركة حماس المتواجيدن ضمن نطاق الخط الأصفر في رفح[4] نموذجًا لكيفية تحوّل خطوط الانسحاب إلى أدوات تفاوضية؛ إذ بدلًا من أن يكون الخط الأصفر محدِدًا جغرافيًا لنطاق الانتشار، أصبح ميدانيًا للتفاوض المشروط على الوجود السياسي والبشري للحركة والذي يُدار عبر قنوات أمنية إسرائيلية-أمريكية مع الوسطاء؛ ما يعني أن مفهوم الانسحاب إسرائيليًا لا يُقاس بالمسافة او التموضع العسكري وإنما بدرجة إخضاع الفصائل الفلسطينية لشروط السيطرة.

بينما يعد الخط الأحمر في الاتفاق خطًا متقدمًا يرتبط بالمرحلة الثانية التي تتطلب شروطًا إضافية؛ كنزع سلاح الفصائل ونشر قوة استقرار أو آلية مراقبة دولية. أي أنه خط يرتبط الانسحاب نحوه بتقديم حركة حماس لتنازلات أعقد من جهة، وبتفعيل ترتيبات أمنية ومؤسسات رقابة وإشراف خارجية من جهة أخرى. في المقابل، أعلنت حركة حماس استعدادها للتخلي عن إدارة الحكم بوصفها خطوة نحو التهدئة، في ظل تمسكها برفض نزع السلاح كشرط للتفاوض.

  • انظر خارطة خطوط الانسحاب[5]:

وعليه، يمكن القول من منظور استراتيجي بأننا أمام مشهد ينقسم القطاع وفقه إلى ثلاث مناطق سيطرة إسرائيلية؛ الأولى هي منطقة الانسحاب التي يتاح لإسرائيل أن تخضعها لسيطرتها بالتدخل العسكري إذا أعتبرت أن الشروط مُنتهكة. والثانية هي منطقة المراقبة الشاملة بالطائرات والاستطلاع والاستخبارات، وذلك بشكل غير مباشر وبطابع لا يصور بأنه عسكري. والأخيرة هي منطقة النفوذ الأمني واللوجستي والتي تتحكم فيها إسرائيل سواء عبر المعابر والمنافذ أو بأماكن سيطرتها الشاملة ما بعد خط الانسحاب، أو بالتقسيمات العسكرية التي رسمتها سابقًا خلال عامين من الحرب كالممرات والمناطق المقتطعة من الحدود بوصفها مناطق أمنية عازلة. فالخط الأصفر مثّل إعادة انتشار للقوات الإسرائيلية، لكن ضمن بنية تحتية وأمنية ومحاور جغرافية (ممرات وصول وانتشار إسرائيلية داخل القطاع) سبقت هذه المرحلة، كممر فيلادلفيا وجزء من ممر نتساريم.

بالتالي، يمكن تجاوز اعتبار الخطين؛ الأصفر والأحمر كحدود تكتيكية لما يُتيحانِه من آلية لإعادة هندسة النفوذ من خلال خلق شرائح سيادية متدرجة وهي؛ سيادة إسرائيلية فعلية من حيث الوجود البري؛ وسيادة عن بعد من حيث السيطرة على مفاصل التحكم بالقطاع؛ والوصاية والإشراف الدولي. وعليه لا يمكن اعتبار أن الخطين يمثلان خروج فعلي من أجزاء واسعة من القطاع بقدر ما هو إعادة تموضع ميداني وسيادي داخل بيئة تم بالأصل تفكيكها عمرانيًا وأمنيًّا على مدى عامين من الحرب. إضافةً إلى قابلية الانسحاب للارتداد في أي لحظة طالما أن كل خط مشروط بتحقق هدف أمني وتنازل عن الثوابت التفاوضية لدى حركة حماس.

تعقيدات نزع السلاح وفاعلية الضغط الثلاثي على الحركة

تعدّ عملية نزع السلاح من القطاع مسألةً مركبة وشديدة التعقيد، من حيث تعريف ما هو السلاح؟ ومن يمتلك سلطة نزعه والتحقق منها؟ ووفقًا لأي محددات وأدوات؟، إلى جانب وصفها هدفًا قد يتجاوز -وفقًا للتصريحات الإسرائيلية- الإجراءات التقنية وخطوة تسليم السلاح، فقد أشار مؤخرًا وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس، إلى إنّ “تفكيك قطاع غزّة عبر تدمير أنفاق حماس وتجريدها من سلاحها، هما الهدف الاستراتيجي الأهم لتحقيق النصر في غزّة”، وزعم أن60%  من أنفاق حماس لا تزال قائمة، وأوعز للجيش الإسرائيلي بأن “يضع موضوع تدمير الأنفاق كمهمة مركزية الآن في المنطقة الصفراء”[6].لذا يمكن اعتبار نزع السلاح مسألةً متعددة الأبعاد المترابطة؛ عسكريًا وسياسيًا وميدانيًا ومجتمعيًا. وتتداخل فيها عدّة عناصر رئيسية تشكّل ضغطًا على حركة حماس وتعزّز من إمكانيات التدخل ضدّها وحصارها سياسيًا ودوليًا، أبرزها:

خط الانسحاب يتحوّل من حدّ عسكري إلى أداة تفاوض تُحدّد الوجود السياسي لحماس أكثر مما تُحدّد تحركات الجيش

أولًا، الضغط الميداني المستمر: إذا إن الطبيعة الجغرافية للقطاع مع إصرار إسرائيل على تداخل شبكة الأنفاق ضمن نسيجه العمراني، سيجعلها تستمر في تنفيذ الضربات الجوية ورفع الكُلف الإنسانية على الحركة، فعلى الرغم من دخول اتفاق وقف النار حيز التنفيذ إلى أن إسرائيل تستمر في تنفيذ ضربات (خاصة في رفح وخان يونس) تعلن عنها بأنها عمليات نسف لتدمير الأنفاق. بالإضافة إلى أن خطوط الانسحاب المرحلية تتيح استمرار هذا الضغط، فالخط الأصفر لم يلغِ القدرة الإسرائيلية على الوصول السريع إلى كامل القطاع وتنفيذ ضربات انتقائية في ضوء هدف تفكيك القدرات العسكرية للفصائل، في حين يرتبط الخط الأحمر بتحقق شروط أمنية وميدانية، يمكن القول بأن تدمير الأنفاق للتأكد من نزع السلاح سيكون من ضمنها.

ثانيًا، الربط بين نزع السلاح والملف الإنساني كإعادة الإعمار: وهو ما تشير إليه التصريحات الأمريكية مؤخرًا حول عدم الإعمار في المناطق التي تسيطر عليها حركة حماس؛ ما يحوّل المساعدات إلى عملية تفاوضية سياسية تضع حركة حماس وبقية الفصائل أمام معضلات جديّة دوليًا ومحليًا؛ تجعل استمرار الحديث عن رفضهم شرط نزع السلاح عبئًا سياسيًا من جهة وقرارًا مكلفًا إنسانيًا من جهة أخرى، إذ إنّ ربط المعيشة بالتحقّق الأمني قد يضعها في مواجهة ضغط آخر داخلي من المجتمع الغزّي. وعليه يضيق كل من الضغط الداخلي وما يغذيه من ضغط خارجي هامشَ المناورة السياسية والتفاوضية-الزمنية لدى الحركة. 

ثالثًا، القوة الدولية كبُنية رقابية هجينة: تمثّل إحالة خطة انتشار القوة الدولية إلى أعضاء مجلس الأمن في نوفمبر 2025[7]، خطوةً مفصلية في مسار تدويل عملية نزع السلاح وربطها بآليات رقابة مفتوحة تتيح تدخلًا “مشروعًا” في ما يمكن تصويره على أنه خرق للاتفاق. حيث تسعى إسرائيل عبر هذه الخطوة – في ظل اشتراطها أن تكون القوة من دول توافق عليها- إلى إعادة إنتاج سيطرتها في صيغة “شرعية متعددة الأطراف” تتيح لها الاحتفاظ بأدوات التدخل من خلال المراقبة والمتابعة أو التقارير الأمنية؛ وبهذا تحاول إسرائيل أن يمثل الوجود الدولي المتوقع امتدادًا لسيادتها بوسائل أخرى وعبر قنوات دبلوماسية وأمنية، بهدف تحويل القطاع إلى بُنية رقابية هجينة تجمع بين الطابع الأُممي والهيمنة الإسرائيلية. وهو ما يحيل بنا إلى التساؤل عن مدى ما يتيحه هذا السياق السياسي لإسرائيل من قدرة على إدارة نتائج الحرب واستمرارية العمليات العسكرية الانتقائية من موقع الشريك الأمني الدولي؟ 

وفقًا لذلك، يتبيّن كيف أن نزع السلاح هو شرط معقد ومركب الأبعاد، كما يصعُب تسويته ببند واحد طالما أن المعايير الإسرائيلية في ذلك لا تزال غير محددة؛ فهي عملية غير واضحة من حيث المفاهيم والتعريفات والآليات والمراقبة والضمانات. فما هو السلاح المُراد نزعه ومن يُعرّفه؟ ومن يؤَمن التزام إسرائيل بالانسحاب في حال موافقة الحركة على تسليم ذخائر لطرف محايد مثلًا؟ ومن هي القوة النافذة دوليًا في هذا الملف؟ وما هي مهمتها؟ وما مدى استقلاليتها؟ وهل ستضع نفسها في مواجهة حركة حماس والمجتمع الغزي؟ وهل ستكون جهة مراقبة أم تعاون استخباراتي أم تنفيذ؟ وممن ستتكون؟ لا سيما مع احتمال معارضة بعض الدول العربية للمشاركة، حيث ذكر جلالة الملك الأردني، عبدالله الثاني، في مقابلة نشرتها قناة BBC البريطانية في 27 اكتوبر[8] بأن “تسيير دوريات مسلّحة وضع لا ترغب أي الدولة في التورط به”، مشيرًا إلى أن الأردن لن يرسل قوات إلى القطاع نظرًا إلى “قربه السياسي من القضية الفلسطينية”. وأن دولًا سترفض أن “يُطلب منها فرض السلام بموجب خطة ترامب لوقف إطلاق النار”، وهذا يسلط الضوء على تساؤل جلالته إن كانت مهمة قوات الأمن فرض السلام أم حفظه؟

هندسة الخطوط تحت غطاء التفاوض: المنطقة الصفراء مقابل منطقة جنوب الليطاني

تشكّل المنطقة خارج خط الانسحاب “الأصفر” في قطاع غزّة والمنطقة ما بين “الخط الأزرق” والخط/الحد الجنوبي من نهر الليطاني في لبنان[9]، المساحة التي تشير إسرائيل إلى الانسحاب منها شريطة تثبيت وقائع تفرضها الاتفاقيات التي رسمت كلٍّ من تلك الخطوط. وعلى الرغم من الفوارق الجوهرية بين الساحتين اللبنانية والغزّيّة من حيث البنية الجغرافية والسياسية، إلّا أنّ المقاربة بينهما تتيح لنا قراءة الكيفية التي توظّف بها إسرائيل هذه الخطوط كأدوات سياسية مرنة تهدف من خلالها تثبيت مكاسب ميدانية دون تحمّل كلفة إعلان الاحتلال المباشر أو النصر مكتمل الأهداف.

الفوارق البنيوية لا تلغي أن الخطوط في الحالتين تُستخدم لإدارة نزاع مستمر لا لإعلان انسحاب نهائي

فعلى الرغم من الاختلاف البنيوي العميق في مسألة الانسحاب بين المنطقتين -سواء من حيث الانتقال المرحلي ووضوح الحدّ الجغرافي، أو الحاجة إلى تدمير واسع للبنية العمرانية والحياتية للسكان، أو قابلية التنفيذ وفرض الترتيبات الأمنية، أو طبيعة آليات التحقق الدولية وتفويضها ومدى استقلاليتها، أو أدوار الفواعل المحلية الموازية، وصولًا إلى البعد القانوني والدبلوماسي على صعيد المجتمع الدولي- إلّا أنه يمكن اعتبار أن كِلا الخطّين يمثلان في جوهرهما خطوطاً لإدارة نزاع، تُبقي إسرائيل داخل دائرة الفعل العسكري والاستخباراتي، تحت غطاء تفاوضي يحظى بشرعية دولية وتفاهمات إقليمية، أكثر من كونهما مسارين نحو انسحاب نهائي. وبهذا يصبح الخطّان بمثابة أداة ضبط مزدوجة الوظيفة: فهما من جهة يخفّفان الضغط الدولي المتصاعد الناتج عن استمرار الحرب، ومن جهة أخرى يحافظان على قدرة إسرائيل على ممارسة نفوذ ميداني مرن، يسمح لها بإعادة تشكيل المعادلات الأمنية والسياسية متى ما دعت الحاجة. هذا الترتيب يمنح إسرائيل هامشًا استراتيجيًا لإدارة “نزاع قابل لإعادة التشغيل”، لا لإنهائه، ويحوّل حدود الانسحاب ذاتها إلى آليات لإنتاج السيطرة بدلًا من تقليصها.

ففي الحالة اللبنانية، وبتتبع المشهد الراهن من ضربات إسرائيلية انتقائية ومستمرة، يمكن ملاحظة ما أتاحه اتفاق نوفمبر2024 بين إسرائيل وحزب الله من قدرة إسرائيلية على إعادة تشكيل معادلة الردع مع الحزب والاستمرار في إضعافه وتفكيكه دون الاستمرار في مواجهة مفتوحة واستنزاف للقوات الإسرائيلية بحرب بريّة، مع البقاء على توجيه زخم التركيز السياسي والعسكري نحو جبهة قطاع غزّة. أما في هذه الأخيرة، يظهر الخط الأصفر بوصفه أداة ضغط تفاوضي مشروط، أتاحت لإسرائيل الانسحاب المرحلي من أقل من نصف مساحة القطاع مع الحفاظ على حقّ النفاذ العسكري فيها متى رأت أن هناك انتهاك للاتفاق، كما جرى رسم هذا الخط كمؤشر للتدرج الإسرائيلي في إعادة انتشار القوات لكن مقابل التقدم في ملف نزع السلاح وترتيبات الحكم. وعليه يبدو أن هذا ما سيحقق لإسرائيل مكسبًا سياسيًا على صعيدين؛ حيث يظهر هذا الانسحاب التزامها بالعملية التفاوضية أمام المجتمع الدولي، في حين يخلق واقعًا تقسيميًا داخل القطاع عبر الممرات ومناطق الانسحاب، والتي بدورها ستفرض على أي إدارة أخرى العمل وفق الخرائط المفروضة. 

وبذلك، يمكننا ملاحظة وجود سياسة إسرائيلية تقوم على تحويل خطوط الانسحاب إلى خطوط نفوذ مرن، بحيث يصبح كل خط بمثابة آلية لإعادة تعريف “الأمن الإسرائيلي” بوصفه مدى التحكم في المجال الحيوي لخصمها وليس مجرد حماية الحدود وتأمينها. وذلك من خلال الأدوات الاستخباراتية ومتابعة التحركات وممرات التحكم بالحركة والسيطرة الجوية داخل الخطوط. 

الانسحاب بلا سقف زمني يحوّل الخطوط إلى وجود طويل المدى مقنَّع بعبارات التفاوض المرحلي

أضف إليه، أن هذه الخطوط تمنح إسرائيل القدرة على إدارة الوقت السياسي وهندسة العملية السياسية وفق أهدافها؛ إذ افتقارها لمدة زمنية واضحة ومحددة يتيح مساحة بأن تتحول هذه الحدود من وصفها انسحاب مشروط إلى حالة وجود متوسط أو بعيد المدى نوعًا ما، طالما أنها تربط كل خطوة بمكسب تفاوضي جديد نتيجة تنازل يعد من الثوابت التفاوضية للطرف الآخر (السلاح). وبذلك تصبح خطوط الانسحاب أدوات استراتيجية تُبقي الطرفين؛ الفلسطيني واللبناني في موقع معلّق ما بين الحرب والتهدئة، وبلا أوراق ضغط قادرة على فرض جدول زمني أو حسم نهائي أو هدنة طويلة الأمد.

وفي مقابل ما سبق، تحافظ إسرائيل على درجة من الوجود المقبول في هذه المناطق على صعيد المجتمع الدولي، إذ إنّ ترسيم الخطوط وإدراجها ضمن خرائط تفاوضية متفق عليها، وكجزء من الاتفاقات أو الآليات التي ترعاها واشنطن ودول وسيطة وبتوافق أممي أو إقليمي، ينقل تعريفها من كونها خرق ميداني أو حالة احتلال إلى عنصر تفاوضي معترف به ومتوافق عليه.

وبالتالي، تمنح هذه الخطوط -بشكلها الحالي- لإسرائيل القدرة على تحييد الضغط الدولي من خلال تحويل الفعل العسكري إلى مسار تفاوضي برعاية واعتراف دولي؛ يخفض الكلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية عبر إدارة خطوط ومناطق انسحاب وتماس بدلاً من الاحتلال الشامل؛ وصولًا إلى الاستمرار في إضعاف وتفكيك خصومها بالحد من حركتهم وقدراتهم وسلطتهم.

ختامًا، تبين هذه الورقة أن إحدى أوجه قراءة خطوط الانسحاب ومناطق ما بعده هي قراءتها كأداة لإعادة ترسيم حدود النفوذ والسيادة داخل القطاع، انطلاقًا من أن إسرائيل لم تنسحب فعليًا وإنما تعيد التموضع بطريقة تخلق هندسة مرنة للسيادة، تحاول فيها توظيف عدّة أطراف خارجية (قوة دولية ومجلس سلام). وكأداة لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية والإدارية والإغاثية والحضرية أو جغرافيا الإعمار في قطاع غزّة، في ضوء ترتيبات إعادة توزيع السيادة وفق منطق هندسة اليوم التالي للحرب. وهذا يجعلنا نختم بالتساؤل عمّا إذا كان من الممكن أن تُستخدم خطوط الانسحاب الحالية بشكلها المرحليّ في التقسيم وإنتاج خطوط أو ألوان أو رموز أخرى إضافية تحمل تعبيرًا عن تحول ديموغرافي أو مناطق سيطرة دولية أو أممية أو التشغيل المدني والأمني، ومناطق لإعادة الاعمار أو للهدم بذريعة الأنفاق؟. كما هل يمكن أن تتحول خطوط الإنسحاب الملونة التي جرى ترسيمها وفقًا لمرحلة التفاوض إلى بنية مؤسسية ثابتة في قطاع غزّة؟


[1] Al Jazeera, “Map of Gaza shows how Israeli forces will withdraw under ceasefire deal”, Al-Jazeera, 9 October 2025, https://www.aljazeera.com/news/2025/10/9/map-of-gaza-shows-how-israeli-forces-will-withdraw-under-ceasefire-deal

[2] المرجع السابق

[3] See: (Al Jazeera, “Map of Gaza shows where Israeli forces are positioned under ceasefire deal”, Al Jazeera, 23 October 2025, https://www.aljazeera.com/news/2025/10/23/map-of-gaza-shows-where-israeli-forces-are-positioned-under-ceasefire-deal ) and (Mohammed Hamood Ali Al Ragawi and Betul Yilmaz, “Yellow Line: Imaginary Israeli boundary becomes deadly zone for Palestinians in Gaza”, Anadolu Agency, 20 Oct. 2025, https://www.aa.com.tr/en/middle-east/-yellow-line-imaginary-israeli-boundary-becomes-deadly-zone-for-palestinians-in-gaza/3721769).

[4] انظر: https://www.assawsana.com/article/699121

[5] انظر: https://mf.b37mrtl.ru/media/pics/2025.10/original/68e1983e4236045c677beb04.jpg

[6] الترا فلسطين، “بذريعة الأنفاق.. كاتس يوعز للجيش باستمرار عمليات الهدم والنسف في المنطقة الصفراء”، الترا فلسطين، 25 أكتوبر 2025، في: https://url-shortener.me/82KU

[7] للتفاصيل انظر: https://www.aljazeera.net/news/2025/11/4/%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%83-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%8A%D9%84-%D9%82%D9%88%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA

[8] Fergal Keane,” International troops won’t want to enforce Gaza peace, says King of Jordan”, BBC News, 27 oct 2025, https://www.bbc.com/news/articles/cge5ngz11xpo

[9] انظر الخريطة في: https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2024/11/27/unifil-lebanon-map-infographic

زر الذهاب إلى الأعلى