انعكاس الظروف الإقليمية على الشباب الأردني: قراءة تحليلية في وعي الجيل ومأزق المشاركة السياسية

في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2025، انعقدت جلسة نقاشية ضمن مشروع “جيل التحديث” الذي ينفذه معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع السفارة الهولندية، وجاءت بعنوان “انعكاس الظروف الإقليمية على الشباب في الأردن”. لم تكن الجلسة مجرد حوار عابر في سياق شبابي، بل مثّلت نافذة كاشفة لمرحلة تتداخل فيها التحوّلات الإقليمية مع الوعي الفردي والجماعي لجيل يواجه حالة من الارتباك الوجودي والسياسي في آن واحد.

كانت البداية تأكيدا على الإحباط الذي يخيّم على الشباب من تقلّص الفضاء العام، وعلى الشعور المتنامي بالابتعاد عن النقاشات الوطنية. ومع أن الهدف المعلن للمشروع يتمثل في تمكين طلبة الجامعات من المشاركة في الشأن السياسي والمجتمعي، فإن الجلسة تجاوزت الطابع التدريبي إلى مساءلة جوهر العلاقة بين الشباب والدولة، وبين الإقليم والهوية والمستقبل.

افتتحت الجلسة بعبارات حملت روح السؤال أكثر من الإجابة. لأن الموضوع ليس جديدا على الشباب، فهو يدور في عقولهم منذ عامين على الأقلّ، حيث تكرّر التساؤل حول مدى إيمانهم وقدرتهم على إحداث التغيير. في الوقت ذاته، ماهي العلاقة بين الأردن والظروف الإقليمية المحيطة، وكيف تُترجم هذه العلاقة في وعي الشباب، وفي سلوكهم اليومي، وفي طبيعة الخطابات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي. توقفت عند ظاهرة خطابات العنصرة والطائفية التي تنمو في الفضاء الرقمي. من هنا، بدأ الحوار بإعادة تعريف السؤال القديم: من نحن؟ وماذا نريد؟

المحور الأول: الشباب بين الإقليم والصدمة السياسية

استهلّت إحدى المشاركات حديثها بتوصيف دقيق لحالة العزوف الشبابي عن السياسة بوصفها ردّة فعل مزمنة على الصدمات الإقليمية المتتالية. قالت إنّ الشباب يشعرون بأنهم “كقطع الشطرنج تتحرك حيث يُراد لها أن تتحرك”، وهي عبارة تختصر إدراكا جمعيا بالعجز، نشأ بعد الربيع العربي وما تلاه من خيبات.

رأت المتحدثة أن جيل ما بعد الربيع العربي عاش مرحلة التوقّع المفرط بأن التهديدات الإقليمية ستوحد الجميع في حركة واحدة، لكن ما حدث كان العكس؛ إذ تكشّف الترهل الفكري والسياسي والإنتاجي الذي تراكم على مدى سنوات طويلة، فأنتج وعيا مشغولا بأسئلة أكثر وجودية من سياسية.

تصف المرحلة التالية بأنها مرحلة ردّات الفعل المحدودة، حين نزل الناس إلى الشوارع في وقفات رمزية، قبل أن يتراجع الحماس تدريجيا. وأرجعت ذلك إلى وعي جديد بأن الإقليم نفسه أصبح منغلقا على ظروفه الداخلية، فلا يمكن التعويل عليه كمصدر تغيير. ومن هنا، نشأت قناعة بأن التغيير لا يُصنع إلا من الداخل، وأن الشباب هم وحدهم القادرون على دفع كلفة الإصلاح. لذلك، كانت الدعوة الواضحة إلى الانخراط السياسي المسؤول، لأن ثمن الغياب عن الفعل العام هو تزايد العراقيل التي تواجه الجيل القادم.

توقفت المتحدثة أيضا عند تجربة شخصية في الانخراط النيابي، بوصفها محاولة لردّ الاعتبار لفكرة “المسؤولية الفردية”، وقالت إنّ ما تراه في الشباب العربي يؤكد أن الهموم واحدة، والمصير مشترك، وإنّ التغيير لن يأتي إلا منهم. فالإحباط الذي يسود نتيجةٌ لغياب الفعل، وإذا لم يتحرك الجيل الحالي دفاعا عن مستقبله، فلن يتحرك أحد.

وردا على سؤالحول الأثر الذي يمكن أن يحدثه الأردن في الإقليم، جاء الجواب أنّ الأثر لن يكون عسكريا، بل دبلوماسيا قائما على المواقف والمبادرات. فالأردن، برغم محدودية موارده، يمتلك رصيدا معنويا وقدرة على خلق عمل عربي مشترك حقيقي، إذا ما استعاد شبابه الثقة بفاعليته ودوره في صياغة هذا العمل.

المحور الثاني: حوار “اللا جدوى” وتكوّن الوعي السلبي

في المداخلة الثانية تحدّثت إحدى الشابات حول الشعور الذي أصبح يختزل الحالة الشبابية الراهنة، قالت إنّ كل محاولة للفاعلية في المجتمع أو الجامعة أو الحزب تصطدم بـ”كثرة الحسابات”، أي بشبكة من القيود الواقعية والسياسية والاجتماعية تجعل الفعل يبدو بلا معنى. واستعادت تجربة من إحدى جلسات المعهد قبل عامين، حين عبّر أحد الشباب الذين عايشوا الربيع العربي عن تردّده المزمن في اتخاذ موقف سياسي واضح، خوفا من التبعات. هذا التردد، كما شرحت، ورثه الجيل اللاحق بوصفه سلوكا نفسيا وجماعيا؛ وهو جيل يبقى في منطقة رمادية بين الرفض والخضوع.

من هنا، تبلورت لدى فئة واسعة من الشباب قناعة بأنّ التأثير المحلي محدود، وأنّ قدرة الأردن على إحداث أثر في النظام الدولي شبه معدومة. ومع ذلك، أكدت المتحدثة أنّ القدرة الدبلوماسية الأردنية تشكّل نموذجا بديلا للعمل والتأثير.

وقدّمت مثالا من الواقع القريب: تجربة “أسطول الصمود” الذي شارك فيه شباب من مختلف دول العالم دعما لغزة.
قالت إنّ ما يثير الإعجاب ليس القوة التنظيمية أو العدد، بل القدرة على التوحّد حول فكرة إنسانية واحدة رغم اختلاف الخلفيات. في تلك اللحظة، بدا وكأنّ العالم ما زال قادرا على استعادة المعنى الأخلاقي للعمل العام، بينما الشباب الأردني يعيش في عزلة معرفية وإعلامية؛ إذ إنّ الإعلام المحلي لم يواكب الحدث كما فعلت وسائل إعلام أخرى، حتى إنّ التونسيين عرفوا عن الأسطول أكثر مما عرف الأردنيون أنفسهم.

وانتقلت المتحدثة إلى وصف الحالة العامة قائلة: “نحن نعيش في مرحلة 90% إحباط و10% أمل”، لكنّ تلك النسبة الضئيلة من الأمل يمكن أن تتحوّل إلى وقود فعلي إذا تم الاستثمار فيها بوعي. فبعض التيارات الشبابية ما زالت تؤمن بقضايا فرعية، لا بالضرورة قضايا كبرى أو إجماع شامل، لكنها تخلق مساحات عمل مشتركة في حدود الممكن، وتقدّم نماذج صغيرة لتجديد المعنى.

في مداخلة أخرى، برزت نبرة مختلفة تميل إلى التأمل العقلاني أكثر من الغضب. تحدّث أحد الطلبة الجامعيين عن أن ما أفرزته السنتان الماضيتان ليس الإحباط فحسب، بل نمو في الإدراك والوعي. قال إنه خاض تجربة المشاركة السياسية مع أكثر من جهة، وشارك في احتجاجات مختلفة، فقط ليفهم “منظور كل فئة”. لكنه خرج من التجربة بعدم إيمان بالأحزاب، إذ اكتشف أن معظمها لا تملك مشروعا حقيقيا ولا رؤية جامعة، بل تعيد إنتاج الخطاب ذاته بوجوه مختلفة.

ومع ذلك، ظلّ المتحدث يرى أن الأمل في الواقع العربي والأردني شبه معدوم “طالما الأشخاص أنفسهم يصنعون القرار، والمشكلات نفسها تتكرر”، مشيرا إلى أن تدوير النخب يمنع أي تجديد فعلي.

المحور الثالث: جيل “Z” بين الأمل وفقدان نموذج التضحية

عند هذا الحدّ، انتقل النقاش إلى قراءة أكثر شمولا لجيل ما بعد الألفية – جيل “Z” – بوصفه المرآة التي تعكس تحولات المجتمع بأكمله. رأى أحد المشاركين أن هذا الجيل يمتلك قدرات نوعية في الفهم والتقنية والتحليل، لكنه يفتقد إلى النموذج الملهم للتضحية. فالأجيال السابقة كانت تؤمن بقضية يمكن أن تُضحّي لأجلها، أما اليوم فلا يرى الشباب هدفا واضحا يبرّر المخاطرة أو العناء.

هذا التحليل فتح الباب أمام مقارنة تاريخية؛ إذ استُحضر حلم التسعينيات الذي كان يُسمّى “الحلم العربي”، حيث كان مفهوم “الوطن العربي” قائما في الخيال الجماعي كفكرة جامعة. لكن هذا الحلم تبخّر مع الزمن، تاركا وراءه فراغا معنويا ملأته الهويات المحلية والفرعية. كما جرى التأكيد على أن الأزمة ليست فكرية فقط، بل أزمة في الأنظمة السياسية نفسها التي عجزت عن تجديد ذاتها أو عن بناء مشروع وحدوي أو تنموي مقنع.

ورغم هذه الصورة، دعا المتحدث إلى الاستفادة من الصفات المشتركة بين الشعوب العربية (اللغة، الدين، التاريخ، الجغرافيا) كركائز لإعادة صياغة الرؤية المشتركة، تماما كما فعل الاتحاد الأوروبي الذي انطلق من قاعدة التشابه لا من الاختلاف. وقال إن امتلاك رؤية واضحة يجعلنا قادرين على النظر إلى الحاضر بواقعية أكثر.

ثم انتقل إلى نقد التحول في طبيعة السردية السياسية داخل الجيل الجديد، موضحا أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا مزدوجا: فمن جهة، نجحت في إيصال القضية الفلسطينية إلى الرأي العام العالمي تحت شعار الإنسانية، لكنها في المقابل عمّقت الخوف داخل المجتمعات المحلية من المشاركة الميدانية. فبينما يتظاهر الغرب من أجل غزة، يخاف الشاب العربي من النزول إلى الشارع خوفا من التبعات الأمنية أو الاجتماعية. هذه المفارقة، كما قيل، تلخّص الفارق بين حرية التعبير كقيمة وحرية التعبير كخطر.

وتعمّق النقاش أكثر في فكرة “القيادات التاريخية”، حيث أُشير إلى أن تلك القيادات التي كانت تمتلك المرونة والقدرة على المراوغة السياسية تراجعت، فيما لم تنجح الأجيال الجديدة في إنتاج بديل لها. والنتيجة أن الفراغ القيادي تحوّل إلى فراغ في المعنى، فلم يعد هناك من يملك السردية الجامعة أو القدرة على تحريك الناس حول فكرة واحدة.

أحد المداخلين أضاف أن التجربة السياسية الممتدة لخمسين عاما “لم تُنتج عملا سياسيا متماسكا”، وأن صانع القرار نفسه يعيش في حالة فراغ، ما جعل الدولة تضطر أحيانا إلى التعامل مع القضايا بمنطق “تصفية الحسابات” بدل الحلول الاستراتيجية. وقد أثارت هذه الفكرة اعتراضا من بعض الحضور، لكنها عكست إدراكا نقديا متقدما لدى الشباب بأن الأزمة بنيوية لا شخصية.

المحور  الرابع: الهوية الوطنية بين الخوف الداخلي والتهديد الخارجي

حين وصلت الجلسة إلى هذا المفصل، كانت الأسئلة قد بلغت أقصى درجاتها حساسية: هل يشعر الشباب الأردني اليوم بتهديد يتشكل على الهوية الوطنية؟ وهل تغيّرت أولوياتهم في ضوء ما يحيط بالمنطقة من أحداث متسارعة؟

انطلقت الإجابات من زوايا متباينة، لكنها تلتقي عند قاسم مشترك هو الخوف المتبادل: خوف الدولة من الجيل الجديد، وخوف الجيل من الدولة ومن المجتمع ومن ذاته. ففي إحدى المداخلات، جرى التأكيد على أن من يشارك في العملية السياسية بات يُنظر إليه على أنه تهديد محتمل، لا فاعل وطني. هذه النظرة، كما قيل، لا تصدر عن السلطة وحدها، بل أيضا عن الأقران والزملاء. فقد أصبح الخطر الأكبر ليس الاعتقال أو الملاحقة، بل التشكيك من الأصدقاء أنفسهم، وهي ظاهرة كشفت مدى تفكك الثقة داخل البنية الاجتماعية. تحوّل الخوف من الخارج إلى خوف داخلي مركّب، يعبّر عن جهل سياسي عميق، وعن عزلة متبادلة بين من “يتحدث في السياسة” ومن يتجنبها.

ووصفت إحدى المداخلات هذا الواقع بمرارة قائلة: “صرنا نتعامل مع السياسة كأنها مهنة يومية مختصرة على فئة محددة، بينما الأصل أنها وعي وسلوك يومي”. هذه العبارة تختزل ما يمكن تسميته أزمة الإدراك: فالشباب الذين يتحدثون في السياسة في الغرف المغلقة لا يشتبكون مع المجتمع فعليا، وبالتالي لا يحدث تراكم في الوعي العام.

لكن المتحدثة نفسها رأت أن هذه الأزمة، مهما بدت مظلمة، قد تحمل في طياتها فرصا للتغيير، لأن التصادم مع الواقع يوقظ الحاجة إلى الإصلاح. فاللحظة التي يدرك فيها الشاب حجم التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي، هي اللحظة التي يبدأ فيها الوعي الحقيقي. وقالت إن المشكلة ليست في وجود سلطة تنظّم أو تحدّد، بل في سلطة تتجاوز دور الحماية إلى دور التحكم، مما يفقد المواطن إحساسه بالملكية والكرامة. وبينما “من يدير المشهد يتابع من بعيد”، على حد تعبيرها، يبقى المجتمع غارقا في الشكّ المتبادل.

تناولت الجلسة أيضا أبعاد الخطر الإقليمي والداخلي على الأردن من منظور شبابي، حيث اعتُبر ملف الضفة الغربية أخطر التحديات الراهنة، لما يمثله من تهديد مباشر للبنية الجغرافية والاجتماعية للدولة الأردنية، بخلاف بقية الملفات الإقليمية. ورأى بعض المشاركين أن الضربة الإسرائيلية على قطر جاءت كمؤشر إضافي على اقتراب الخطر من المجال الأردني، ما يستدعي ترتيب الأولويات الوطنية. في المقابل، طُرحت رؤى مغايرة من داخل الأوساط الطلابية والسياسية، تؤكد أن الخطر الحقيقي داخلي بالأساس، ويتجسد في تفكك النسيج الاجتماعي وتصاعد الهويات الفرعية التي تضعف الانتماء الوطني، إذ إن عزوف بعض المكونات عن المشاركة السياسية يفقد العملية الديمقراطية توازنها. كما تطرق النقاش إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما “تويتر”، بوصفه مساحة تُغذي الانقسامات وتعيد إنتاج الخطاب العنصري، وسط شعور متزايد بين الشباب بغياب الأمان السياسي والاجتماعي، ما يدفعهم إلى التمترس خلف العصبية العشائرية. وبرزت انتقادات حادة لأداء الدولة في إدارة الأزمات، واتهامات بأنها لم تنجح في كسب الشارع إلى صفها، إضافة إلى إشارة لافتة إلى أن الخوف من الحديث عن العشائر اليوم بات أعمق من الماضي، خصوصاً تجاه جيل “Z”، نتيجة تراكم خيبات الربيع العربي، وجائحة كورونا، وحرب غزة الأخيرة.

ختاما، تبلورت رؤية شاملة لملامح وعي شبابي جديد يتأرجح بين الخوف والأمل، ويعيد التفكير في معنى الانتماء والهوية والوطنية. فجيل ما بعد الربيع العربي وكورونا وحرب غزة لا يرفض السياسة بقدر ما يرفض أنماطها التقليدية، ويسعى إلى إعادة تعريف الوطنية على أساس مدني وأخلاقي يتجاوز الشعارات والولاءات الضيقة. الأزمة، كما خُلص إليها النقاش، ليست في انعدام الأمل بل في ضبابية الاتجاه وانقطاع الجسور بين الخطاب الرسمي والشارع. لقد تحولت الجلسة إلى نقاش واقعي يكشف عمق التحول في الوعي الأردني المعاصر، حيث أصبح السؤال عن الهوية والانتماء مدخلا لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ولإحياء المجال العام كموقع لإنتاج معنى جديد للمواطنة في زمن تتداخل فيه الخيبات الإقليمية مع طموحات الشباب في الحرية والكرامة والمشاركة.

زر الذهاب إلى الأعلى